عرض مشاركة واحدة
قديم 02-09-2016, 03:08 PM
المشاركة 29
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


اما الميدان الاخر، والذي كنت اتعرض فيه للسعات النحل، فهو المنطقة الواقعة امام الخلايا مباشرة، وكنا نتواجد فيها بكثرة اثناء الحرب الشرسة التي كان والدي يكلفنا بها، نحن الأبناء وأحيانا كثيرة جيش من أبناء الجيران، وهي حرب للدفاع عن النحل نفسه، وكانت تجري غالبا في الميدان امام خلايا النحل وبجوارها وفي المحيط المباشر لبيوت النحل، او في أي مكان يمكن ان نعثر فيه على عدو النحل الأول (الدبابير)، الاشرس، والاشد فتكا من بين أعداء النحل الكثر...

نعم، الدبايير وما أدراك ما الدبابير...فهي كائنات تشبه النحلات في شكلها، لكنها ليست كالنحلات في نفعها ولا اظن ان لها دور سوى قتل النحل... فهي حشرات متوحشة وقاتلة ويكفي ان طعامها الأساسي هو أجساد نحلات العسل، إذا ما توفرت ولا اظنها تأكل شيئا اخر...وهي تفوق في حجمها حجم النحلة، ربما بثلاثة او أربعة او خمسة اضعاف...

وهي جميلة بألوانها الأحمر الغامق الذي يلون رأسها والجزء الامامي من جسدها، والاصفر الفاقع ويلون بطنها والجزء الخلفي من جسدها، والأسود والذي يلتف على الجزء الخلفي من جسدها كأشرطة او خطوط دائرية رفيعة، كما يلون الأسود فكيها الفتاكة وقرون الاستشعار... فتجعلها تلك الألوان مجتمعة كائن غاية في الجمال لكن ذلك لا يقلل من قدرتها على الفتك والقتل...وهي كائنات شرسة في طبعها وسلوكها، مسلطة على النحل كواحدة من أشرس اعداءه...

واعداء النحل كثر، وامراضه ايضا، وهي تعادل في عددها او ربما تفوق ما يصيب الانسان من امراض...فالنحل يصاب من بين امراض كثيرة بالزكام، والرشح، والكساح، والحضنة الأوروبية، والحضنة الامريكية، وهذه اشد فتكا من الأوروبية...وإذا ما وقعت العدوى بالحضنة الامريكية في منحل صار من الواجب حرق المنحل كاملا عن بكرة ابيه، ودفن المخلفات تحت التراب والبدء من جديد من نقطة الصفر...

ومن اعداءها طائر جميل في الوانه المزركشة وهو طائر السنونو، والذي يصطادها من الجو وهي ذاهبة او عائدة من مراعيها...

ومن اعدائها الحرذون وهو من الزواحف، والافعي، ودودة الفاروة، وهذه بحجم القملة لكنها تسير بشكل منحرف، وعلى جنب، وهو الامر الذي دفع الناس للاعتقاد بأنها مصنوعة في المختبر، ومطورة جينيا بفعل فاعل، خصيصا لتؤدي مهمة قتل النحل في المنطقة بأسرها، وهي اذا ما هاجمت منحل لا تحتاج الا الي ليلة واحدة لتقتل كل ما فيه من النحل مهما كان عدده...وقد تعرض والدي بسبب تلك الافة اللعينة لخسارة لا تعوض في احد السنين...حيث تعرض منحله في العام 1982 لهجوم كاسح من هذه الدودة المشوهة، والقاتلة، المميتة، وكان المنحل يحتوي وقت الهجوم على 400 خليه...أي حوالي 400 مليون نحلة تقريبا...وما هي الا ليلة وضحاها حتى مات النحل كله بل لنقل قتل كله بصورة بشعة، ولم يبق في الخلايا الا باقيا الجثث ضحايا الإبادة الجماعية، واقراس شمع العسل الخالية من أي نبض حياة...وان بقي فيها رحيق العسل شاهدا على ما جرى ...وكأنه يقول كان هنا نحل...

ومن أعداء النحلة ايضا العنكبوت الأبيض الذي يتربص بها في قلب وردة نبتة الفاقوع البيضاء، وكأنه جزء من الزهرة، لكنه يكون في وضيعة استعداد وسكون مطبق كسكون اهل الكهف، مستلقيا فيها على ظهره، كامنا لتلك النحلات المسكينة الساعية الي الرحيق...وبمجرد ان تحط النحلة لشفط الرحيق على زهرة الفاقوع الكمين يتلقفها ذلك المخلوق بين مخالبه، ويمسك بها بعنف، وما يلبث ان يلتهمها بشراسة...

لكن الدبور يظل العدو التاريخي ورقم واحد للنحل...فهو مدرع، وشرس، ومحمول جوا... ويتكاثر بأعداد هائلة تعادل او تفوق اعداد النحل...ولا يتوانى عن مهاجمة النحل في كل وقت وكل مكان فيمسك بالنحلة ويفترسها ويتغذى على جسدها...

ولذلك كنا نحاول، في تلك الحرب التي تظل دائرة ما دامت الدبابير قد خرجت من جحورها الي حين اختفائها المؤقت خلال أشهر البيات الشتوي، كنا نحاول فيها قتل أكبر عدد من الدبابير التي تهاجم خلايا العسل، وكنا نقتلها باستخدام لوح خشبي عريض ينتهي بمقبض رفيع، حتى يتمكن المدافع عن النحل الإمساك به، وضرب كل دبور يطير امامه بهدف قتله...

وكنا نتابعها وهي تترصد وتلاحق النحلات في الموقع امام الخلايا او خلفها او عند حوض الماء الذي تشرب منه النحلات، او على اغصان الأشجار، والازهار، ونحاول اقتناصها بضربها باللوح الخشبي... وكانت تلك المهمة أسهل وتتكلل بنجاح أكبر إذا ما كان الدبور المعتدي يطير بتثاقل حين يكون قد اصطاد فريسته النحلة المسكينة...وكنا كثيرا ما نتبع الضربة الاولى الصاعقة والتي تسقط الدبور على الارض، نتبعها بخبطة من القدم نسحق فيها رأسه لكي نحرمه من اي امل في النجاة والعودة لممارسة القتل...وهو اجراء مشابه لما كنا نقوم به حينما يقتل احدهم أفعى...حيث يتردد في الحكايات الشعبية اسطورة مخيفة وهي ان الأفعى لا تموت الا اذا ما سحق راسها...وأنها تعود لتنموا من جديد اذا تم تجاهل هذه الوصية، وحتى وان لم تنموا فهي تصبح اشد فتكا، واكثر حذرا وسمية ...وتسمى في تلك الحكايات حية زعرة في إشارة الي قصر حجمها، وحقدها المكتسب، وقدرتها الإضافية على القتل والاختفاء والهرب ...

وأحيانا كثيرة كانت تلك الحشرات المفترسة تهاجم فتحات الخلية مباشرة...وصحيح ان النحلات المكلفة بالحراسة والدفاع عن الخلية كانت تستميت في دفاعها، وتبذل اقصى جهدها في سبيل منع الدبور المهاجم من الوصول الى الخلية وتراها تقاتل بجهد جماعي، لكن الدبور الأقوى والاضخم كان ينجح في معظم الاوقات في الإمساك بأحدها...وغالبا ما كان يمسكها من رأسها ليطير بها وهو يحملها في فكيه، او رجليه، ثم يحط بها على غصن شجرة قريب، ويبدأ بتقطيع اوصالها مستخدما فكيه القوية...وما يلبث ان يلتهمها بشراسة وعنف...وما ان ينتهي حتى يطير من جديد ويبدأ البحث عن ضحية أخرى... وتلك الحرب عدوانية تشنها الدبابير على نحلات العسل منذ بدء التاريخ...ولا اظن انها ستنتهي الا بانقراض احدى الطرفين...

اما مهمتنا فقد كانت حرب شبه مقدسة بالنسبة لوالدي ولنا...لأننا كنا ندافع فيها عن كائن مقدس والشاهد على ذلك، ان سورة كاملة من سور القران الكريم خصصت له...وهذا الكائن مصدر خير ورزق لنا وللناس كافة...وبرحيقه كنا نتعذى ونتعالج من شتى الامراض...ولكن ذلك ليس كل شيء فكل ما يرتبط بالنحل او ينتجه النحل مفيد وفيه نفع وشفاء من نوع ماء للإنسان...

ففي غياب الحلويات المعروفة اليوم او لنقل ندرتها في تلك الأيام كان (الخبيصة) وهي حلويات مصنوعة من شراب العسل المحلول بالماء، والذي يغلى على نار هادئة، ثم يضاف اليه النشا...فنحصل في النهاية على طعام وحلويات لذيذة ومفيدة كانت واحدة من منتجات العسل...واظنها من الذ الحلويات وأكثرها فائدة، واقلها ضررا على الاسنان وصحة الانسان، والتي كنا نتناولها غالبا في موسم قطاف العسل...

كذلك كان والدي يصنع من شمع النحل كريمات يعالج الجروح واصابات الجسم كافة...
وأحيانا كان يخصص نوع صافي من العسل، وهو الشهد الأبيض، لعلاج امراض العيون، حيث كان يقطف هذا العسل بأسلوب خاص وبدون الطقوس المعهودة والتي يستخدم فهيا عادة الدخان لإبعاد النحل عن قرص العسل، ليقوم عند العلاج على غرس المرود، وهي عصا المكحلة الخشبية المعروفة، في ذلك العسل الصافي، ويضع القليل منه في العين المريضة فتشفى بأذن الله...

فالعسل المصفى الخالي من الرطوبة والسكر الأبيض والشوائب، والمتناسق في مكوناته الأساسية، والمأخوذ من اقراص العسل المختومة تحديدا والذي لا يختلط بالماء يعتبر أفضل مضاد حيوي عرفته الإنسانية على مدى التاريخ...

حتى ان الصمغ الذي يقفل النحل فيه الفتحات من بين استخدامات أخرى كثيرة...تبين الان ان له استخدامات علاجية وطبية عديدة وعجيبة...فهو مثلا قادر على إزالة الزيادات اللحمية (التواليل) التي تظهر على الجسد من جذورها فلا تعود مرة أخرى إذا ما عولجت به بصورة سليمة...واظن ان الناس لم تدرك حتى الان قيمة هذه المادية واسمها العلمي (البروبولس) ودليل ذلك ان مملكة النحل تقوم إذا ما دخل جسم غريب او كائن عضوي الي داخل الخلية، تقوم على تغليف ذلك الجسم العضوي بهذه المادة فلا يفسد ذلك الجسم ابدا ما دامت الخلية موجودة...وكأن النحل خبير في عمليات التحنيط...

اما الغذاء الملكي، فحدث ولا حرج، ففي هذا المنتج الاعجازي عجائب وفوائد جمة ومذهلة... فقد اكتشف العلماء حديثا بأن هذا المكون يشتمل على 183 نوع فيتامين...وحتى الان هناك نسبة من تركيبته الكلية تعادل 3% غير معروفة في طبيعتها، ولم يتم اكتشاف تركيبتها بعد...وهو يعالج الضعف الجنسي والعقم والامراض المتعلقة بجهاز المناعة، لكن الأهم من ذلك كله، ويعتقد بعض النحالين ان الغذاء الملكي يطيل العمر...لان ملكة النحل التي لا تتغذى طوال حياتها الا على الغذاء الملكي والذي تنتجه غدد صماء في رأس النحلة الشغالة...تعيش لمدة لا تقل عن عشرة أعوام، تحكم فيها وتدير شؤون الخلية وتنجب ملايين النحلات...بينما عمر النحلة الشغالة والتي تتغذى على رحيق العسل لا يتجاوز الخمسون يوما...وهي ان حان موعدها وانتهى عمرها المحدود تموت ولو كانت في منتصف مهمة لجني العسل...

ولا ننسى بأن سم النحلة هو علاج لأمراض الروماتزم...ولذلك كان بعض الذين يعانون من ذلك المرض يأتون الينا ليأخذوا معهم عدد من النحلات...كان والدي يضعها لهم في زجاجة فيجعل المريض تلك النحلات تلسعه على مدار جلسات في عدة ايام...وربما من هنا اكتسب سم النحلة شهرته كبلسم...وقد أعلن العلماء في استراليا حديثا بان العلاج الوحيد المتوفر حتى الان لمرض العصر الخبيث السرطان جاء من سم النحل...

ربما آلمتني النحلات في لسعاتها واتعبتني في الدفاع عنها...لكنها حتما اسعدتني بمنتجاتها العسلية، واذهلتني في كل صغيرة وكبيرة تمت لها بصلة...وزلزلت كياني بقدراتها، ونظامها، واسرارها التي يطول الحديث عنها ويطول...فهي مخلوق اعجازي، عجائبي بكل المقاييس...يذهل ويزلزل ويؤشر الي عظمة الخالق سبحانه وتعالى...

وكثيرا ما كان والدي يوسع حربه المقدسة تلك ضد عدو النحل الاول الي الميادين البعيدة والمحيطة، ولا يكتفي بمحاربتها من امام الخلايا ومنازل النحل...فقد كان يحاول شن حرب استباقية وقائية عارمة لا تبقي ولا تذر وكانه مكلف بمهمة الهية...

ولذلك كان يحارب الدبابير أعداء النحل في كل مكان يمكن الوصول اليه، وعلى كل الأصعدة حتى انه كان يلاحقها في جحورها في البراري البعيدة والقصية... وكان يوظف لهذه الغاية جيشا من المتحمسين ومحبي المخاطرة والمغامرة للقيام بالمهمة... وكان يمنح كل من يقتل خلية دبابير بالحرق او بالسم كمية من محددة من العسل، وكان يمنح نصف تلك الكمية لمن يقوم بالأخبار فقط عن مكان وجود وكر الدبابير...ليقوم هو بمهمة ابادتها وغالبا ما كان يتم ذلك بالسم او بالحرق اثناء ساعات الليل وحينما تعود كافة الدبابير الى وكرها...فهي مثلها مثل النحلات تنتشر في النهار وتكمن في الليل الذي جعله الله سبات للإنسان وكأن هذه الكائنات تشترك مع الانسان في حاجتها الي النوم والراحة لتجدد طاقتها.. وتنطلق من جديد مع بزوغ اشعة شمس الصباح الباكر...

وأحيانا أخرى كان يعلن على الملاء ان من يأتيه براس او جثة 100 دبور فله جائزة مالية...وكان يندفع لهذه المهمة بحماس طلاب المدارس ولكنها لم تقتصر عليهم...فيقتلون الالاف المؤلفة من الدبابير طمعا بالمردود المادي...

ولقد نجح والدي ايما نجاح في حربه المقدسة تلك، واظنه كاد يقضى على عدو النحل التاريخي في منطقته الجغرافية، فقد اصحبت في عهده قليلة ونادرة...لكنني وفي زيارة خاطفة منذ أيام لما تبقى من خلايا، صار يشرف عليها اخي الثاني في الترتيب بعد وفاة والدي، وجدت الساحة امام النحلات تعج بالدبابير...وبدى لي ان عددها أكبر من عدد النحلات...واظن انها ستقضى على ما تبقى من الخلايا في ذلك الموقع زمن قصير...

المهم انني لطالما تعرضت في ذلك الميدان والذي تسكن فيه النحلات، واثناء مشاركتي شبه الدائمة والمستمرة في تلك الحرب المقدسة ضد الدبابير الى لسعات النحل، حتى انني لا اعرف عدد المرات التي تعرضت فيها الى لسع النحل، وهي حتما تتجاوز مئات المرات...وقد أصبحت لدي مع مرور الايام مناعة ضد سم النحلات والمها، فلم اعد اكترث او اهتم ان لسعتني واحدة او اثنتين...فقط جل ما أقوم هو فرك مكان اللسعة...حتى ولو كانت في مناطق حساسة مثل الانف، والعين، والاذن ...وأنسى الامر وكأنه لم يكن...


يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::