عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:03 PM
المشاركة 5
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
شغل الكولونيل نفسه بالعناية بالديك رغم انه كان يفضل قضاء يوم الخميس في سريره. لم ينقطع المطر طوال أيام. وخلال الأسبوع انبجست نباتات أحشائه. وأمضي عدة ليال في سهر متواصل، يتعذب بصفير رئتي المريضة بالربو. ولكن أكتوبر منحه هدنة مساء يوم الجمعة. وقد استغل أصدقاء اغوستين وهم معلمو خياطة مثلما كان هو، ومتعصبون لمصارعة الديكة استغلوا الفرصة ليتفحصوا الديك. فوجدوا انه في وضع جيد.
وعاد الكولونيل إلى الغرفة عندما ذهبوا وظل وحيدا مع زوجته التي بدت منفعلة. سألته:
ـ ما رأيهم.
أنهم متحمسون. وجميعهم يدخرون المال ليراهنوا على الديك.
فقالت المرأة:
ـ لست أدري ما الذي رأوه في هذا الديك القبيح. انه يبدو لي كظاهرة غريبة، فرأسه صغير جدا بالنسبة لقائمتيه.
أجابها الكولونيل:
ـ أنهم يقولون بأنه أفضل ديك في المنطقة. ويساوي حوالي خمسين بيزو.
كان متيقنا انه بهذه الوسيلة سيبرر قراره بالاحتفاظ بالديك، الموروث عن ابنه الذي مات مطعونا قبل تسعة شهور في حلبة مصارعة الديكة، لأنه كان يوزع منشورات سرية. قالت المرأة: 'أن ما تقوله حلم يكلف غاليا. فعندما تنتهي الذرة سيكون علينا أن نغذيه بأكبادنا'. فكر الكولونيل طوال الوقت الذي كان يبحث فيه عن بنطاله القطني في صندوق الملابس، وقال:
ـ سيكون هذا لبضعة شهور فقط. فقد أصبح معروفا، بشكل مؤكد أن مصارعة للديوك ستجري في كانون الثاني (يناير) وبعد ذلك نستطيع بيعه بسعر أفضل.
كان البنطال دون كي. فمسدته المرأة فوق فتحة الموقد على صفيحتين من الحديد المحمي على الفحم.
سألته:
ـ ما هي ضرورة خروجك إلى الشارع؟
ـ البريد.
'لقد نسيت أن اليوم هو الجمعة'، علقت وهي عائدة إلى الغرفة. كان الكولونيل قد ارتدي ملابسه كاملة ما عدا البنطال. ولاحظت هي حذاءه، فقالت:
ـ هذا الحذاء للرمي. داوم على لبس الجزمة اللامعة ذات الكعب.
أحس الكولونيل بالكدر. وقال معترضا:
ـ أنها تبدو كأحذية الأيتام. وكلما لبستها أشعر وكأني هارب من مأوي للأيتام.
ـ نحن أيتام من ابننا قالت المرأة.
لقد أفحمته هذه المرة أيضا. اتجه الكولونيل إلى الميناء النهري قبل أن تصفر المراكب. كان يلبس جزمة لامعة، وبنطالا أبيض دون حزام، وقميصا دون ياقة عنق مغلقا في أعلاه بزر نحاسي. وراقب مناورة المراكب وهي تحاول الدخول إلى الميناء بينما كان يقف في متجر موسي السوري نزل المسافرون منهكين بعد ثماني ساعات لم يغيروا خلالها من وضعياتهم. لقد كانوا المسافرين أنفسهم الذين يأتون دائما: باعة متجولين، وبعض أهل القرية الذين سافروا في الأسبوع الماضي وعادوا كالمعتاد.
المركب الأخير كان مركب البريد. وقد نظر إليه الكولونيل وهو يرسو بجزع قلق. واكتشف كيس البريد على السطح، معلقا بأنابيب البخار ومغطي بقطعة قماش مغلقة. فقد شحذ حسه خمسة عشر عاما من الانتظار. كما شحذ الديك أشواقه. ومنذ اللحظة التي صعد بها موظف البريد إلى المركب، وفك الكيس وألقي به على ظهره، كان الكولونيل يراقبه بنظراته.
وتابعه عبر الشارع الموازي للميناء، حيث تمتد متاهة من المخازن والباركات التي تعج ببضائع ذات ألوان استعراضية في كل مرة كان الكولونيل يفعل هذا، وكان دوما يحس بقلق مختلف ولكنه كالرعب، باعث على الترقب المتوتر.
كان الطبيب ينتظر في مكتب البريد ليستلم الصحف. فقال له الكولونيل:
ـ زوجتي تسألك عما إذا كان أحد ألقي عليك ماء ساخنا في بيتنا.
كان الطبيب شابا جمجمته مغطاة بشعر مجعد مطلي بمادة براقة. وكان ثمة شيء لا يصدق في دقة ترتيب أسنانه. وقد أبدي اهتماما بصحة المريضة بالربو. وزوده الكولونيل بمعلومات مفصلة عن حالتها دون أن يتوقف عن مراقبة حركات موظف البريد الذي كان يفرز الرسائل مصنفا إياها كلا في كوة خاصة. وقد أغاظت الكولونيل طريقته المتثاقلة في العمل

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب