عرض مشاركة واحدة
قديم 02-02-2016, 02:05 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة

ولم يكن ذلك الأخ مصدرا للألم الوحيد بالنسبة لي ولكني أستطيع قول نفس الشيء وبصورة نسبية عن جميع افراد الاسرة لسبب واحد، وحيد...وهو انهم كانوا يلقبونني بأسماء وينادوني بها توحي جميعها بأنني طفل كاذب...مما تسبب لي بضيق وألم نفسي شديد...ولا اعرف ان كنت فعلا قد امتهنت مهنة الكذب في تلك السنوات المبكرة من عمري...وان فعلت فربما ان ذلك جاء كردة فعل نفسية عنيفة على ذلك العالم الذي بدى لي كاذبا...فكيف أعيش كل تلك السنوات الأربعة في ظل كذبة بحجم تلك...وهي ان أعيش في كنف امرأة أقول لها امي لأتبين لاحقا بصورة صاعقة مزلزلة انها ليست امي وانما هي خالتي؟؟!!...وان امي ميتة، ومدفونة تحت التراب؟؟؟ يا لهول الفاجعة؟؟!!...وربما كان الكذب عندي وكما يقول علم النفس أسلوب غير واعي للدفاع عن النفس ودرء المخاطر والالم عنها...او ربما هو مؤشر على خيال واسع من دماغ تعرض لصدمة هائلة فاصبح يعمل بطاقة فوق عادية...

ولكن الامر لم يتوقف عند ذلك الحد...ففي احيان اخرى كانوا يدلعونني ويلقبونني باسماء تشير الى قصري، وصغر حجمي...وقد كنت فعلا مخلوقا ضئيلا وقصيرا في تلك السنوات المبكرة، واظن ان السبب يعود لحليب الماشية، وفقداني لصدر امي وحنانها بعد ان يغيبها المرض والموت...وكان اسوأ تلك الالقاب اثر في نفسي لقب "بزبوز" وهي كلمة اظنها مشينة تشير في احدى معانيها الى قطعة صغيرة من البراز...واظنهم لم يقصدوا اهانتي قطعا وانا في تلك السن، ولا تحقيري وشتيمتي فتلك الكملة لم تكن تقال في مواقف تستدعي الاهانة والتحقير والشتيمة... ولو انني لمستها في كل الاحوال...ليتهم كانوا يعلمون...لكن الجهل كما يقول احمد شوقي "يهدم بيت العز والشرف" فما ظنكم ان طفل صغير، لا يملك من امره شيء، كان يمكن ان يفعل ازاء كل ذلك؟

وصدقوني فان تلك المخاطر والظروف كانت كثيرة، ومتعددة، ومخيفة في بيئة شديدة الصعوبة، وعالية المخاطر... والصحيح انني استغرب الان كيف يمكن لأنسان ان ينجو منها، ويظل حتى على قيد الحياة...واعرف الان ومن واقع تجربتي الذاتية ان الموت والحياة امر قدري لا يملك الانسان من امره شيء وان الانسان محمي بإرادة ربانية الي ان تحين ساعته، وينتهي رزقه، مهما تعدد المخاطر...ولو ابتلعه حوت او جرفة موج البحر او اغرقه الطوفان...

وحينما انظر الان الى واقع البيئة المحلية في الريف الفلسطيني وطبيعة الحياة التي كنا نعيشها في تلك السنوات ارتجف من شدة الخوف...واستغرب كيف لشخص مثلي ان ينجو من كل تلك المخاطر...خاصة انني كنت عفريتا صغيرا...دائم الحركة...لا اهدأ ولا استقر...اروم البراري ابحث احيانا عن صيد ثمين مرة الاحق العصافير بالفخ والنبيظة ومرة ابحث عن بيض طائر الحجل...ومرات كثيرة كنا نجني فيها الثمار، اللوز والمشمش والعنب، والتين...لقد زرعوا في ذهني ان الارض غنية وكريمة تطعم كل من يقصدها وقد صدقوا...حتى انني كنت احيانا اذهب الي ارض لنا بعيدة عن القرية مسافة تزيد ثلاثة كيلومترات او ربما هي خمسة وكنت اقطف منها ثمار الخروب...وقد تحولت هذه الارض الجميلة الكركيمة والتي يتوسطها نبع ماء...كنا نشرب منه ونسبح في حوضه ونستجم حوله تحولت حاليا الى مصفاة لمجاري مستوطنة مجاوره...

واني لأظن بان نسبة مساحة الخوف والالم والمخاطر في حياتي المبكرة كانت كنسبة الماء الي اليابسة...او ربما أكثر قليلا من تلك النسبة...وقد كانت تصل أحيانا الي 90%...وما ذكرته من مصادر الم حتى الان ما هو الا مثل قمة راس جبل الجليد اما باقي المصادر فربما لن أتمكن ابدا من حصرها ووصفها او ان اجيد التعبير عنها، وعن أثرها...مهما حاولت وإذا ما اسعفتني الذاكرة لذلك ابتداء ...

اما هذه البيئة التي اشير اليها فهي بيئة الريف الفلسطيني...انها بيئة تنهل بالأفاعي السامة القاتلة إذا ما خرجت تلك الافاعي من بياتها الشتوي، وهي من أنواع مختلفة، واحجام متعددة، اخطرها، وأشدها سمية على الاطلاق هي الأفعى الفلسطينية ذات الرأس المثلث...والتي يقال ان لدغتها تعني الموت المحقق...

والغريب ان العصافير البلدية (عصافير الدويري) والتي تتخذ من المنازل القديمة أماكن لأعشاشها هي التي كانت تخدم كإنذار مبكر لوجود الافاعي، حيث كانت تتجمع وتأخذ في الرفرفة، والزقزقة بصوت مرتفع اشبه بالصراخ وكانها ترفع اشارة حمراء لتحذير الناس رغم انني اظنها تدافع عن صغارها واعشاشها، مما كان يلفت الانتباه وينذر بوجود افعي...ولطالما شاهدناها وراقبناها وهي تتحرك على جدران البيوت القديمة المبنية من الطين...ليقوم صاحب المنزل بمحاولة قتلها بإشعال نار في الفتحة ليجبرها على الخروج ومن ثم قتلها...وأحيانا كثيرة كانت تسقط من السطوح او من على اغصان الأشجار دون سابق انذار...واحيانا أخرى كان الناس يتعثرون بها في الطرق المعتمة غير المضاءة التي يسيرون بها ليلا او تأتي الي حيث يرقد الناس...

كل ذلك ضمن حدود المنازل والبيوت في القرية اما في، البر، أي الأراضي الريفية البعيدة عن المنازل فحدث ولا حرج...وكنا أكثر ما نجدها في اعشاش العصافير ومنها العصفور المدني وهو عصفور صغير الحجم لكنه جميل بالوانه المتعددة الرمادي والاصفر والاسود...تلك العصافير التي تتخذ من الفتحات في أشجار الزيتون المعمرة بيوتا لها او اعشاش طائر الشنار (الحجل) حيث كنا نمضي الكثير من أيام شهر اذار ونحن نبحث عن اعشاش هذه الطيور لنأخذ بيضها اللذيذ...والمعروف بأن الافاعي تظهر في فلسطين تحديدا في مطلع هذا الشهر اذار من كل عام، وتظل نشيطة طوال اشهر الصيف ولحين انخفاض درجات الحرارة بشكل كبيرة حيث تدخل في بيات شتوي وتختفي طيلة اشهر الشتاء... وكما يقول المثل الشعبي (في اذار مرة شميسه ومرة امطار ومرة امقاقات الشنار، وتبيض العنقاء والمنقاء والي ما الها منقار )...ويعني هذا المثل ان كل الطيور وكل الحشرات تخرج من سباتها الشتوي للتزاوج في بداية شهر اذار من كل عام...

ومن المرات القليلة جدا التي اذكر فيها جدي لأمي، صالح الاسعد، والذي توفي وانا في الثامنة... اذكره وهو يسرع الخطى نحو الحديقة المجاورة للمنزل هو ووالدي حيث كان كل منهما يحمل عصى ويلاحقان حية عثرت عليها خالتي وهي تقطف بعض أغصان نبة الشجيرة (الميرمية) لتعطير شراب الشاي...ليتبين لي لاحقا بأن الافاعي تأكل النحل وهي من الد اعداء النحل الكثيرة وهي تتواجد بكثرة في الإمكان التي تتواجد فيها خلايا نحل....

واذكر مرة وانا في سنوات دراستي الجامعية الاولي وكان ذلك في سبعينات القرن الماضي حيث تعرضت خالتي للدغة افعى داخل البيت القديم الذي كنا نخزن فيها الأشياء... ولولا الاجراء السريع والذي تم بنقلها الى المستشفى في المدينة لكانت تلك اللدغة قاتلة حتما...واذكر انها فقدت شيء من جلدها على أثر تلك اللدغة، ولا اعرف ان كان ذلك سببه سم الحية ام العلاج الذي اظنه الكورتيزون...وظلت كل عام تشعر بألم في نفس تاريخ اللدغة ولا اعرف ان كان ذلك الألم نفسي ام هو حقيقة ويظل كبصمة للسم الذي يتغلل في الجسد...ويرى البعض من حولي ان خراب كليتيها في اخر سنوات عمرها وموتها بالفشل الكلوي كان سببه سم تلك الافعى اللعينة...

وان كانت الحية تقتل ضحيتها عن طريق السم الزعاف الذي تضخه في جسد الضحية بواسطة الانياب الحادة في فمها، فان ذكر الحية، ويسمى محليا "بالعربيد"، ليس له تلك القدرة على القتل بالسم، لكنه يستخدم اسلوبا لا يقل بشاعة، وربما هو اكثر عنفا والما...فهو يلتف على ضحيته مستخدما عضلاته القوية جدا لخنق الضحية، فسلاحه الخنق، وربما قطع ضحيته من النصف... وهو ايضا لا يقل بشاعة في منظره عن الحية...فهو مرعب حينما يأخذ يتلوى بحجمه الضخم ويلتف على ضحيته ...واظنة يأني بلون واحد اسود خالص السواد فلم اشاهد في حياتي عربيد بلون رمادي او اصفر او مزركش ولو بمسحة بيضاء صغيرة ...واظن ان العرابيد تعيش في الخفاء في العادة، وكأنها تحب حياة العزلة والبعد عن الناس...وقلما تشاهد مثل الحية منتشرة في كل مكان تقريبا...ربما لان العرابيد لا تمتلك سلاحا قاتلا فتاكا مثل سلاح الحية الفعال والمميت...ووظيفتها ضمان بقاء النوع مثل ذكور النحل...

وإذا كانت الافاعي لا تؤذي كما يقال الا إذا ما استفزت او شعرت بتهديد، ولا أدرى مدى صدقية ذلك ولا اريد ان ادري او اجرب طبعا،...تشكل العقارب مصدر خوف ربما اشد من الافاعي، وكما يقول المثل الشعبي ( قرب العقرب لا تقرب وقرب الحية افرش ونام)، والعقارب أيضا متعددة الأنواع والألوان...فذات اللون الاسود منها يعتبر الأقل سمية، اما ذات اللون البني فهي شديدة السمية، لكن العقرب الأشد سمية على الاطلاق من بينها فهو العقرب باللون الأصفر...ولدغة هذا العقرب الأصفر تعني الموت المحقق إذا لم يتوفر العلاج الفوري وقد لا ينفع العلاج معه خاصة اذا تأخر قليلا ولم يكن فوريا وناجعا...

وإذا ما تذكرنا اننا نتحدث عن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي نعرف بأن العلاج الطبي كان نادرا ان لم يكن معدوما في بعض الاحيان وغير متوفر في اللحظة والتو، واغلب الناس كانت تلجأ الي الطب الشعبي لقلة الامكانيات... مثل جرح مكان اللدغة ومحاولة شفط السم من الجرح ثم وضع الثوم او أشياء أخرى لا اظن حقيقة انها تفيد في شيء سوى التطمين النفسي وانتظار الفرج...

وقد تعرضت شخصيا الي لدغة عقرب منذ سنوات وتحديدا عام 1995 ، حيث كنت قد عدت لتوي من المهجر لاستقر في القرية لعدة سنوات انتقالية، وهذه السنوات كانت مليئة بالاحداث فلم تكن عودة اختيارية وانما اجبارية، وصاحبها ايام وليالي كالحة السواد، سوف احدثكم عنها بالتأكيد فيما يلي، وكان ذلك العقرب صغيرا لا يتجاوز طوله سنتيمتر واحد او لنقل بضعة سنتيمترات على الاكثر ولونه اسود...وعلى الرغم من حصولي على الإبرة المزدوجة كما شرح لي الطبيب المقيم في القرية لكنني شعرت بألم مبرح ظل مستمرا على مدار أربع وعشرين ساعة متواصلة...


يتبع ..سنوات الطفولة المبكرة:::