عرض مشاركة واحدة
قديم 02-10-2024, 05:12 AM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

تمهيد


إن التاريخ هو المجال العلمي الوحيد الذي يصلح فيه التعامل مع العدسات المختلفة دون أن تختل الفائدة منه!
بمعنى أن العدسات الزجاجية التي تمتلك القدرة على تكبير الأشياء وتصغيرها، كما تمتلك القدرة على إعطاء الأشياء حجمها الطبيعي.
هذه العدسات لا تعطى صورة حقيقية للأشياء إلا إذا كانت عدسات مستوية غير محدبة وغير مقعرة، وإلا فإنها تضاعف الحجم أو تصغره وتعطي له صورة منافية للحقيقة.
ولا شك أن الحقيقة العلمية في أي مجال هي حقيقة محايدة، ينبغي أن تكون بصورتها الحقيقية وإلا أعطت صورة مزيفة لا تفيد.
وهذا يصلح في كافة العلوم عدا مجال واحد وهو علم التاريخ.
لأن التاريخ باعتباره أخطر العلوم البشرية وأكثرها تفردا" " كان هو العلم الذي تمكن به الإنسان من بناء الحضارات عبر الزمن.
ولأن أساس بناء الحضارة يكمن في دراسة وتحليل التاريخ كي نتعلم منها لإصلاح الحاضر والمستقبل، لأجل ذلك كان التعامل مع التاريخ يتم من خلال ثلاثة طرق.
والطرق الثلاث تمثل الجوانب الثلاث للعدسات.

*العدسة المستوية
ننظر من خلالها للتاريخ نظرة أكاديمية بحثية محايدة، حيث نعتني بتسجيل وتحقيق الأحداث والوقائع التاريخية بدقة كما حدثت بالضبط.
وهنا تكون عين الباحث أشبه ما تكون بعين الكاميرا، حيث تسجل وتلتقط وتوضح الحدث نفسه بشكل محايد دون التدخل بالتحليل واستخراج الدروس أو التفكر.
وتأتي أهمية الدراسة الأكاديمية المحضة في كونها توفر المادة الخام للتاريخ، والتي يتيح وجودها للباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع أن يتأملوا فيها وَيُمَحّصونها بعد ذلك.
ومثالها المراجع الأصلية الكبرى في التاريخ الإسلامي مثل (تاريخ الأمم والملوك) للعلامة ابن جرير الطبري، والذي حرص فيه الطبري على جمع كافة مرويات التاريخ الإسلامي بأسانيدها في كتابه وتركها دون تحقيق أو تمحيص واكتفى بأنه ذكر كافة الأسانيد لكل رواية على حدة.
وهو هنا قام بدوره وترك للباحثين تمحيص وفحص أسانيد الروايات لتمييز الروايات الصحيحة من الضعيفة وهو الذي قام به علماء الجيل الثاني من المؤرخين حتى الأجيال المعاصرة في الدراسات الجامعية والأكاديمية

*العدسة المحدبة
وهي التي تقوم بتصغير الأشياء عن حجمها الأصلي، وهي ضرورية للباحثين في المجال الفكر ي العام والمهتمين بمعالجة واقع المجتمع في كل عصر.
ولكي يقوم هؤلاء الباحثون بمهمتهم فلابد لهم من استكشاف التاريخ وأخذ الأفكار والدروس العامة من أحداثه والربط بينها وبين واقع المجتمع المعاصر كي تتولد الأفكار التي تفيد المجتمع في قضاياه المختلفة.
والباحثون أو المفكرين من هذا النوع لا يحتاجون إلى قراءة التاريخ قراءة سردية كاملة وتفصيلية، لأن أخذ العبرة والدرس يكفي فيه أن تحيط بالأحداث بشكل عام ومختصر ومركز كي تنجح في استخلاص العبرة والدرس من عدة أحداث عبر عدة قرون.
لذلك فهؤلاء يفيدهم النظر إلى التاريخ من خلال العدسة المحدبة التي تقوم بتصغير حجم الوقائع واليوميات وإهمال التفاصيل والاكتفاء بإعطائهم الصورة العامة للحدث التاريخي.
ومثال ذلك كثير من الكتابات الفكرية الهامة في الحضارة العربية أو الغربية سواء من القدماء أو المعاصرين، مثل الموسوعات المختلفة وكتب تاريخ العلوم، وكتب معالجة أزمات المجتمع الأخلاقية والسياسية وغيرها.
ونجد أمثلة هذه الكتابات في تراث مفكرنا الكبير (مصطفى محمود)، وفي تحليلات العالم العراقي (أحمد الكبيسي) في تاريخ وقصص الأنبياء، وكتابات (عباس العقاد) في تحليل التاريخ الإسلامي وفي كتابات (خالد محمد خالد) وغيرهم من مفكرينا المعاصرين

*العدسة المقعرة.
وهي التي تقوم بتكبير حجم الأشياء عن حجمها الطبيعي وتعطيها حجما أكبر بأضعاف.
وهذا النوع من العدسات هو الذي يستخدمه المفكرون الاستراتيجيون وقادة الرأي العام، وعلماء الاجتماع أصحاب الرؤية النقدية النافذة ممن يلعبون أدوارا عظمى في أوطانهم بل ويكون لهم القدرة على تغيير موازين مجتمعاتهم سياسيا واجتماعيا وحضاريا.
وهؤلاء هم من يستخدمون العدسة المقعرة لتكبير أحداث صغيرة الحجم والتأثير بالمقاييس العادية لكنها تصبح بالنسبة لهم أحداثا كبرى وصاحبة التأثير الأكبر في المجتمعات.
حيث يتناولون هذه النقاط الصغيرة ويفصلونها بالشرح والتحليل والتركيز، ليخرجوا منها بأكبر الفوائد المتمثلة في وضع تصور شامل للأزمات ووضع الحلول المناسبة لها
وأول وأكبر المفكرين في هذا المجال هو العلامة (عبد الرحمن بن خلدون) الذي أسس (علم الاجتماع) بكافة فروعه، وانتشرت كتبه وأبحاثه لتكون الأساس الذي اعتمدت عليه حضارتنا والحضارة الغربية في مجالات علم الاجتماع الحضري والسياسي
وامتلك ابن خلدون مكانة عظمى في مجال الفكر الاجتماعي والسياسي، هي نفس المكانة التي حظي بها (الخوارزمي) في مجال الرياضيات بعد تأسيسه لعلم الجبر والتفاضل والتكامل، وكذلك مكانة (ابن النفيس) في الطب والجراحة وغيرهم كثير.
وقد ابتكر ابن خلدون طريقته في النظر للتاريخ عن طريق تركيزه الشديد على تأثيرات البيئة والطباع المجتمعية في صناعة الأحداث، وكتب مقدمته الشهيرة (مقدمة ابن خلدون) التي جعلها تلخيصا لمدى تأثير البيئة والطباع على التاريخ العربي.
ثم كتب بعدها كتابه الموسوعي (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر وغيرهم من ذوي السلطان الأكبر) والمعروف باسم (تاريخ ابن خلدون)
والمتأمل في مجموع ما قدمه ابن خلدون في المقدمة والتاريخ يجد أنه روى التاريخ مختصرا في الأحداث والوقائع لكنه كان شديد التفصيل والتأصيل في النتائج والأفكار.
وقد صاغ أفكاره التي حددت نقاط القوة والضعف وأسباب قيام الحضارات وانهيارها بشرح سلس ولخصها بعبارات جامعة مانعة منها تلك التي شرح فيها آفة الطباع العربية في قوله:
(فهم متنافسون في الرئاسة وَقَلّ أن يُسَلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره)
والتي تم تلخيصها في الحكمة الشهيرة:
(آفة العرب الرياسة)
وهي عبارة تستحق شرحها برسالة دكتوراه، إذ وضع ابن خلدون يده على الداء الأكبر في المجتمع العربي بأكمله ألا وهو حب الرياسة والتصدر، ومهما كانت شدة الحروب على أنفسهم وهم في وقت اجتماعهم تجدهم على قلب رجل واحد لا يقدمون إلا المصلحة العليا.
وما إن يتم لهم النصر ويبدأ التفكير في الغنائم حتى تظهر المصالح الشخصية.

كذلك من أبرز من استخدموا العدسة المقعرة لمعالجة التاريخ مفكرنا الكبير (جمال حمدان) والذي وضع موسوعته الكبرى (شخصية مصر ــــــــ دراسة في عبقرية المكان).
وعنوان الدراسة وحده كفيل بمنحه درجة العبقرية حيث عالج جمال حمدان مبرر الأهمية الكبرى لمصر في سائر عصورها بين دول العالم من خلال التأمل في تاريخها بتوسع، والنظر في أسباب وقوعها دوما في قلب الأحداث الإقليمية والعالمية.
وانتهى في دراسته إلى أن عبقرية المكان الجغرافية هي التي جعلت من بروز أهمية مصر قَدَرا متكررا ومحسوما، كما أن مكانها المتفرد فرض عليها مفهوما واسعا لأمنها القومي يتخطى حدودها باستمرار.
لأنه مع هذا الموقع الواقع في قلب العالم من المستحيل أن تنعزل مصر عن محيطها الإقليمي أو الدولي وتكتفي بحدودها الجغرافية وحدها كصمام أمان.
لذلك دوما كانت في حاجة للتحالفات وللدخول في معارك دفاع عن الأراضي المحيطة بها شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
كذلك عالج جمال حمدان واحدا من أخطر عيوب الشخصية التاريخية في مصر، وهو عيب شامل متكرر عبر تاريخ مصر القديم والحديث.

فمصر تضيق بالعباقرة فعليا في كل مجال، وبدلا من أن تصبح هذه الحالة منحة تفوق أصبحت في المجتمع المصري آفة خطيرة في كثرة الكم والكيف من حيث النبوغ، مما أدى لأن تكون طاقة المجتمع السلبية موجهة دوما للمتميزين والعقليات المتفوقة الذين ينبغون في الغالب خارج بلادهم، ويبرز القليل منهم داخل البلاد
في نفس الوقت الذي تنساق العقلية المجتمعية لعديمي الموهبة إذا امتلكوا القدرة على النفاق الاجتماعي الذي يجذب العوام بعيدا عن الخطاب النقدي الذي يستخدمه أصحاب العقليات المتفوقة!
فقال جمال حمدان عن هذه الصفة العجيبة:
(واحد من أخطر عيوب مصر هي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق، الأمر الذي يؤدى إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط، ففي حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القميء، فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز، فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون إتباعيا لا ابتداعيًّا، تابعًا لا رائدًا، محافظًا لا ثوريًّا، تقليديًّا لا مخالفًا، ومواليًا لا معارضًا. وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها تتعثر أقدامها في العمالقة وقد تطؤهم وطئًا

كذلك من مفكري مدرسة العدسة المقعرة أستاذنا وأستاذ الأجيال (محمد حسنين هيكل) ومفكرنا الكبير (عبد الوهاب المسيري)
وكلاهما توجه بالعدسة المقعرة لأهم قضايا الأمن القومي عن طريق توجيه العدسة المقعرة لأدق التفاصيل المهمة في علاقتنا مع الغرب، فتناولها هيكل من خلال التحليل الفذ للوقائع السياسية، وتناولها عبد الوهاب المسيري من خلال دراسة بالغة العمق للتوجه الفكري الغربي وتتبع مدارسه المعاصرة وانهيارها الأخلاقي والتركيز على إسرائيل كصنيعة غربية محضة بهدف تحقيق الفلسفة المادية القائمة على تحويل البشر لمادة استعمالية –على حد تعبيره-أي تحويل الإنسان لآلة مادية لا تربطها أو تُقَيدها الأمور المعنوية كالأخلاق والأديان.
وهذا التوجه هو الهدف الاستراتيجي الذي قامت عليه الرأسمالية الأمريكية المسماة بالليبرالية الجديدة والتي تجاوزت حتى التطرف المالي في الرأسمالية الأصلية التي وضعها (آدم سميث) بكتابه الشهير (ثروات الأمم).
أما هيكل فقد كان دوره السياسي واحدا من أهم وأخطر الأدوار التي نقلت لنا من الوثائق الغربية والعربية تاريخ منطقة الشرق الأوسط في واحدة من أحلك فتراته وهي فترة القرن العشرين وركز على المشروع الصهيوني وعاونته عقليته المتفوقة ومصادره العميقة والمنتشرة على إخراج أهم موسوعات التاريخ الحديث على الإطلاق.
حيث ركز بالعدسة المقعرة على التفاصيل الخفية شديدة التأثير والتي كان لها أخطر الأدوار في تحويل مسار تاريخ المنطقة خلال الحربين العالميتين" "

من خلال هذه الرؤية نستطيع أن نضع أيدينا على مفتاح الفهم في قضية فلسطين.
لأن النظر إلى القضية الفلسطينية في حدود مُسَمّاها، هو القصور بعينه.
فالقضية الفلسطينية حَمَلَت عنوانا ضخما هو (الصراع الأزلي بين الشرق والغرب)، والذي بدأ في عصره الأول مع تكوين دولة الخلافة الراشدة وسحق فارس والروم، وانتهى هذا الفصل بالريادة والسيادة التامة لدولة الخلافة في عصورها الذهبية.
وبدأ بعدها الفصل الثاني مع ضعف وتشرذم إمارات الخلافة العباسية منذ عصرها الثاني واحتفاظها فقط بالمسمى المنتمي للخلافة، وهي المرحلة التي بدأ فيها الغرب يستعيد قوته وشن حملته الصليبية الأولى ثم سقطت القدس والشام وتكونت إمارات الصليبيين فيهما، وكان هذا الفصل إيذانا بظهور عهد المقاومة وظهور الإمارات القوية المستقلة التي خاضت المعارك ضد الصليبيين من بداية تجربة (نور الدين زنكي) و(نور الدين محمود) و(صلاح الدين الأيوبي) حتى الحملة الصليبية السابعة التي انكسرت في مصر في نهاية العصر الأيوبي وبداية عصر المماليك الذي وقف فيه المماليك أيضا ضد الصليبيين والمغول بالذات في عهد المماليك الأقوياء مثل قطز وبيبرس وقلاوون وأبناؤه خليل ومحمد وغيرهم.
وهذا الفصل انتهى بانتصار الشرق الإسلامي أيضا ولو أنه كان انتصارا بالنقاط لا انتصارا بالضربة القاضية كما هو الحال في عهد دولة الخلافة القوية (الراشدة – الأموية – العباسية)
وبدأت الجولة الثالثة ببداية تكون الخلافة العثمانية التي نشأت كإمارة صغيرة على أطراف الشام العليا وامتدت وتوسعت وسببت انشغالا أوربيا ساحقا بالعثمانيين الذين خففوا الضغط على جبهة الشرق بغزاوتهم ضد الروم.
وكانت العلاقة بين العثمانيين والمماليك علاقة تحالف حتى ثارت الخلافات والطموحات بين (سليم الأول) و(قنصوه الغوري) ودخل سليم الأول لمصر وهنا أصبحت الخلافة العثمانية هي الركن الجامع لأراضي الخلافة الإسلامية التاريخية فضلا على الأراضي الشاسعة التي فتحتها في أوربا بما فيها الإنجاز الأعظم وهو إسقاط دولة الروم بسقوط (القسطنطينية) في عهد (محمد الفاتح)
وهنا تمكنت الخلافة العثمانية من تجديد شباب دولة الخلافة الأولى بعصرها القوي ونجحت في فرض إرادتها على سائر أوربا لتنتهي أحلام أوربا والحملات الصليبية بشكل تام في ذلك العصر بعد أن أصبحت أراضي أوربا نفسها نهبا للعثمانيين.
وبالتالي انتهت الجولة الثالثة من الصراع بتفوق ساحق ولكنه تفوق استمر ساحقا من عصر العثمانيين الأول حتى نهاية عصر السلطان (سليمان القانوني)
وهنا مَرّت الخلافة العثمانية من عهد (سليم الثاني) إلى نهايتها بمراحل ضعف متدرجة، بدأت بسيطة ولكنها تعاظمت بمرور الزمن حتى دخول العصر الحديث.
وبدخول العصر الحديث بقيام الثورة الفرنسية كان المسرح في أوربا قد شهد ميلاد قوى عظمى عسكرية وعلمية لا سيما في بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا وهولندا الذين قاموا بغزو البحار والمحيطات واستعمار الأراضي الشاسعة في أقاصي الأرض.
وبدأ النظر يكثر لميراث الخلافة العثمانية في الشرق بالتحديد.
وهنا كانت بداية الجولة الثالثة من الصراع بالحملة الفرنسية على مصر.
وكانت الحملة الفرنسية –كما سنرى-هي السبب الرئيسي في تحويل الشرق الأوسط لمنطقة صراع عالمية شديدة التأثير على العالم أجمع.
لأن المؤامرة الغربية التي تطورت بإضعاف العثمانيين وضرب تجربة (محمد علي) في مصر والتمهيد لاحتلال مصر والشام، هذه الأحداث كلها رسمت خريطة تفصيلية لكل ما حدث بالعالم أجمع بعد هذا التاريخ.
ولنا أن نتخيل أن قضية فلسطين وتوطين اليهود في فلسطين، كان عنوانا لحرب عالمية فكرية خسرها الشرق وربحها الغرب وفرضت النظام العالمي الجديد الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة وأوربا الغربية أصحاب معادلة القوة في كل ركن من العالم حتى اليوم.

لذلك فإن ضرورة فهم القضية الفلسطينية لابد أن يتم في هذا الإطار حتى يمكن القول بفهم أبعاد هذا الصراع

ولهذا كله فإن النظر للقضية على أنها قضية تحرير المسجد الأقصى والأراضي المحتلة والخلاص من العدو، ستكون نظرة قاصرة حتما لأنها تقصر القضية على المقاومة المسلحة المماثلة للمقاومة التي اشتعلت في بلادنا العربية كافة ضد المحتل الغربي خلال القرن العشرين
بينما احتلال فلسطين كان احتلالا عسكريا واستيطانيا مختلفا ووراءه مشروع سياسي واقتصادي متكامل.
فالاحتلال الغربي لمصر والشام والعراق واليمن وليبيا والمغرب العربي، كان احتلال الجيوش والقواعد العسكرية، ومثل هذا الاحتلال محكوم عليه بالرحيل مهما طالت المدة.
أما الاحتلال في تجربة فلسطين فكان احتلال التطويع لا احتلال السيطرة، واحتلال الاستيطان لا احتلال استغلال الموارد فقط، احتلال تأسيس للسيطرة الغربية على الشرق الأوسط لا مجرد احتلال عسكري لأقطار استراتيجية

كما أن النظر إلى القضية الفلسطينية على أنها فلسطينية وفقط، أو مسألة دينية وفقط، أمر قاصرٌ جدا لأن مسألة فلسطين ليست مسألة قومية ضيقة ولا يمكن أن تكون، فالنُظم والتقسيمات الحدودية الحالية كانت تقسيما فرضته القوة الغربية من خلال اتفاقية سايكس بيكو، بينما التقسيم الأصلي في زمن الخلافة العثمانية وما قبلها لم يكن يعرف من الدول المركزية في المنطقة إلا عددا محدودا من الدول ذات العمق التاريخي.
وهذه التقسيمات فرضها الاحتلال لخدمة مصالحه كما سنرى.
ومن ناحية أخطر.
لم تكن فكرة زرع اليهود في فلسطين فكرة قومية أو حتى دينية الهدف منها جمع شتات اليهود، بل الفكرة-كما سنرى-هي استمرار فرض القوة الغربية المحتلة لسطوتها على منطقة الشرق الأوسط بأكمله، ومنع أي محاولة جادة للتوحد بين دول المنطقة سواء كان توحدا جزئيا أو كاملا.

ومن خلال الرؤية المتعمقة أيضا سندرك حقيقة أخرى كان ينبغي أن تكون في مقدمة الحقائق التي يجتمع عليها الناس.
ألا وهي فكرة معرفة حدود الحرب بيننا وبين الغرب.
فالحرب بصورتها القديمة كانت حربا مسلحة أي حرب تكسير عظام وفرض الإرادة بالقوة، لكن الحرب منذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت أصبحت حرب (استراتيجية فكرية) وأصبحت الجيوش فيها أداة وعامل من عوامل القتال لا أكثر.
حيث أصبحت الحرب الفكرية هي الأصل والأساس الذي نجحت به القوة الاستعمارية في تفتيت المنطقة وفرض الحصار عليها دون استخدام القوة المفرطة، أو التكاليف الباهظة حيث وضعت دول المنطقة بأكملها داخل دائرة محدودة لا تخرج منها مهما حاولت.
وبما أن الحرب الفكرية الغربية نجحت نجاحا ساحقا في فرض إرادتها على المنطقة منذ بدايات القرن العشرين، فهذا يعني أن فَهْم هذه الحرب وفهم أبعادها وكيف بدأت أصبح الآن هو الهدف الأهم والأسمى لتأسيس جيل التحرير الذي سيحمل على عاتقه شرف القتال لأجل قضية الأقصى.
فالمعرفة، والمعرفة الواعية وحدها هي التي تؤسس المقاتل ليصبح مقاتلا عن عقيدة واعية، يدرك بها عدوه، ويدرك بها المتخفي في شكل الصديق بينما هو أعدى الأعداء.

وهذا الكتاب محاولة لقراءة وفهم القضية في مجملها بثلاث نقاط.
النقطة الأولى:
وهي أننا سنترك مصادر الكتاب في الهوامش لمن أراد التفاصيل التاريخية كاملة وبهذا تتوفر العدسة المستوية لمن أراد التاريخ كاملا.
والنقطة الثانية:
وهي العدسة المحدبة التي سنسلطها على الأحداث التاريخية لنمزج بين الوقائع العسكرية والاختراقات الفكرية معا ونشرح كيف نجح الغرب في تحقيق النجاح فيها بصبر واستماتة.
والنقطة الثالثة:
وهي العدسة المقعرة التي سنضخم فيها الخطوات التي اتخذها الغرب لتأسيس منهج (الصهيونية المسيحية واليهودية)، وسبب لجوئهم لتلك النظرية في التعامل مع العرب وكيف نجحت خطوات المشروع الصهيوني في إفراز الوضع الحالي للدول العربية.
وهو الوضع المزرى الذي لم تشهده أمة العرب منذ قيامها قبل ألف وأربعمائة عام!
حيث رأينا في الأحداث الجسيمة المعاصرة ما لم نتخيله في أبشع كوابيسنا، حيث تعربد إسرائيل بجيشها وعنفوانها على أقصى اتساع دون أدنى رد فعل من الأنظمة والجيوش العربية للدرجة التي تُعجزهم -حتى عن المساعدات المدنية-بغير الموافقة الإسرائيلية!
ناهيك عن وجود الأنظمة الحليفة لإسرائيل والغرب والتي تعادي المقاومة الفلسطينية بأكثر مما يعاديها الغرب نفسه!
فهذه الظواهر كلها في حاجة إلى تفسير وقراءة تاريخية تزيل اللبس الواقع في نفوس وعقول الأجيال الجديدة التي لا تدري كيف وصلنا إلى هذه النقطة.