عرض مشاركة واحدة
قديم 02-24-2024, 01:04 AM
المشاركة 8
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*الوحي اليهودي (شافتسبري وروتشيلد)

بعد هزيمة نابليون ومشروعه ظهر الاهتمام بفكرته حول تهجير الفلسطينيين من شخصيتين كبيرتين من الإنجليز، يعود لهما الدور الأبرز والأضخم في هندسة مشروع التوطين وترشيحه للحكومة البريطانية.
الشخصية الأولى هي اللورد (أنتوني شيلي كوبر) المعروف باسم (شافتسبري السابع) المسيحي الإنجيلي، والشخصية الثانية هي البارون (روتشيلد) المليونير اليهودي الأشهر في بريطانيا والذي كان أغنى شخصية يهودية في أوربا وربما في العالم، وهو الشخص الذي امتلك نفوذا ماليا وسياسيا ضخما على الحكومة البريطانية.
أما كيف امتلك الصديقان الاهتمام بفكرة نابليون فهذا يعود بالأصل إلى أن أوربا عندما كانت تضيق وتضطهد عوام اليهود الفقراء، لم تكن تفعل ذلك على مستوى الأوربيين المسيحيين وحدهم.
بل كان يشاركها الضيق من عوام اليهود كبار مليونيرات اليهود الأوربيين، وهؤلاء بالطبع لم يكن منهم من يتعرض للاضطهاد أو العنصرية لأنهم أصبحوا بفعل ثرواتهم العملاقة واتصالاتهم الكبرى بالحكومات الأوربية مراكز قوى في أوربا يتساوى نفوذهم أو يتعدى أبرز الشخصيات الحاكمة على مستوى القارة.
وكان من الطبيعي أن يشعر مليونيرات اليهود بالسأم والضجر من مشاكل فقراء اليهود الذين يبتزون عواطفهم الدينية بهدف رفع الظلم والاحتقار عنهم.
ولذلك كان مليونيرات اليهود يقفون صفا واحدا مع السياسة الأوربية الراغبة في الخلاص من اليهود بتصديرهم إلى مكان آخر خارج القارة الأوربية بغض النظر عن المكان سواء كان في المستعمرات أو في فلسطين.
فالذي حكم رغبة أغنياء اليهود هنا هو تصدير اليهود خارج منطقة نفوذهم لكيلا يعكروا صفو حياتهم أو يتسببوا بمشكلات سياسية لهم مع الحكومات الأوربية.
لذلك تحمس البارون (روتشيلد) لتبني فكرة (نابليون) ورأى أن أهم دولة تستطيع تنفيذ الفكرة بالفعل هي بريطانيا التي تخلصت من كابوس نابليون وأبطلت خططه بالسيطرة على خطوط مواصلاتها في الشرق.

ونظرا للصداقة الوطيدة بين (روتشيلد) والسياسي البريطاني الكبير (شافتسبري) فقد صارح صديقه بفكرته ودعاه لأن يتواصل مع صهره رئيس الحكومة البريطانية (بالمرستون) ويعرض عليه الفكرة والمشروع ويدعوه لتنفيذه بالتعاون والتمويل من مؤسسات اليهود المالية الكبيرة في بريطانيا وأوربا.
ووجود شخصية (شافتسبري) في الأحداث هي التي مزجت الفكرة السياسية بالفكرة الدينية وكانت البذرة الأولية لمنهج (الصهيونية).
لأن روتشيلد اختار بالفعل الشخصية المناسبة لفتح الموضوع مع رئيس الحكومة البريطانية (بالمرستون), لأن شافتسبري يمت له بقرابة المصاهرة من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن ميول وانتماءات (شافتسبري) كانت خير بداية للمشروع نظرا لأن هذا الأخير مسيحي إنجيلي, والإنجيليون – كما هو معروف- هو أكثر طوائف المسيحية تعاطيا مع المسألة اليهودية, فإلى جانب شعورهم التقليدي ناحية اليهود بالازدراء, إلا أن الإنجيلية البروتستانتية كانت تنظر لليهود على أنهم فئة ضالة من بنى إسرائيل ومن رعايا المسيح, ومن أهم معتقدات الإنجيلين أن جمع اليهود من العالم وإعادتهم إلى أرض فلسطين الموعودة أمر ضروري لأن إعادتهم إلى أرض الأجداد ستكون هي المقدمة التي يتحولون بها من اليهودية إلى المسيحية.
وهذه الفكرة بالتحديد – فكرة إعادة اليهود أولا للأرض الموعودة ثم تحويلهم للمسيحية-هي الفكرة الأساسية لمنهج (الصهيونية المسيحية)
وبالمقابل فإن (الصهيونية اليهودية) كانت تعتقد بوجوب بعث المسيح أولا لبني إسرائيل وظهوره فيهم وعندئذ فقط يكون من حق اليهود أن يعودوا للأرض المقدسة تحت قيادته.
وهكذا نرى أن الصهيونية المسيحية تعاكس اليهودية رغم وحدة الهدف.
ولكن مسألة الاختلاف العقائدي الواضح بين الصهيونية المسيحية واليهودية أصبح من قبيل الشعارات الفارغة والهزل، بعد أن تم عرض المشروع على الحكومة البريطانية وتحمست له وتم اتخاذ الخطوات التنفيذية له.
عندئذ أصبحت (الصهيونية) مذهب سياسي علماني لا علاقة له بشريعة اليهود أو المسيحيين بل يدين بالولاء المطلق لسياسة المصالح الاقتصادية للدول الكبرى وإن كانت الشعارات الدينية تكسوه من الخارج.
تماما مثلما حدث في أوربا قبيل الحملات الصليبية حيث ظلت الكنيسة الغربية تنادي بضرورة إعادة احتلال الشام والقدس، وطرد المسلمين منها، ولم تستجب السلطات الأوربية وتنفذ الحملة تلو الأخرى إلا بغرض الاحتلال السياسي والتوسع الإمبراطوري الذي جعلوا من فلاحي أوربا جنودا ووقودا للحرب من أجل أهدافهم، ورفعوا شعار الصليب على الحملات حتى تتحمس الشعوب فتقبل التجنيد وتقاتل بحماسة لصالح الإرادة الصليبية.

الخلاصة.
تحمس (شافتسبري) للوحي اليهودي الذي صَبّه صديقه (روتشيلد) في أذنيه وبدأ يناقش هذه المسألة من منطلق معتقده الإنجيلي، ويؤسس لنظرية الإنجيليين في ضرورة عمل الملكيات المسيحية في أوربا على إعادة اليهود إلى الأرض الموعودة وتنصيرهم هناك.
(وقد نشر شافتسبري عام 1838 في مجلة "كوارترلي ريفيو " -وهي من أكثر المجلات نفوذاً في ذلك العصر-عرضاً لكتب أحد الرحالة إلى فلسطين. وقد بدأ المقال بالديباجة الدينية المعتادة عن قضية اليهود ثم تناول بعد ذلك تربة فلسطين ومناخها باعتبارها مناسبة لنمو محاصيل تتطلـبها احتيـاجات إنجـلترا مثل القطن والحرير وزيت الزيتون.
ويبين شافتسبري أن كل المطلوب لإنجاز هذه العملية هو رأس المال والمهارة، وكلاهما سيأتي من إنجلترا، وخصوصاً بعد تعيين قنصل لإنجلترا في القدس إذ سيؤدى وجوده إلى زيادة أسعار الممتلكات. ثم يقترح عند هذه النقطة توظيف اليهود على أن يكون القنـصل البريطـاني الوسـيط بينهم وبين الباشــا العثمـاني، حتى يصبـحوا مرة أخــرى، مزارعين في يهوذا والجليل. وهذا الاقتراح يحوي بعض عناصر الصيغة الصهيونية الأساسية مثل شعب عضوي منبوذ نافع ينقل خارج أوربا لتوظيفه لصالحها)

وبهذه الأفكار التي استمر (شافتسبري) في كتابتها وتطويرها ووضع الخطة التنظيمية لتحقيقها من الحكومة البريطانية بل والحكومات الأوربية الكبرى، هذه الكتابات نستطيع القول بأنها النص الأساسي الذي انبثق عنه المشروع الصهيوني بعد ذلك.

ومن أخطر ما ابتكرته قريحة شافتسبري هي شرحه للفائدة السياسية والاقتصادية التي ستعم أوربا من تنفيذ المشروع، هذا الشرح الذي قدمه (شافتسبري) في مذكرة خاصة لرئيس الوزراء البريطاني (بالمرستون) في ديسمبر 1840م لاسترجاع اليهود وحل المسألة الشرقية وتطوير المنطقة الممتدة من جهة الرافدين حتى البحر الأبيض المتوسط -وهي البلاد التي وعد الإله بها (إبراهيم) حسب أحد تفسيرات الرؤية التوراتية
ويؤكد شافتسبري في مقدمة المذكرة أن المنطقة التي أشار إليها آخذة في التصحر والبوار بسبب التناقص في الأيدي العاملة، ولذا فهي تتطلب رأس مال وعمالة. ولكن رأس المال لن يأتي إلا بعد توفير الأمن. ولهذا، فلابد أولاً من اتخاذ هذه الخطوة، ثم يشير بعد ذلك إلى أن حب اختزان المال والجشع والبخل ستتكفل بالباقي، فهي من أهم دوافع الإنسان "الوظيفي"، ولذا فهي ستدفع به إلى أية بقعة يمكن أن يحقق فيها أرباحاً ومثل هذه الضمانات ستشجع كل محب للمال عنـده الحمـاس التجـاري، أي أعضاء الجماعات الوظيف
كل هذه المقدمات العامة تقود شافتسبري إلى الحديث عن «العنصر العبري» أو الشعب العضوي المنبوذ -باعتباره جماعة وظيفية استيطانية -ثم يقترح أن القوة الحاكمة في الأقاليم السورية -دون تحديد هذه القوة -لابد أن تحاول وَضْع أساس الحضارة الغربية في فلسطين وأن تؤكد المساواة بين اليهود وغير اليهود فيها. وتحصل هذه القوة على ضمانات الدول العظمى الأربع عن طريق معاهدة ينص أحد بنودها على ذلك،
وسوف يشجع هذا الوضع الشعب اليهودي العضوي المعروف بعاطفته العميقة نحو فلسطين حيث يحمل أعضاؤه ذكريات قديمة في قلوبهم نحوها. وهذا الشعب اليهودي العضوي جنس معروف بمهاراته وثروته المختبئة ومثابرته الفائقة. وأعضاء هذا الجنس يمكنهم أن يعيشوا في غبطة وسعادة على أقل شيء، ذلك أنهم ألفوا العذاب عبر العصور الطويلة. وحيث إنهم لا يكترثون بالأمور السياسية، فإن آمالهم تقتصر على التمتع بالأموال التي يمكنهم مراكمتها... إن عصوراً طويلة من العذاب قد غرست في هذا الشعب عادتيْ التحمل وإنكار الذات
ورغم أن هذه المذكرة قد كُتبت قبل عشرين عاماً من ميلاد هرتزل، فإن كل ملامح المشروع الصهيوني موجودة فيها، وخصوصاً فكرة توظيف وضع اليهود الشاذ داخل المجتمعات الغربية لخدمة هذه المجتمعات، وذلك عن طريق نَقْلهم ليصبحوا كتلة عضوية واحدة لا تخدم دولة غربية واحدة وإنما الغرب بأسره)

وعقلية (شافتسبري) في صياغة هذا المشروع لا تقل براعة أو عبقرية عن عقلية (نابليون) صاحب الفكرة الأصلية.
السبب في هذا أن (شافتسبري) باعتباره واحدا من ألمع الساسة البريطانيين وأكثرهم خبرة، كان يدرك تماما أن حماسة الحكومة البريطانية للمشروع لن تتحقق بمقدار خردلة إذا اقتصرت فكرة التوطين على المزاعم الدينية الإنجيلية وحدها.
كما أنها لن تتحقق لمجرد رغبة أباطرة اليهود في طرد الفقراء منهم لخارج أوربا، لذلك بنى شافتسبري مشروعه على أن يكون المشروع نفسه يحمل فوائد لا حصر لها للحكومة البريطانية وللحكومات الأوربية الحليفة.
ولذلك جعل أفكاره حول المشروع تحمل نفس إرهاصات فكرة نابليون حول الفوائد السياسية التي سيجنيها البريطانيون من اصطناع وطن كامل لليهود يكون تحت رعايتهم ويعمل لصالحهم في أخطر منطقة تهم البريطانيين وهي منطقة الشرق الأوسط.
باختصار.
وضع شافتسبري اللبنة الأولى لفكرة (الصهيونية) وهي أن تقوم أوربا بالتعامل مع اليهود كما يتم التعامل مع المخلفات، حيث يتم إعادة تدويرهم واستخدامهم للفائدة الاقتصادية مرة أخرى بدلا من الخلاص منهم بلا ثمن أو استبقائهم في أوربا مع استمرار مشاكلهم فيها.

ويشرح (شافتسبري) في مذكراته كيف أغرى صهره (بالمرستون) رئيس الوزراء البريطاني بالمشروع حيث أنه عندما ذهب للقائه وأخذ يبالغ ويشرح مدى معاناة اليهود وحاجتهم إلى التوطين في أرض الميعاد، لم يكترث بالمرستون لكلامه وعواطفه حتى أنه كان يستمع إليه وهو يمسك بكأس من خَمْرِه المفضل.
ويكمل شافتسبري بأنه عندما قام بتناول الموضوع من جهة المصالح البريطانية الأكيدة الكامنة وراء هذا المشروع عندها فقط انتبه له بالمرستون وترك كأس الخمر وأخذ يستمع إليه.
فهذه المناقشة التي دارت بين شافتسبري وبالمرستون جاءت في وقت حساس عقب نجاح بريطانيا وحلفائها في تحييد محمد علي وإبعاد خطره عن الشام.
وعندما جاء شافتسبري بمشروع توطين اليهود كعازل ضامن بين مصر والشام يمنع اتحادهما، هنا وجد بالمرستون أنها الفكرة العبقرية التي يبحث عنها كي يتمكن من كف خطر محمد علي نهائيا عن الشام.
وقد تأكدت وجهة نظر بالمرستون عندما تلقى من (روتشيلد) خطابا يشرح له فيه أن محمد علي ترك فراغا في الشام لم يستطع الحلفاء الأوربيون أن يملئوه.
وأن الضمان الوحيد للمصالح البريطانية يكمن في خطوتين تكمل إحداهما الأخرى.
الأولى:
وهي طرد محمد علي من الشام وحجزه خلف صحراء سيناء واعتبار سيناء سدادة فلين أمام تقدم محمد علي، وهذا ما تحقق بالفعل
الثاني:
ضمان مستقبلي نهائي بعدم تكرار تجربة محمد علي مرة أخرى عن طريق إنشاء شبكة عملاقة من المشروعات الاستيطانية التي تستقبل مهاجري اليهود من كافة أنحاء العالم وتمنحهم فرصة العيش الرغد في المزارع والمستوطنات بالرعاية الأوربية مما يمثل حاجزا طبيعيا أمام أي حاكم مصري أو شامي يفكر في إعادة اتصال الزاوية المصرية الشامية.

ولم يضع بالمرستون وقتا كعادة مسئولي بريطانيا في سياستهم الجديدة.
فقد وضع الفكرة قيد البحث ودراسة الخطوات التنفيذية والبدء في دراسة العوائق التي تقف أمام المشروع وتذليلها.
وبدون تضييع الوقت، وقبل أن تمر عدة أشهر على كبح جماح محمد علي عام 1840م، بادر بالمرستون إلى إرسال توجيهاته إلى سفيره في إسطنبول، كي يبدأ الاتصالات مع السلطان العثماني الذي عاد للشام وَضَمِن عرشه على رماح التحالف البريطاني.
فكان من الطبيعي أن ينتظر السلطان وحاشيته الثمن المرتقب الذي ستطالب به دول التحالف وعلى رأسهم بريطانيا.
وظهر الطلب في البرقية التي أرسلها بالمرستون لسفيره اللورد (بونسونبي)، وكان محتوى البرقية أن يتكلم السفير مع السلطان عن مأساة الشعب اليهودي وأن هذا الشعب المشرد يجب أن يعود إلى أرضه التاريخية تحت رعاية السلطان.
ثم يُلْفت بالمرستون نظر سفيره إلى أن السلطان إذا لم يتقبل هذه الحجة أو المزاعم العاطفية فعليه أن يخاطبه بمقتضيات المصلحة العثمانية في فتح باب الهجرة لليهود حيث أن كثيرا من اليهود لديهم ثروات ضخمة مما سيعني هذا انعكاسا اقتصاديا كبيرا إذا استثمروا هذه الأموال على أرض فلسطين التابعة للخلافة.
ثم تابع بالمرستون خطاباته لسفيره عند السلطان بضرورة مخاطبة حاشية السلطات بالرغبة البريطانية وأنها مطلب أوربي عام ستتلقاه أوربا بكثير من الامتنان!
ثم كانت أخطر البرقيات التي أرسلها بالمرستون لسفيره كي يواصل الضغط على السلطان كي يعلن عن سماحه بالهجرة اليهودية لفلسطين.
حيث طلب بالمرستون من سفيره أن يبلغ السلطان أن بريطانيا لا تريد أن تتكفل الخلافة أية تكاليف في سبيل فتح الفرص أمام العودة اليهودية، ولا حتى في سبيل الدفاع عن اليهود المهاجرين، وأن بريطانيا توافق على أن تكون دعوة السلطان لليهود بالعودة لفلسطين ستكون تحت حماية السلطات الإنجليزية وأن اليهود المهاجرين ستتم مخاطبتهم رسميا في نقل شكاواهم المتوقعة عن طريق الإنجليز.

ولم يكتف البريطانيون بالتمهيد السياسي.
حيث ظهرت فائدة التفوق البريطاني في الاستراتيجية التي وقفت خلفها التغييرات الإيجابية في الحكم والتي سبق شرحها.
حيث قادت بريطانيا ما يشبه حملة علاقات عامة ضخمة للترويج لعودة اليهود لأرض الأجداد كما تزعم أساطيرهم، واستخدمت بريطانيا شعراء أوربا وأدبائها وفلاسفتها لخدمة المشروع ومنهم الشاعر الأوربي (بايرون) الذي أصدر ديوانا كاملا بعنوان (الأغاني العبرية) يحكي فيه بالشعر الحماسي والتراجيديا مأساة اليهود وهم مشردون من آلاف السنين بينما أرضهم يرثها غيرهم!
وبالتالي جرت خطوات المشروع على كافة المستويات وفقا للخطة البريطانية، وبدأ الإعداد الفعلي لرسم خطة إنشاء المستعمرات الاستيطانية داخل فلسطين بالتمويل اليهودي من أغنياء أوربا
مع ضرورة ملاحظة هامة.
أن اللورد شافتسبري وكذلك روتشيلد وبالمرستون، كانوا يتابعون المشروع بخطوات تنفيذية لكن دون الإفصاح مطلقا عن النوايا البريطانية في تأسيس كيان ودولة يهودية مستقلة في فلسطين، تنتمي وظيفيا إلى الغرب وتنافي تماما محيطها العربي والإسلامي.
بمعنى أنهم طالبوا السلطان العثماني فقط بمنح اليهود حق الهجرة إلى فلسطين كرعايا في خدمة السلطان وضمن ولاية الشام كلها، دون الحديث عن النزعة الانفصالية للمشروع وهي السر الكبير الذي رأى بالمرستون وروتشيلد ضرورة الحفاظ عليه لكيلا تنقلب الدنيا فوق رءوسهم قبل أن يتم تغيير البيئة الديمغرافية والتوزيع السكاني في القدس.
لأن السلطان وباقي بلاد المسلمين في الشرق لو خطر ببالهم أن النية تكمن في جلب أكبر عدد من اليهود لفلسطين بحيث يكون للعدد قوة كافية تمنحه الاستقلال عن الخلافة وعن الأرض العربية المتوحدة فإن المشروع لن يُكْتب له النجاح
وهذا ما نتأكد منه بمطالعة رد فعل (شافتسبري) على ما نشرته جريدة (التايمز) البريطانية عن خطوات إعادة اليهود لأرض لفلسطين.
حيث خشي شافتسبري أن ينتبه السلطان وغيره لمعنى كلمات رئيس الوزراء بالمرستون الواردة في الخبر الصحفي والتي تتحدث عن هجرة اليهود باعتبارها (عودة) و(استدعاء) لأرضهم التاريخية وهو ما يُعْتبر كشفا للنوايا في وقت مبكر للمشروع قبل أن تقوم قائمته.
لذلك كان شافتسبري يرى أنه من الأسلم استخدام كلمة (السماح بهجرة اليهود) كي يظل الأمر في إطار كونه طلبا واستعطافا من السلطان لا مطالبة بحق واستعادة إرث مغصوب.

باختصار.
أخفى البريطانيون تماما الهدف الأصلي للمشروع وهو إنشاء دولة متكاملة العناصر ومعترف بها لليهود في فلسطين وخارجة عن إرادة الخلافة العثمانية وغير تابعة للسلطنة.
وهو الغرض النهائي للمشروع الذي لم يكن يخطر ببال أحد حينها لكونه غير متوقع في ذلك الزمن حيث كانت الشام كلها ولاية واحدة تابعة للسلطان ومحاطة من كافة جهاتها بالبلاد العربية الخاضعة للولاية العثمانية.
كذلك لم يكن هذا العهد يعرف تأسيس الدول بمنطق (الشظايا الجغرافية) أو الدول الوظيفية كما يُسَميها المفكر الكويتي (عبد الله النفيسي)، بمعنى الكيانات الصغرى التي كونتها بريطانيا وورثتها الولايات المتحدة وكل ما تقوم به تلك الكيانات هي تأمين احتياجات الدول المركزية وفي المقابل تملك الأسر الحاكمة فيها حماية القوى العظمى للدولة وللنظام.

وبالتالي كان الهدف الرئيسي لبريطانيا لا زال مخفيا، لأن سياسة تقطيع الأوصال وتأسيس الدول التابعة نفذتها بريطانيا بعد هذا العهد بزمن طويل عندما مَزّقت أوصال مستعمراتها لنظم لها شكل ووصف الدولة لكنها في الحقيقة مجرد تقسيم إداري يفتقد المقومات الرئيسية للقيام كوطن مستقل، سواء من العمق التاريخي أو البعد الجغرافي أو عدد السكان والقوة العسكرية التي تسمح له بحماية نفسه.
وهو ما نفذوه في تقسيم الجزيرة العربية لعدة دويلات عقب انتهاء الخلافة العثمانية، ثم اقتطاع ضفة نهر الأردن وتأسيس إمارة وظيفية فيها باسم (إمارة شرق الأردن) والتي وضعوا عليها (عبد الله بن الحسين) أميرا بعد طرد (الشريف حسين) والده من حكم مكة والحجاز عقب قيام الدولة السعودية الثالثة، وإمارة شرق الأردن هي التي طوروها فيما بعد لتصبح مملكة باسم الأردن، ثم اقتطاع منطقة (الكوت) على الخليج العربي وتأسيسها كدولة باسم (الكويت)، وأيضا اقتطاع (ساحل عمان) من التبعية لعمان، وتأسيسه كدولة باسم (الإمارات)
وبالمثل قطعوا أوصال الشام لأربع تقسيمات بالتعاون مع فرنسا، ثم فصلوا مصر عن السودان، وأشعلوا أزمة حدودية بين المغرب والجزائر في قضية الصحراء
وهذا التقطيع الذي تم بشراكة بريطانية فرنسية كان بمثابة خطة لا تقل خطورة عن خطة توطين اليهود في فلسطين من حيث تدمير قدرة الدول العربية على التوحد ككيان واحد تحت أي مسمى!
لذلك كان التصور العثماني فيما يبدو قاصرا على أن هدف بريطانيا من توطين اليهود هو تجميعهم من كل مكان في العالم ووضعهم في فلسطين التاريخية بحيث يصبحون ضمن النسيج الشعبي التابع للخلافة.
وإن كان هذا التصور نفسه لا يمحو الجريمة العثمانية في الخضوع والضعف تجاه موافقتها على بدء المشروع إلا أن الحقيقة التي يجب تقريرها أنه لم يكن هناك من يتوقع أن تكون الخطة البريطانية طموحة لهذه الدرجة، وممتدة إلى هذا المدى، حيث وضع البريطانيون الخطة للسعي الحثيث البطيء حتى تم لهم الأمر بعد قرن كامل من الزمان.
ومن عجائب القدر حقيقة أن أعداء العرب التاريخيون مثل اليهود والفُرس وأوربا جميعهم تميزوا عنهم بهذه الصفة وهي الصبر المطلق الذي لا يملون منه في سبيل الوصول إلى أهدافهم، بينما نجحوا في أن يستغلوا الطبيعة العربية سريعة الملل في أن يدفعوهم دوما لليأس السريع والتنازل.
وقد اكتشف الغرب فينا هذه الصفة كما اكتشفها الإسرائيليون مبكرا، حين كتب رئيس أحد أجهزة الأمن الإسرائيلية (يوحشفات هركابي) كتابه (العقل العربي) وحَفّز القيادات الإسرائيلية على استغلال صفة سرعة الملل عند العرب لأنها كفيلة بتحطيم أعصابهم واستسلامهم للمفاوض الإسرائيلي في النهاية
وهذا بعينه هو ما حذرنا منه النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان يتعوذ من (جَلَد الفاجر) و(عجز الثقة)، لأن جَلَد الفاجر معناه قدرة أهل الباطل والكفر على الصبر والدأب في سبيل تحقيق أهدافهم الشيطانية، بينما عجز الثقة هو عجز أهل الحق عن تقليدهم في الصبر رغم أن أهل الإيمان هم أولى الناس بالصبر والجلد

وهذه السياسة التمهيدية الصبورة والمخادعة، هي التي حكمت أوربا منذ ذلك الحين وحتى اليوم في تعاملها مع القضايا العربية.
وبنفس الأسلوب وصلوا لسائر أهدافهم عن طريق الصبر والتأني الشديد في تسيير خططهم مع استخدامهم لألفاظ مخففة لوصف الأمور الجسام, مثل استخدام لفظ (الصداقة) للتورية على لفظ (العمالة), ولفظ (التحالف) لوصف الحماية العسكرية للدول الوظيفية في المنطقة, واستخدام لفظ (حقوق المضطهدين) للتورية عن الغرض الأصلي بتثبيت أركان الكيان اليهودي, واستخدامهم لفظ (عملية السلام) للدلالة على تفريغ القضية الفلسطينية من داخلها عن طريق تحفيز المقاومة الفلسطينية على ترك السلاح والاكتفاء بالمفاوضات المستمرة التي لا تنتهي وإغراق الشعب الفلسطيني في الوعود تلو الوعود حتى يصبح اليأس حاكما لكل مقاومة.
ومن الغرائب حقيقة أن الحكومات العربية بعد استقلالها الظاهري من فترة الاحتلال الأوربي خلال القرن العشرين مارست تلك السياسة بدأب مع شعوبها.
فظلت الحكومات تلو الحكومات تبشر الشعوب بالنصر في وسط الهزائم المتوالية وتبشر المواطنين بالرخاء والتقدم في ظل الانهيار الاقتصادي المتسارع، وليس أدل من ذلك أن الشعوب العربية تنتظر وعود الرخاء منذ الخمسينيات ورغم هذا لم يأت بعد.