عرض مشاركة واحدة
قديم 02-04-2016, 02:16 PM
المشاركة 25
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:

والحمد لله انه كان لدينا في ذلك الزمن حيوانات اليفه اسمها القطط...فلولا القطط لربما انتصرت الافاعي والعقارب في حربها الوجودية علينا نحن البشر...ولولاها لاحتلت الافاعي والعقارب ارضنا وبيوتنا في الريف الفلسطيني وطردتنا منها معلنة انتصارها الكاسح والمدوي على هذه الشريحة من بني الانسان ....

واذكر ان والدي كان حريصا على تربية القطط تحديدا، ولو انه كان يربي الكلاب أيضا على نطاق محدود...والكلاب كانت تقتنى بهدف الحراسة والتحذير من المخاطر خاصة في ساعات الليل المعتمة...او للحماية من الحيوانات المفترسة في الأراضي البعيدة عن القرية، وكانت تعيش في بيوتها الخاصة، او تربط بأحكام في زاوية من زوايا الساحة الأمامية للمنزل ...اما القطط فهي شريك دائم لنا على موائد الطعام ويسمح لها بالوصول الي اي نقطة تشاء، وكانت كثيرا ما تشاركنا الفراش اثناء النوم...

وكأن والدي كان يدرب تلك القطط على القتل لتزداد شراسة على شراستها الوراثية الطبيعية...طبعا ونحن هنا نتحدث عن قتل الافاعي والعقارب تحديدا، وكان ذلك التدريب يتم من خلال القاء حبل امامها يجره المدرب فيتلوى الحبل مثل الافعى فينقض القط عليه... ويظل هذا التدريب يتكرر حتى يصبح القط جاهزا للقتال...وربما ان القطط لا تحتاج الي التدريب فهي تقتل بدافع غريزي....

وكان والدي يختار من القطط الأصناف الذكية الشرسة التي تستطيع ممارسة القتل لهذه الزواحف الغازية دون هوادة وبمهارة عالية، وكان يتخلى عن الضعيفة او المسالمة منها او يتجنب اقتناءها اصلا، وهي الجبانة المسالمة والتي لا تتقن القتل...وهذه الحيوانات رغم انها اليفة تقوم بعمل استثنائي بهذا الخصوص، وتنفذ المهمات بإتقان شديد، ومهنية فائقة...وهي تسهر الليالي لحماية اهل البيت بينما هم كما يقال غارقين في اودية من النوم العميق...ولطالما كنا نصحوا من النوم فنجد ان القط قد قتل عقربا او افعى من مكان قريب...

وهي، أي القطط، اول من يشعر باقتراب الخطر، او وجوده...وهي اكثر ما تكون يقظة والناس نيام...وكأنها الاقدر على التقاط البث اللاسلكي من تلك الكائنات...او سماع حركتها ولو كانت خفيفة، وربما تلعب حاسة الشم دورا في ذلك، حيث يقفز القط متحفزا باتجاه الخطر الداهم بمجرد اقترابه...ويحدق بعينيه اللامعة بألوانها السحرية المتعددة لتحديد طبيعته ومكانه وحجمه...ويبدو وكأنه يرسم استراتيجية للقتال ويضع خطة للهجوم...فقتل افعى سامة او عقرب بنفس الخطورة ليس امرا هينا او لعبة يمكن له ان يتسلى بها، بل يأخذها القط على محمل الجد...والامر يتطلب حتما استراتيجية وتكتيك وخطة هجوم محكمة...والا خسر المعركة واصبح هو الضحية بدلا من ان يكون الصياد...

وما ان يشاهد القط الافعى مثلا حتى يجلس على مؤخرته ويضع يده على الجزء الامامي من رأسه يحمي بها انفه وفمه، وكأنها نقاط ضعف لديه إذا تمكن الافعى منها... فتحول القط من فارس الي ضحية ومن قاتل الي مقتول...ويبدأ القط من فوره بحصار المعتدي ويحاول شل حركته...يهاجم أحيانا، وأحيانا أخرى يجلس على مؤخرته...لكنه يظل يقظا، مستعدا، مستنفرا، متحفزا، منتظرا الفرصة المناسبة بصبر وحنكة لينقض على فريسته بشكل نهائي وبضربة قاضية...ويظل على تلك الحالة حتى ينهكه، وغالبا ما تنتصر القطط في حربها على تلك الكائنات السامة القاتلة...وحينما تنتصر تأخذ الجثة غنيمة وتجعلها وليمة دسمة لها...

ولطالما عجبت وما أزال أعجب من قدرة هذه الحيوانات الاليفة في طباعها، والجميلة في منظرها وألوانها السحرية، والضعيفة في بنيتها، على قتل تلك الكائنات السامة...والعجيب انها تستطيع عمل ذلك رغم انها لا تمتلك سلاحا سوى مخالب يديها في مقابل تلك السموم الفتاكة وادواتها المميتة...فهي حتما حرب غير متكافئة...لكنها لطالما حسمت لصالح القطط...

والقطط شجاعة ومقدامة ترمي بنفسها دون تردد في احضان الخطر، تقاتل بذكاء وصمت مطبق ولا تتراجع عن مهمتها ولو أدى ذلك الي موتها... فهي اشبه بالقوات الخاصة، تضحي بنفسها اذا لزم الامر لدرء الخطر ....بينما الكلاب ظاهرة صوتية وتكتفي بلعب دور حراس الأمن في معظم الاوقات ويرتفع عواءها كاداة تحذير، رغم ان وفائها و ولاءها يدفعها احيانا لتقاتل بشراسة مميتة خاصة اذا جاء الخطر من حيوانات مفترسة وأخطرها في فلسطين في تلك السنين كان الضبع، وهذا الكائن يمارس طقوس عجيبة غريبة قبل ان يقتل فريسته....وكان في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مصدرا رئيسيا للخوف والرعب خاصة في ساعات الليل وفي البراري الفلسطينية...اما هذه الايام فالبر الفلسطيني يعج بالخنازير البرية المتوحشة وهي لم تات الي برنا الفلسطيني لوحدها، وانما كان ذلك بفعل فاعل وقد جاء بها الجراد على راي الدكتور عبد اللطيف عقل، وهي احد ادوات اسقاط الارض، وحرمان اهلها من الوصول اليها، وهي خطة جهنمية خبيثة اظنها تنجح الي حد بعيد...حيث صار الوصول الي اي مكان خارج حدود المدن والقرى مغامرة، ليس ذلك فقط وانما اصبحت هذه الحيوانات الكريهة احد اسباب حوادث الطرق المرعبة ...

والضبع كان موجودا في الريف الفلسطيني في تلك الايام حتما، فقد كان والدي يمارس طقوس تسمى ( اللجام) لحماية الحيوانات الأليفة اذا ما فقدت، او تركت في البر لغايات الرعي، وتتمثل تلك الطقوس في قراءة بعض السور القرانية القصيرة وأظنها الفاتحة، والإخلاص، والمعوذتين، وبداية سورة التكوير الي الآية الخامسة والتي تنتهي ب ( واذا الوحوش حشرت ) وكان اثناء القراءة يثني موسا ليقفله تماماً مع انتهاء القراءة، والصحيح انني كنت اعجب من قدرة تلك الطقوس على حماية الحيوانات من الوحوش وأتوقع نهاية مأساوية لها ، ولكن في كل مرة كانت تعود تلك الحيوانات سالمة غانمة، وكأن تلك القراءة تلفها بسور حماية من نور، شرط ان لا يفتح الموس طوال مدة غياب الحيوان ...فلا تقترب الوحوش منها أبدا ولو انهم كانوا يجدون اثر تلك الوحوش وما يشير الي وجودها في المكان، اما الحيوانات التي لم تكن تحظى بتلك الطقوس فكانت تتعرض ولو احيانا الي مخاطر قاتله، ويعثر عليها في اليوم التالي وقد بقرت بطونها ...

والحمد لله انني لم أصادف ذلك الحيوان المفترس، الضبع، أبدا، رغم انني كثيرا ما كنت اخرج وحيدا الي البراري راعيا للبقر....ورغم انني لا اذكر متى بدات مثل تلك المهمة في طفولتي لكنها استمرت بشكل متقطع حتى انهيت دراستي الثانوية...

وقد اوقعني رعي البقر في احد الايام وانا ما ازال فتيا غضا، لم اتجاوز حينها الرابعة او الخامسة عشر من العمر في مطب رهيب ، تسبب لي في واحدة من اعنف الزلازل التي اختبرتها في حياتي، والتي زادت قوتها على اكثر من عشر درجات مئوية على مقياس رختير، وكما هي العادة يقف وراء ذلك الزلزال الاحتلال وسوف افرد لتلك القصة فصلا منفصلا واسردها لكم بتفصيل حينما افتح صفحات ذاكرتي التي تغطي سن الشباب والمراهقة ...

ورغم خدماتها الجليلة كانت الكلاب تمثل بالنسبة لي وحتما للكثيرين مثلي مصدر للرعب احيانا، وذلك عندما يتبدل عواءها التحذيري الي نواح اقرب الي البكاء، وغالبا ما كان ذلك يحدث في ساعات الليل، وذلك النواح في التراث الشعبي يعني الموت ...

ويقال ان الكلاب تشعر بوصول ملائكة الموت وربما تراها اذا ما هبطت لقبض روح احدهم وكأن لها جهاز رؤيا فوق طبيعي ... او ربما ان جهازها العصبي يلتقط مثل تلك الاشارات ...وفي كل مرة كانت الكلاب تنوح او نسمع نعيق طائر البوم نذير الشؤم، كان الجميع يتوجسون، ويستنفرون، وينتظرون في رعب ليعرفوا من الذي جاء الموت لقبض روحه ...وفي احيان كثيرة كان ذلك يحدث فعلا، ولو ان البعض كان يموت ربما من الخوف حينما تعلن الكلاب وصول ملائكة الموت كما يظن الناس في التراث الشعبي...

اما أنا فكنت ارتعد خوفا بحق من هذه الأصوات المرعبة، وقد كان نواح الكلب ونعيق البوم بالنسبة لي واحدة من أسوء مصادر القلق والخوف في طفولتي يخيفني ويقض مضجعي...وما يزال حتى هذه اللحظة، وكانه صار لدي ارتباط شرطي بين هذه الأصوات المشئومة وبين الموت، وعلى طريقة كلب بافلوف، الذي كان يطعم الكلب ويدق الجرس وبعد فترة صار يدق الجرس فيسيل لعاب الكلب...

وعلى الرغم انني اسكن في المدينة الان وفي شقة عالية من عمارة سكنية وتحديدا في الطابق الخامس، وهو اختيار مدروس بهدف الحصول على موانع طبيعية تمنع وصول العقارب والأفاعي، رغم انها قليلة العدد هنا في المدينة ...لا اجد سببا في نواح كلب بالجوار او نعيق بوم يأتي من البر الي سطوح مجاور الا انه نذير شؤم واخبار باقتراب ملك الموت ... وحين اسمعه فعلا وصدفة أسارع في اليوم التالي لاتفقد سكان العمارة والعمارات المجاورة ابحث عن الذي فاضت روحه واظل متوجسا خائفا لأيام تالية واضعا في اعتباري كل الاحتمالات ...


يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::