الموضوع: صفحتي الهادئة
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-03-2013, 11:30 AM
المشاركة 21
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


حرقة الغربة التي استشعرتها في الأسبوع الأول تعادل ما تعانيه الأرملة حين تترك وحيدة لمجابهة الحياة بلا رفيق و لا مؤنس ولا رؤوف تأوي إليه في ليلي الشتاء الطوال ، و لا مرفه ينعشها أيام القيض المحرقة ، ليس بالهين أن يفطم الرضيع بعد تعوده على ثدي أمه أكلة شهية وشرابا معسولا ولعبة لينة يصنع منها أشكالا تروقه ، نهاية الأسبوع أرتقبها بلهفة العطشان ، وشراهة الجائع وشهوة العازب ، عشرة أميال كل ما يفصلني عن مضجعي ، عشرة أميال أشقها مشيا على القدمين ، مرة أجري ، مرة أقفز عبر طريق محجرة معوجة حفرت فيها حوافر البغال أخاديد كتلك التي تتركها مياه الأمطار حين تجرف التراب في المنحدرات ، لا أبالي بالتعب ، ولا الملل ، تتراءى أمام مقلتي زوايا منزلنا ، أكاد أشاهد أمي راكعة فوق موقد ناري تسوي العجين على خزف مقوس يشتغل جوف الموقد ، أكاد أشم رائحة الخبز وقد احترقت جوانبه .
كل يوم نطوف على أعداد من الأساتذة ، كل منهم ينتهج منهجا مخالفا للآخر ، فذلك مرح مشجع والآخر ناقم عصبي ، وفلان مسترخ لين لا يكاد يحس بالسرعة من حوله ، والآخر عنصري يتقطر حقدا على البدويين ، و قد تجد من بينهم إنسانا عمليا غير قابل للتصنيف ، كل منهم يفرغ حمولة زائدة على ذاكرة التلميذ المتعبة ، بدأ عودنا يتصلب ، و بدأت أصواتنا تأخذ نبرة رجولية ، نستحلي كل ما هو عاطفي ، كان أستاذ اللغة العربية العربية من يصب في نارنا زيتا ، فارع الطول مزغب اليدين ، ذو شنب كث أسود ، كثير التدخين ، أستاذ متفهم لا تسمع من فمه سبا وقدحا ، يؤدي رسالته الأدبية بامتياز ، متزن في علاقته مع التلميذ ، يتقمص دور الكاتب أو الشاعر حتى لا نكاد نفرق بينهما ، قصائد ونصوص بذرت في أعماقنا فنون الإحساس والذوق الجميل ، و بدأت أرواحنا تفنى في شخوص جهابدة هذا الميدان ، فترانا ندافع عن ذلك الجاهلي ضد أو مع قبيلته ، ونلتمس للمتغزل شفاعة عند أهل معشوقته ، و نوافق الصعلوك على تمرده الناجم عن حب الفضيلة ، ونسترجع أمجاد الأجداد ، وخيولهم المثيرة للنقع ، وبصماتهم الفنية على لوحات الأندلس ، و نحيي كبرياء حكامنا باستجابة شافية لندبة آتية من روما ، بدأنا نموقع ذاتنا بعيد عن الحيز الجغرافي الضيق بعيدا عن تلك القرية البسيطة والبلدة التي استوطناها لمدة تقارب الثلاث سنوات ، نستشف الصراع والوطن ، أخذ جوفنا يتعكر ، نتجرع بمرارة واقع وطننا القابع في ذيل الأوطان ، و يسير بتبعية عمياء لأوطان يقال عنها عظيمة ، متقدمة ، كبيرة . ندرس التاريخ فتلقاه ممتلئا بطولة ولا نجد تفسيرا لتدحرجنا إلى الحضيض ، وبدأ عزوفنا واضحا عما تقدمه شاشة التلفاز وأصوات المذياع ، حيث التغني كل يوم بتقدم مطرد و نمو متواصل في كل المجالات وفي كل ربوع الوطن ، فقدنا الثقة في كل ما كتب ويكتب ، و كل ما يقال . كنا نستهلك الأغنية الساقطة الهابطة والتجارية بلغتها الرديئة هي ما كان يبهجنا في الماضي القريب ، اكتشاف التناقض متزامن والسماع عن لون مغاير بإيقاع حزين مهيج و خطاب يرصد من الحياة وجها سلبيا قاتما ، يشاهد الدنيا بمنظار أسود فلا يكاد يفرق بين مرج أخضر وصحراء مقفرة .