عرض مشاركة واحدة
قديم 02-16-2024, 09:11 AM
المشاركة 7
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)
أما كيف نشأت الفكرة.
فطبقا للسياسة البريطانية المتفردة في استغلال كل عقلية وكل فكرة، كان السياسيون والأدباء والشخصيات العامة مشغولون دوما بطريقة دعم استقرار البلاد في تلك المرحلة المشتعلة من بدايات القرن الثامن عشر
ومنهم أديب وروائي معروف وهو (دانييل دييفو) أحد أعلام الأدب البريطاني وصاحب الرواية الشهيرة (روبنسون كروزو).
وقد نبتت الفكرة بذهنه وهي ضرورة وضع أصول لجهاز أمني فائق تتمكن به الإمبراطورية البريطانية من جمع المعلومات وتحليلها بسرعة قياسية داخليا وخارجيا، فقام من فوره بوضع لبنة مشروعه على شكل بحث من 23 صفحة أرسل به إلى (روبرت هالي) رئيس مجلس العموم البريطاني عام 1704م.
وكانت بريطانيا في تلك الفترة تعاني الصراعات داخليا وخارجيا، وفي الوضع الداخلي المشتعل كانت الثورات وحركات التمرد تقوم في الأطراف البعيدة دون أن تبلغ القصر الملكي أخبارها بالسرعة المناسبة نظرا لصعوبة وسائل المواصلات والتواصل.
وقد أيقن (هارلي) مدى براعة وقدرات (دانييل دييفو)، ورغم أن دييفو كان قد شارك في الثورة وحركة التمرد التي قام بها (دوق مونماوث)، وتمكن من النجاة والهروب ثم تم اعتقاله بعد ذلك، إلا أن (روبرت هالي) تَمَكّن من التوسط لدى الملك بالعفو عنه، وساعده في ذلك بعض صداقات دانييل دييفو نفسه.
فكما قلنا إن السياسة البريطانية الجديدة كانت تقوم على تغليب المصلحة فوق أي عوامل، فرغم أن (دانييل دييفو) ارتكب جرما لا يغتفر في أي بلاط ملكي إلا أنه تم العفو عنه ببساطة بمجرد أن وجدوا في عقليته مجالا للفائدة العامة
وأصبح (دانييل دييفو) محط إعجاب الملك (ويليام الثالث)، وعمل مستشارا له لفترة طويلة وفيما بعد وبمجرد أن استوعب روبرت هالي مشروع دييفو قدمه إلى الملكة (آن) وأصدر معه قرارا بتولية (دانييل دييفو) مهمة تنفيذ مشروعه على الأرض ومنحه كافة التسهيلات.

وهنا تتبدى البراعة البريطانية لدى روبرت هالي رئيس مجلس النواب.
لأنه استخدم قاعدة من أهم قواعد عالم المخابرات، وهي أن أفضل من يقوم بتنفيذ مشروع ما، هو مبتكر المشروع نفسه.
ولذلك لم يكتف (هالي) بالموافقة على المشروع بل كَلّف صاحبه تنفيذه ومنحه الصلاحيات التامة لانتقاء العناصر المطلوبة وتقسيم أعمال الجهاز في طول بريطانيا وعرضها.
وخلال ثلاثة أعوام تمكن (دانييل دييفو) -رغم صعوبة وسائل التنقل -من أن يجوب إنجلترا وإسكتلندا وأطراف باريس ودنكرك وبولتون، وقام بانتقاء أصحاب المواهب والعقليات التي وجد فيها ما يبتغيه وقام بتشكيل اللبنة الأولى من شبكة عملاء جهاز المخابرات البريطاني.
ولم تقتصر براعة (دييفو)على هذا.
بل قام بتدريب سريع لشبكة عملائه بالذات فيما يخص تشفير الرسائل وانتحال الشخصيات، كما قام بنفسه بعدة عمليات اختراق عن طريق انتحال عدد من الشخصيات تتناسب مع المجتمع الذي ينوي اختراقه.
وبالطبع كانت هذه الأساليب غير مألوفة تماما لمجتمع القرن الثامن عشر، مما جعل نتائجها مبهرة.
وعقب انتهاء السنوات الثلاث أصبح لبريطانيا جهاز مخابرات مركزي في العاصمة تمتد أذرعه التخابرية في سائر أنحاء المملكة البريطانية وأصبحت المعلومات الكاملة عن أطراف المملكة والمستعمرات تصل بسرعة قياسية إلى الجهاز المركزي ليضعها أمام قيادته السياسية مع المشورة اللازمة للتصرف إزائها.
وهذا الذي أنجزه (دانييل دييفو) هو الذي رسم به طبيعة أجهزة المخابرات في العالم أجمع بعد ذلك حيث وضع الخطوط الرئيسية لتكوين أجهزة المخابرات الداخلية والخارجية
ولنا أن نتخيل مدى الفارق الرهيب الذي صنعه (دانييل دييفو) للبريطانيين في تأسيس بذرة جهاز مخابراتهم العريق في بدايات القرن الثامن عشر!
أي نعم أن التأسيس والتطوير لهذا الجهاز تم بعد ذلك بوقت طويل، إلا أن البذرة كانت في ذلك الزمن الأول واستمر الجهاز في التطور والتوسع حتى أصبح من أهم أجهزة الدولة في حقبة الثمانينات من القرن التاسع عشر
وفي بدايات القرن العشرين عام 1909م، صدرت القوانين المنظمة لعمل أجهزة الاستخبارات التي انبثقت عن الجهاز الأم وأصبحت عدة أجهزة منها ما هو خاص بالجيش ومنها ما هو خاص بالبحرية والمستعمرات ومنها ما هو خاص بالشأن الداخلي.
لذلك ليس صحيحا ما هو منتشر على الإنترنت أن جهاز المخابرات البريطاني تأسس عام 1909م بل تأسست فكرته وانتشر نشاطه قبل هذا التاريخ بزمن طويل.
أما منذ عام 1909م فقد أصبحت بريطانيا تمتلك مجموعة من أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية كان لها أعظم الأثر على الساحة الدولية.
ويكفي أن نعلم بأن جهاز المخابرات البريطاني تمكن من الحلول محل قوات الجيش الإنجليزي في بعض المستعمرات وحقق نتائج عسكرية هائلة لصالح البريطانيين في الحرب العالمية الأولى وفي شرق آسيا عن طريق استخدام سياسة التحالفات وإثارة النعرات والصراعات الداخلية والاكتفاء بتمويل الفرقاء ليحاربوا نيابة عن البريطانيين.

ومن أمثلة هذه السياسة ما هو متعلق مباشرة بالقضية الفلسطينية، حيث تمكنت مجموعة ضباط المخابرات البريطانية في الجزيرة العربية من تحويل هزيمة البريطانيين أمام العثمانيين إلى تعادل ثم نصر في العراق أثناء أحداث الحرب العالمية الأولى، فرجحوا كفة بريطانيا التي استسلم جيشها وحوصر أمام الجيش العثماني بالفعل
فإذا برجال المخابرات البريطانية (ويلسون) و(شكسبير) و(جون فيلبي)و(لورانس)، يقومون بالتواصل مع القبائل العربية ومع (الشريف حسين) أمير الحجاز وينجحون في تجنيد ودعم القبائل الموالية لهم في مواجهة القبائل الموالية للعثمانيين، ليتسببوا في إشعال ما تمت تسميته بالثورة العربية ضد الحكم العثماني وهو ما ضعضع من قوة العثمانيين في الجزيرة.
أما في الحرب العالمية الثانية فنستطيع أن نسميها بأنها الحرب التي تحكمت أجهزة المخابرات في نتائجها بأكثر مما تحكمت فيها انتصارات الجيوش على الجبهات المختلفة، وذلك بعد أن انتبهت أوربا لخطورة أجهزة المخابرات وقامت الدول الكبرى بتقليد البريطانيين فخرج للساحة الدولية في بدايات القرن العشرين أجهزة المخابرات الألمانية والسوفياتية والفرنسية.

من هذا الشرح السابق لمسألة التفوق البريطاني على نظرائه الأوربيين سيمكننا فهم كيف نجحت بريطانيا في تطوير خطة نابليون بشأن الشرق الأوسط تطويرا شاملا، بل وحل كافة المشكلات والعقبات التي واجهت نابليون فأفشلت مشروعه.

*
بريطانيا وإعادة إحياء مشروع نابليون

شرحنا سابقا كيف أن نابليون ابتكر حلا عبقريا للفصل بين مصر والشام بزرع وتوطين اليهود الأوربيين والشرقيين في مفصل الزاوية التي بينهما بغرض منع تلاقيهما مما يؤدي إلى تيسير استقرار الاحتلال الفرنسي هناك.
ولذلك بدأ في صناعة رأي عام يهودي للترويج لتلك المسألة وتحفيز يهود العالم الفقراء المضطهدين للهجرة إلى فلسطين.
وشرحنا أيضا أن نابليون واجه معوقات هائلة في التنفيذ كان أكبرها يتمثل في كيفية تحفيز اليهود الفقراء على ترك بلادهم التي استوطنوا فيها، والرحيل لفلسطين برعاية فرنسية وحمل السلاح لمحاربة العرب هناك في سبيل تكوين وطن قومي لهم.
خاصة وأن الشريعة اليهودية نفسها كانت تعارض ذلك.
فضلا على أن اليهود الفقراء أنفسهم لم يكونوا أهل نضال أو جَلَد أو يتمتعون بالحد الأدنى من الكرامة لكي تكون فكرة وطن مستقل مغرية بالنسبة لهم.
فالله عز وجل شرح لنا في القرآن كيف ضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة والاستسلام التام لأي اضطهاد أو جبروت يواجهوه من الحكومات المناهضة لهم.
وكلما زاد العصف والتنكيل بهم زادوا هم أيضا في الاستسلام، حتى أنهم يفضلون المعيشة تحت ظلم الاضطهاد على أن يقاتلوا في سبيل رفع الظلم.
وقد رأينا في قصة موسى مع فرعون كيف أن موسى عليه السلام ظهر لقيادتهم ورفع الظلم عنهم ورزقه الله القوة لهزيمة فرعون وهزيمة السحرة أمام جموع الجماهير, وبدلا من أن يتحمس اليهود لمناصرته, نشروا بينهم أن موسى عليه السلام جلب عليهم الخراب بتحدي فرعون وأن محاربته لفرعون تسببت في مزيد من التنكيل والأسى, رغم أنه فرعون نفسه كان قد قضى عشرات السنين في العصف والتنكيل ببني إسرائيل وقتل أطفالهم وسبي نسائهم أي أنه فعل بهم كل ما بيده من ظلم, ورغم هذا كانوا يرون في تحدي موسى له شؤما عليهم نظرا لطبيعتهم التي لا تطيق القتال والمواجهة حتى للدفاع عن حق الحياة!
يقول تعالى:
(قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرَ كيف تَعۡمَلُونَ)

وقد انتهى مشروع نابليون نفسه والذي كان يتكون من شقين.
الشق الأول:
شق معلن وهو التعاطف مع المسألة اليهودية والدعوة العلنية لتوطين اليهود في فلسطين وهذا ما أعلنه نابليون من خلال مؤتمر (سانهردان) ومن خلال (الورقة اليهودية)، وهذه الفكرة سمعت بها الدول الأوربية وعرفتها.
الشق الثاني:
وهو الشق السري من مشروع نابليون الإمبراطوري الطموح، والذي وجد فيه نابليون الاستراتيجية الكافية لإنشاء إمبراطورية مستقرة في الشرق واستخدام الوطن اليهودي كحارس على هذا المشروع.
فهذه الفكرة كانت في أوراق نابليون وفي أذهان قادته الكبار في الحملة الفرنسية، والتي تسربت فيما بعد لأطراف أوربية فاعلة كما سنرى
ولم تكن أوربا لتهتم بالشق الأول من مشروع نابليون إذ أن اليهود ومعاناتهم لم يكونوا يمثلون أدنى اهتمام لأي دولة أوربية بل يسعون بكل السبل لطردهم وتشريدهم.
لكن الذي يمكن أن يلفت نظر أي قوة أوربية طموحة هو الشق الثاني من الفكرة لما يحمله من خطة بالغة البراعة لفرض السيطرة على قلب العالم المتمثل في الشرق الأوسط

وقد لعب القدر دورا كبيرا في وصول الفكرة والمشروع للحكومة البريطانية وبالأسلوب الذي جعلها تتحمس له، بل وتراه ضرورة وهدف استراتيجي لمصالحهم
خاصة وأن المشروع كان يحمل تحقيقا لأحلام بريطانيا وأوربا كلها دفعة واحدة.
فالمصادفة القدرية جمعت أمرين تجمعا في وقت واحد ليصبحا دافعا قويا لبريطانيا وأوربا للتفكير في توطين اليهود في فلسطين.
وهما:
*ظهور إمارة (محمد علي) في مصر وَتَعَمْلقها في وقت قياسي
* تفجر الأزمة اليهودية وزيادتها بشكل فادح في أوربا
ولا يمكن أن نفهم الدور البريطاني والأوربي في إعادة إحياء مشروع نابليون على نطاق واسع وأكثر تفصيلا إلا بفهم هاتين النقطتين.

فالنقطة الأولى:
وهي نقطة ظهور (محمد علي) وتجربته في مصر.
فلم تكد بريطانيا تتنفس الصعداء بعد خلاصها من نابليون ومشروعه الاستعماري في الشرق الذي كان يهدد مصالحها تهديدا مباشرا.
حتى فوجئت بريطانيا بعد عدة سنوات، بتطور الحوادث في مصر بعد فشل الحملة الفرنسية ورحيلها.
فقد ظهرت شخصية الجندي الألباني الأصل (محمد علي) على مسرح الأحداث، وتمكن من أن يسد الفراغ الأمني الذي خلفته الحملة الفرنسية مما أكسبه شعبية بين رموز الثورة وقيادات المجتمع في مصر مثل السيد (عمر مكرم) نقيب الأشراف، وشيخ الأزهر وقيادات المقاومة ضد الحملة الفرنسية.
واختار العلماء والقيادات الشعبية (محمد علي) واليا على مصر تابعا للسلطنة العثمانية، وكان اختياره مجمعا عليه من السلطنة ومن الشعب المصري في تلك الفترة.
لكن نجاح (محمد علي) في امتلاك ولاية مصر لم يكن بتلك الطريقة المباشرة السهلة، لأن وثائق هذه المرحلة تكشف أن محمد علي كان داهية سياسي ومحنك.
لذلك أوحى للقيادات الشعبية في مصر بأنه منهم ولهم وأنهم إذا اختاروه فإن السلطان العثماني سَيُصَدّق على اختيارهم باعتباره اختيار الشعب والضمان للاستقرار بعد فترة الفراغ التي خلفتها الحملة الفرنسية.

إلا أن (محمد علي) مثلما كانت له خطوط مباشرة وعلنية مع القيادات الشعبية، كانت له أيضا خطوط سرية متواصلة مع النافذين في السلطنة العثمانية، والأهم كانت له خطوط اتصال بالقوى الأوربية الكبرى وعلى رأسها القنصل الفرنسي في مصر (بافاروتي)
لا سيما وأن السلطة العثمانية كانت قد ضعفت كثيرا، ونجحت الدول الأوربية في التدخل بشئونها واختراقها بسبب سياسة إغراق السلطنة بالقروض الربوية، ومصر على مدار التاريخ لم تكن بعيدة عن محط اهتمام الدول الكبرى باعتبارها عاصمة الشرق، لذلك تعرضت لمحاولات الاحتلال العسكري طويلا في الحملات الصليبية وحملة نابليون.
وعندما لا تكون الظروف مواتية للتدخل العسكري الأوربي كانت المؤامرات الخفية تلعب دورها في اللعب على مسرح الأحداث السياسية في مصر، لذلك كانت الرواية الشهيرة لتولية (محمد على) منقوصة...
فمن غير الطبيعي أن تستسلم الدول الغربية الكبرى وتغض الطرف عن الأحداث الهائلة في مصر عقب الإنجاز التاريخي للمصريين في طرد الفرنسيين!

لذلك جاءت الوثائق التي تم كشفها فيما بعد في الدول الأوربية وأفرجت عنها السلطات أوضحت لنا أن هذه الصدفة التاريخية غير واقعية ولا علاقة لها بالأحداث!
والواقعة كما رواها لنا مؤرخنا الكبير (محمد حسنين هيكل)" " أوضحت مذكرات القنصل الفرنسي بمصر في ذلك الوقت (بافاروتي) أن (محمد على) أقبل إلى مصر منتهزا الفرصة التي بدت له فاتحة ذراعيها نتيجة لعجز الخلافة العثمانية إزاء القضية المصرية فتودد للخليفة العثماني وجاء إلى مصر في الجيش القادم لها من تركيا، ومنذ اللحظة الأولى أخذ في التدبير بصبر شديد مع سائر القوى الموجودة بمصر، وهم الزعماء الشعبيون والفرنسيون والإنجليز والقيادة التركية في الأستانة.
ونجح في إظهار نفسه بالصورة المثالية مع جنوده الألبان أمام الشعب عندما تدخل لتستقر الأوضاع ويمنع مفاسد (الجنود الأرناؤد) بالقاهرة فاختاره الزعماء لقيادة مصر ونجح التودد إلى الخليفة كذلك في عدم معارضته للرغبة الشعبية...
كما تمكن ـــ وهو الأهم ـــ من استمالة القيادة الفرنسية وكسبها إلى صفه لتحقيق هدفه عن طريق رشوة القنصل الفرنسي ذي الأصل الإيطالي (بافاروتي) وكانت الرشوة عبارة عن وعد من (محمد على) لبافاروتي أن يطلق يده في بعض الآثار المصرية وتم له بالفعل ما أراد وحمل (بافاروتي) كمية مهولة من الآثار المصرية عقب رحيله من مصر وعودته إلى مسقط رأسه بإيطاليا حيث تمكن من فتح متحف كامل بتلك الآثار.
وبالطبع كان دور (بافاروتي) السياسي والدبلوماسي مؤثرا وقويا لدعم وجود (محمد على) في مصر واليا عليها من قِبــَل السلطان العثماني.

وهذا ما يتفق مع شخصية (محمد على) الذي كان سياسيا داهية -رغم كونه أميا-ويجيد اللعب على أوتار توازن المصالح إلى أقصي درجة!
لهذا نجح في كسب القوى الشعبية إلى صَفّه، وقت فوران الشعب وثورته، كذلك نجح في كسب ود (المماليك) وتحييدهم جزئيا، ونجح بمعاونة (بافاروتي) في تحييد الاعتراض الأوربي، وذلك بعد أن نجح في كسب السلطان العثماني لصفه، وعندها أصبح على سدة الحكم فعلا
وكعادة السياسيين في هذا الباب بدأ بأكل حلفائه واحدا بعد الآخر، ثم بدأ مشروع دولته الخاصة فقام باستخدام نفوذه الشعبي ليتمكن من تكوين جيش نظامي هائل من المصريين أنفسهم لا من المماليك وأسند مهمة تدريبه إلى الجنرال (سليمان الفرنساوي) الذي كان جنرالا من قادة الحملة الفرنسية ثم أسلم وبقي في مصر بعد رحيل الحملة واستعان به محمد علي لتحقيق طموحه في إنشاء جيش معاصر ومتقدم تسليحا وتدريبا، وبعد امتلاكه القوة والاستقرار فتك بالمماليك في المذبحة الشهيرة
ثم استغل هدوء الأوضاع وانطفاء جذوة المد الثوري، وألقي القبض على (عمر مكرم) الزعيم الشعبي الذي كان يمثل مركز قوة لا يستهان به، وقد استعان في ذلك بتقريب شيوخ الأزهر المعادين والمنافسين لعمر مكرم حتى يتمكن من اعتقاله!
وقضى محمد علي عدة سنوات في خدمة السلطان العثماني ومعاونته بالجيش المصري الجديد في هزيمة ثورة الوهابيين الأولى في الجزيرة وكذلك في حرب اليونان.
وعندما أحس (محمد على) أن السلطان أدرك أن قوة الجيش المصري أصبحت تعادل السلطنة المركزية وانتوى الغدر، هنا اتخذ (محمد على) قراره بالاستقلال بمصر وسوريا وضمها إليه.
ورغم أن محمد علي لم يكن يريد أكثر من الاستقلال بمصر وما تحت يدها في الجزيرة العربية وإفريقيا، فإنه لم يكتف بإعلان الاستقلال ولم يكن السلطان ليجرؤ على مهاجمته، وإنما بادر بالهجوم على سوريا وهي خطوة خطيرة تزيد من احتمالية تدخل أوربا في الصراع.
ولم تكن هذه الخطوة حماقة من (محمد علي) بل هي خطوة لازمة من ناحية ارتباط الأمن القومي بالشام في الأصل.
وأن محمد علي كان يؤمن مثل نابليون بأن حدود الأمن القومي يمتد بالبوابة الشرقية إلى سوريا.
بخلاف الأهم.
وهو أن مبادرة محمد علي إلى سوريا تكشف بوضوح أنه كان على علم – بشكل ما – بخطة نابليون وهذا أمر توقعه هيكل بسبب وجود الجنرال الفرنسي (سليمان الفرنساوي) إلى جواره وحتما أفضى إليه بمشروع نابليون باعتبار أن الفرنساوي كان من قادة الحملة الفرنسية الكبار.
لذلك بدأت حملة (محمد علي) على سوريا، ونجح الجيش المصري بقيادة (إبراهيم باشا)، في اكتساح الشام وعندما جاءت النتائج العسكرية مطمئنة ومشجعة للتفوق المصري أكمل (إبراهيم باشا) اقتحام الأراضي العثمانية وكاد يهزم جيش الخلافة في معركة فاصلة.
هنا انتبهت القوى الأوربية لما يحدث في مصر والشام وكيف أن (محمد علي) لو استمر سينجح حتما في إسقاط الخلافة العثمانية والحلول مكانها بدولة فتية وشابة تختلف تماما عن الخلافة العثمانية التي شاخت ورضخت للأوربيين.
لذلك رفع الجنرال (ولنجتون) الذي أسقط نابليون، رفع مذكرة عاجلة إلى رئيس الوزراء البريطاني (بالمرستون) يحذره من المصيبة القادمة من الشرق الأوسط.
حيث أن أوربا قضت سنوات طوال في ضعضعة أركان الخلافة العثمانية واختراقها، والسيطرة على قراراتها سياسيا وماليا عن طريق القروض السخية التي أصبحت حبلا يطوق القرارات السيادية للخلافة.
وبالتالي:
أصبحت الخلافة العثمانية هي (الرجل المريض) في أوربا والذي يترقب الأوربيون جميعا إسقاطه وتوزيع تركته بعد صراع طويل ممتد لعدة قرون.
لذلك لنا أن نتخيل رد الفعل البريطاني والأوربي وهم يجدون محمد علي في بضع سنوات أسس جيشا من الفلاحين المصريين -لا من المماليك-ودعمه بأحدث التدريبات وأصبح على قدم المساواة مع الجيوش الأوربية
كما أسس محمد علي أسطولا ضخما يناهز أسطول الخلافة وبلغ عدد الجنود في الجيش مائة ألف جندي وضابط، ثم اقتحم بهم محمد علي جولات حربية هائلة أكسبت الجيش حساسية المعارك في حروب الجزيرة العربية ثم حرب اليونان ثم مشاركة الأورطة المصرية في المكسيك دعما لحلفاء الخليفة العثماني.
وحتى ذلك الوقت لم يكن محمد علي يمثل تهديدا للطموح الأوربي.
لكن بمجرد أن تفجرت الأزمة الكبرى بين (محمد علي) والسلطان العثماني عام 1938م، وقرر حينها محمد علي أن ينقض على سوريا لضمها لمصر ويؤسس لإمارة مستقلة.
هنا قام الجنرال (ولنجتون) بتقديم مذكرته التحذيرية لا سيما وأن نتائج المعارك في الشام كانت نصرا ساحقا للجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا، وزاد الطين بلة أن الأسطول العثماني الذي أرسله السلطان لمواجهة أسطول محمد علي، انهزم أمامه ثم قرر قائد الأسطول أن يراهن على الجواد الرابح فانضم بقوات الأسطول العثماني البالغ عددها عشرون ألف بحار إلى الأسطول المصري ليصبح الجيش المصري قوة مرعبة لأوربا.
ودعا الجنرال (ولنجتون) رياسة الوزراء البريطانية لسرعة التصرف وعقد تحالف أوربي قوي لمواجهة (الباشا) الذي يظن أنه لا يُقهر – على حد تعبيره-وإعادته إلى الخضوع والطاعة للسلطان.

ولم يكن بالمرستون بحاجة لأكثر من هذه المذكرة وتفاصيلها المرعبة كي تتناسى الدول الأوربية خلافاتها وتشكل تحالفا من بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا لفرض حصار بحري صارم على الأسطول المصري في البحر المتوسط.
وكان سبب الرعب الأوربي في أن محمد علي سيقوض جهود الأوربيين التي بذلوها لإخضاع العثمانيين، فضلا على أن اقتحام (محمد علي) للشام قابلته حركة تحررية مُرَحِبة من أهل الشام بالشكل الذي أعاد لأذهان الأوربيين عقدتهم الأبدية من اتحاد هذين القطرين والذي سبق أن أفشل كافة الحملات الصليبية من قبل.
وبالفعل نجح الأسطول الأوربي المتحالف في ضرب خطوط مواصلات محمد علي وأعلن الأوربيون استجابتهم لاستغاثة السلطان العثماني الضعيف بعد أن وقف (محمد علي) على بعد كيلومترات من عاصمة الخلافة.
لتنتهي المعركة بنتيجة أشبه بالتعادل عندما أجبرت الدول الأوربية (محمد علي) على أن يخضع لصلح (كوتاهية) عام 1840م في مقابل احتفاظه بمصر كولاية له ولأبنائه على أن يتم تقليص جيشه لأربعين ألف جندي فقط وتظل التبعية المصرية للسلطان العثماني إسما.
وهنا انتهت خطورة (محمد علي) المباشرة على السلطنة وعلى الشام بشكل مؤقت، وعاد السلطان العثماني لسيطرته على الشام بفضل دعم حلفائه الأوربيين أعداء الأمس.
ولم تكن سيطرة السلطان العثماني على الشام من جديد بالسيطرة الفعلية، نظرا لأن الجماهير الحاشدة شاهدت ما حدث وتابعت كيف أن السلطان استعان بأعداء الأمة في سبيل إنقاذ نفسه.
فضلا على النقطة الأكثر خطورة.
وهي أن النفوذ الفعلي في الشام أصبح للدول الأوربية بعد أن كان لقواتهم الفضل في هزيمة محمد علي، وبالتالي أصبح السلطان العثماني على استعداد كامل لسماع مطالب الأوربيين والتفاعل معها، خاصة وأن الأوربيين لم يجعلوا أمامه فرصة لذلك عندما تمكنوا من رشوة وتجنيد معظم رجال البلاط العثماني وأصحاب المشورة فيه.
فهذه هي النقطة الأولى القدرية التي دفعت بريطانيا بضرورة البحث عن حل جذري من صداع اتصال مصر بالشام
وحماسة بريطانيا ورعايتها للمشروع كانت لافتة لنظر مؤسسي الصهيونية الذين تكونوا فيما بعد فسجلوا في مذكراتهم أن الحماسة البريطانية للمشروع كانت غريبة وتفوق المتوقع.
ومنهم (ناحوم سوكولوف) رفيق درب (تيودور هيرتزل) الذي تولى رياسة الحركة الصهيونية، فقال ناحوم سوكولوف في مذكراته أن الحماس البريطاني للمشروع يرتكز أساسا على طبيعة السياسة الإنجليزية في الشرق الأدنى.
بمعنى أن بريطانيا أمسكت بتلابيب المشروع الصهيوني في فلسطين بالذات، نظرا لأن مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأقصى والأدنى أصبحت رهينة بوضع نقطة فاصلة بين مصر والشام بعد ضرب تجربة محمد علي وَحَصْره داخل مصر، واستخدام صحراء سيناء كسدادة فلين تمنع تعميرها واتصالها بالشام إلى الأبد