عرض مشاركة واحدة
قديم 05-07-2014, 11:51 PM
المشاركة 1150
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية - 51- طائر الحوم حليم بركات سوريا

- حقيقة أن بركات يتصدى في روايته هذه لموضوعات صعبة ومعقدة وتنسحب بالتالي على الماضي والحاضر والمستقبل .

- وأبعد من هذا فانه يأخذ طريق الخلاص وذاك عن طريق مايقدمه الكاتب من رؤى وإضاءات تستشرف المستقبل .

- والواقع أن مثل هذه المواقف القومية ليست بالغريبة ولا بالجديدة . فسبق للشعراء والروائيين العرب أن حملوا أنفسهم مهمة تصوير وتأريخ ويلات شعوبهم بما فيها وقائع الظلم التي يعيشها شعب فلسطين ، ووقائع التعسف التي يقوم بها القادة العرب ضد شعوبهم ، وأوضاع التفتت والإنقسام في الأمة العربية .

- إلا أن بركات يخرج عن إطار مسؤوليته تجاه الوطن العربي ويتجاوزها إلى العالم كله إذ يتوحد بشعب افريقيا في جوعه وفقره ، وبأطفال اليابان في مأساتهم إثر ويلات القنبلة الذرية فيهيروشيما كما يتوحد بالأقلية السوداء في الولايات المتحدة في نضالها لإنهاء سياسيةالتميز العنصري .

- إنه باختصار يتوحد بكل الضعفاء والمقهورين والمظلومين في العالم وبكل العاجزين الذين لا صوت لهم .

- إن مثل هذا التوحد الإنساني مع المسحوقين ومثل هذا التعاطف الكوني معهم إنما يأخذ مثالية عالية مليئة بصيحات تبشرية متواصلة تحض على التمرد والرفض والمقاومة .

- وفي مشهد آخر يستعرض بركات ذكرى أليمة عصفت به وهو طفل حين يقف برعب وهول أمام فراش أبيه الذي كان يواجه الموت في آخر لحظات احتضاره ، فتأتي كلماته بالغة التأثير قوية ، خارقة للروح وباعثه على البكاء .

- ولا بد لنا أن نسجل هنا أنماكتبه بركات في هذا الصدد يعتبرمن أكثر الكتابات قوة وتأثيراً في الأدب العربي الحديث .

- إضافه إلى أن وصفه لشخصية أبيه ، هذه الشخصية التي طغت على الرواية وتسربت في ثناياهها ، تدخل وعي القارئ ولا تخرج منه . لقد رسم صورة رائعة ، صورة أب أصيل من أيام الدنيا الغابرة ، مثالي ، ذي وقار وذي هيبة يمضي عمره في خدمة زوجته وأولاده ، مجبول بالحب والتضحية

- وهذا الطفل الذي فقد أباه في الكفرون والذي شهد موته المفاجئ الأليم والذي فقد صورة المثال الأعلى ، والقدرة على الحياة ، هذا الطفل يكبر ثم يرحل إلى أمريكا ويصبح أستاذاً جامعياً .

- لكنه في البلد الذي هاجر إليه يعود لمواجهة الموت من جديد . هذه المرة يواجه موت أمه الطاعنة في السن ، إلّا أن التجربة هنا تختلف فهذه السيدة الفاضلة النبيلة والتي كان الكاتب قد أهداها أحد أعماله الروائية بالعبارة التالية ” إلى الملحمة التي كانت حياتها سلسلة عطاء ومحبة ” .هذه الأم هي مريضة الآن بأكثر من مرض ومصابة فوق ذلك بالنسيان وأمست في حالة فقدان وعي دائم وتتأرجح ما بين الحياة والموت .

- ومع تأرجحها المرير هذا يتأرجح الكاتب معها بين هذين العالمين .

- فالكاتب المعذب بعذابات أمه وآلامها يعيش من جديد تجربة موت أبيه ويقف ممزقاً وعاجزاً عن فعله أي شيئ إلا الدعاء لله أن يأخذ أمه إليه رأفة بها وبه ، وفي هذا المشهد يغوص الكاتب في معاني الموت والحياة ويطرح فيها أسئلة كونية وأن كانت كلماته في موت أبيه حادة ومؤثرة إلا أن كلماته في وصف صورة أمه القديسة لا تقل قوة وحساسية عنها بل تنحفر بعمق في وعي القارئ وتبقى خالدة .

- لاشئ يموت ولاشئ يتلاشى في ذاكرة الكاتب ، فها هو يستعيد مشهد آخر لشخصية من أيام طفولته تعمل أثراً في النفس لا يمحى . إذ كان في القرية شخص معتوه يدعى مخول ، كان غريباً ومشرداً وعجيب الخلقة . لا أحد يعرف من أين جاء أو أين ولد ، لذا كان عرضة مستمرة لتهكم أطفال القريةوإهاناتهم غير المحدودة ، يضحكون منه ويلاحقونه بالعصي والحجارة على مر السنين .

- ويأخذ المشهد بعداً مؤثراً حين يتذكر الكاتب أن أباه كان في إحدى الأمسيات يغني بصوته الدافئ أبيات العتابا بلحن عاطفي حزين ، وكان في الشارع وخلف الدار يقف مخول يجهش بالبكاء وتنهمر الدموع بمرارة على وجهه ،

- لقد اخترقت أبيات العتابا روح ذلك المعتوه وأثارت شواجنه الدفينة وعواطفه المقموعة في داخله .

- أزاء هذا المشهد يحدث وعي فجائي عند الطفل الراوي تجاه مخول ويتعاطف معه ، وينذر نفسه للدفاع عنه ضدأطفال القرية .

- ربما كانت أعظم خدمة قدمها بركات في روايته هذه هي تخليد قريته ومسقط راسه كفرون ، فهذه القريةالمغمورة الصغيرة في سوريا والتي لم يسمع بها كثيرون تصبح فجأة ذات شأن ومعروفة في العالم

- أن حب الكاتب الشديد لها واخلاصه الهائل لها ووصفه الحي لأشجارها وكرومهاوطرقها وأوديتها وأناسها والذي سيطر على الرواية كان ذا أهمية بالغة في تحويلها إلى مكان تاريخي ذي دلالة خاصة ، وفي جعلها بطلاً رئيسياً في الرواية .

- إنه لمن المفارقة أن نجدالكاتب يطلق لفظ حبيبتي على زوجته طوال الرواية ، إلا أنه لم يستطع ان يعطيها وصفاًغنياً أو رائعاً كما هو الحال في معظم شخصيات الرواية ، ونجد أن الحوار والجدالبينهما لم يكن إلا وسيلة وأداة فنية هدفها استدعاء الأحلام واستحضار ذكريات الماضيوأثارة التساؤلات حول المستقبل ، وعلى طوال الرواية بأسرها تبدو علاقته بها ، وكذلكعلاقتها به ، علاقة فكرية محورية المركز دون أن تكون علاقة حب حقيقي بين شريكين . إلا أن ” طائر الحوم ” تبقى واحدة من اقوى الروايات في الأدب العربي الحديث ومنأكثرها شفافية وحساسية . وهي في حقيقة صراحتها وأسلوبها الاعترافي نادرة ومميزة ،أنها رواية مليئة بالمشاعر وبالألتزام الحميمي وبروح المقاومة .

- انها حقاً بمثابة مرآة لروح هذا الكاتب

- وسجل حافل بتاريخه الشخصي ،

- وسجل تاريخي خالد لقرية كفرون ،

- إنها تبدوكشجرة علقت على أغصانها أحداث أجيال متعاقبة ،

- وأنها بحق إنجاز كبير آخر يضاف إلى أعمال هذا الروائي وشهادة ميلاد وجواز سفر .

- وتبقى الرواية إسهاماً قيماً وهاماً في الأدب . لقد جعلتناننظر إلى الأشياء بعين مختلفة وبطريقة مغايرة وفوق كل شيئ وفرت لنا فرصة لنتفحص حياة هذا الكاتب العربي .

- يقول الشاعر السوري شوقي بغدادي عن الرواية " إنها رواية تعصر القلب وتغسل الروح “