عرض مشاركة واحدة
قديم 12-19-2011, 11:18 AM
المشاركة 154
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
هاني الراهب
30 تشرين الثاني 2010
المقدمة
من غيمة تُدعى مشقيتا، هطل هاني الرّاهب، مثل مطر نيسان في أيار عام 1939، خافضاً درجة حرارة الرّواية التّقليديّة، مُنْعِماً بخيراته على قمح الرّواية الجديدة، وهو في طور الإزهار والإثمار، فزاد حبّاته امتلاءً واكتمالاً، جاعلاً إياها تنمو وتنضج، مطوّراً محصول الإبداع الرّوائي كمّاً وكيفاً.
ولادة هاني الراهب وحياته
حين شعرت أمّه «نزهة» بالمخاض، تركت الغرفة التي تسكنها عائلتها، المكوّنة من تسعة أشخاص، والتجأت إلى المطبخ الذي تشترك باستخدامه خمس عائلات، وأغلقت بابه من الدّاخل، ثم تمدّدت في إحدى زواياه منفردة، بآلامها وبالمخاطر التي تهدّد حياتها، إلى أن ولدت هاني محمّد علي الرّاهب، وذلك في عام 1939.
ما إن فتحت الأم باب المطبخ، حتى ارتفع صوت المولود، وأقبل عليها زوجها ببشاشته المعهودة، وهو الأبكم والأصم، ذو اللّحية البيضاء، المسترسلة على صدره، حتّى خصره النّاحل.
عانى هاني الراهب في طفولته من ترحال عائلته بين قريته ومدينة اللاذقية، ومن آثار عواصف الحرب العالمية الثانية، التي كانت تهب من كل اتجاه وتنذر بتدمير العالم، وقد خزّن الكاتب في قبو ذاكرته مشاعر الخوف، الظلم، القلق والنّقمة لتنعكس صوراً في رواياته، وجراحاً لم تندمل حتّى وفاته.
أمضى هاني طفولته في رعاية أمّه وأبيه وبعض أخوته، وبدأ دراسته في مدرسة القرية الابتدائية، إلى أن توفي أخوه عليّ، الذي كان يعمل في اللاذقية ويتولّى رعاية العائلة بكاملها، عن عمر لم يتجاوز الاثنين وعشرين عاماً.
تولّى أخوه سليمان، رعاية هاني الصغير، حتّى حصل على الدرجة الثانية في الثانوية العامة، فمنح مقعداً مجانياً في جامعة دمشق، قسم اللغة الإنكليزية، كما منح راتباً شهرياً قدره 180 ليرة سورية.

في أواخر عام 1957 سكن هاني الراهب مع اثنين من رفاقه في غرفة واحدة في حي الشعلان، ثم دعاه أخوه هلال الرّاهب للعيش معه.‏
تخرّج هاني الراهب من كلية الآداب وعُيّن معيداً في قسم اللغة الإنكليزية، ثم ما لبث أن منحته الأمم المتحدة مقعداً في الجامعة الأمريكية في بيروت، وخلال عام واحد، حصل على شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي، وحصل في لندن على شهادة الدكتوراه خلال سنتين ونصف.
المهزومون
أعلنت دار الآداب في عام 1960، عن مسابقة للرواية العربية اشترك فيها أكثر من مئة وخمسين كاتباً عربياً، وكان هاني الراهب طالباً في جامعة دمشق، لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين. وكانت المفاجأة بأن فازت روايته «المهزومون» بالجائزة الأولى، ليبرز الراهب ككاتب يمتلك رؤيا من نوع خاص، يمتلك حدساً بالمستقبل يقترب من النبوءة فى بعض ملامحه. ففي «المهزومون» التي غلفتها نفحة من السارترية والعبثية في آن واحد، قدم تصوراً عميقاً للحالة العربية التي تعانى التفكك والانعزال، وتوقع سلسلة من الهزائم تبدأ بسقوط الشعارات الواهية التي كانت تطلقها الأنظمة العربية آنذاك، هذه الشعارات التي جعلها غلافاً لروايته، ليخبرنا عن مدى هشاشة هذه الأنظمة وشعاراتها الزائفة، وهذا ما حدث فيما بعد حيث توالت الهزائم العربية داخلياً وخارجياً على نحو مأساوي مفجع.
المتمرد والمتأمل
رفض هاني الرّاهب الكتابة الكلاسيكيّة، ونادى برواية جديدة بتقنياتها، تتجاوز حدودها الوطنيّة، دافعاً بها إلى آفاق جديدة، مكوّناً لنفسه مجرى خاصاً به، مستقلاً، وبالغ الأهميّة في العالم العربي والعالمي، في وقت، اكتفى فيه الكتّاب، بالقصة والرّواية الكلاسيكيّة التي تهدف إلى كتابة تاريخ الإنسان، كمؤرّخين، يكرّسون أنفسهم كشاهد أمين على حياة بعض الأشخاص، ناقلين تجاربهم المعاشة. فالشاهد المباشر في رواية هاني الرّاهب، ينتمي إلى عالم الخيال مهما كان شكله، وشأنه في ذلك شأن الوقائع التي يرويها، لتنحو منحى تأمّلياً، بنبرات وجودية واضحة، بغية استخلاص معنى، والتعبير عن أسلوب للحياة، وعن هويّة، بلغة بسيطة قريبة من لغة الحياة اليومية من حيث المفردات وقواعد النحو، وهي تجسّد طابع التفتّت بتراكم الجمل القصيرة، وتتجنّب إلى أبعد الحدود إقامة صلات سببيّة، وإبراز بعض العناصر على حساب أخرى. وهناك تعابير ومفردات تعود باستمرار مثل لحظة عابرة، تشير إلى الزمن الذي يمضي، وخيبة وضجر وغربة وقصور، للتأكيد على قلق الأشخاص.
يبدو بناء القصة عند هاني الراهب مفكّكاً دونما اتساق. ففي الرواية الكلاسيكية تشكّل الأحداث الهيكل العظمي للرواية، وهي تتسلسل وفق ترتيب زمني ومنطقي، وتتواصل بصورة لا يمكن فصل بعضها عن البعض الآخر، وتتضافر على إيصال القصة إلى نهايتها. إنها تشكل ما يشبه حلقات سلسلة، إذا غابت إحداها تأثرت القصة بمجموعها. على أن هاني الراهب لم يعد يرضيه هذا النموذج الذي لم يعد يعكس الواقع العربي المعاش. وهو يرفض الحوارات الهامشية جداً في هذه الرواية. ويعطي وظيفة جديدة للحدث على الأخص، عن طريق طبعه بخاتم التفتّت. يضع هاني الراهب النص بصورة رئيسة على المسرح، كمجموعة من الطلاب تضم أدباء، وهؤلاء الأشخاص يتناولون في مرّات متكرّرة موضوعات أدبيّة بصورة خاطفة. وحين يصل النقاش إلى الحدَث يجري التّأكيد على أنّه فقدَ أهمّيته: «من يكتب عن مجدّد يكتب رواية مشتّتة. حياته ليست سلسلة، بل حفر ومطبّات وبقع ضوئيّة، الحادثة لاتهم لأنها لا تمثّل حياته. كلّنا لا نطرح أنفسنا من خلال الحياة اليومية لأننا نعتبرها غريبة عنا وليست الحياة التي نحلم بها»، وقد نادى هاني الراهب بهذه الأفكار منذ عام 1965 في مجلة «المعرفة»، والتي تتمثل في أنه يبحث عن أسلوب جديد للكتابة، أشبه بلوحة تنقيطيّة، عن طريق تكديس لمسات صغيرة، ومشاهد من الحياة اليوميّة، حتى أكثرها تفاهة، أو أكثرها سخفاً، وهذه تتضافر لإعطاء المعنى العام للمؤلَّف، وهو أن العالم ليس إلا فرقة، حزناً، ضجراً، خيبة، وقصوراً.
ينفجر الحدَث في روايته عبر عواطف وأحوال، وفي شخصياتٍ ومعانٍ، فالحدث ليس أحد العناصر الجوهرية في القصة، بمعنى أنه لم يعد المحرّك المباشر للحبكة، ولا تعبّر عن عوامل تغيير، أو وقائع فريدة تطوّر الوجود الجماعي، أو الفردي للأشخاص. إنها تنقل محيطاً، جواً عاماً يمتد على طول النص من أوّله إلى آخره. وليس لهذه الأحداث معنى بذاتها، ولكنها تكتسب معنى بالعلاقات التي تقيمها مع الأحداث الأخرى، وترابطها مع أفعال أو عواطف، وبالتعليقات أو الصور التي ترافقها، من دون تسلسل للأحداث، حتى أن الروابط تضيع بينها، فإن حذفت عدداً كثيراً من صفحاتها أو قليلاً من أي مكان، لن تشعر بنقص في تسلسل أحداثها.
تتأرجح شخصيات هاني الراهب، بين احترامها للتقاليد وإرادتها للتقدّم والحرية، بالرغم من ظروفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي لا تسمح لها دائماً بالازدهار والعيش في سلم ورخاء. يتحكّم هاني الراهب في المعنى، ويختفي بصفته سلطة تعبيرية ليترك الأشخاص يستولون على الكلمة، ويتيح للقارئ الاستيلاء على المعنى، كما في روايته «شرخ في تاريخ طويل»، وهذا القارئ في الحقيقة، هو الذي سيستخلص من التجارب طابعها العام، ويربطها بالزمن الجماعي، ألا وهو زمن التاريخ.
لقد كتب هاني الراهب في كانون الأول 1969 أن العالم العربي يواجه مشكلتين رئيسيتين: التجزئة والتخلف. ولهذه الأسباب كانت هزيمة 1967 مكتوبة سلفاً في الحياة العربية اليومية، قبل أن تتحقق في ساحة المعركة، وأكّد أن على الأدب أن يأخذ بالحسبان هذه العوامل، وأن يعمل لتلبية حاجات التغيير في المجتمع: «الثورة خلق وتكوين جديدان، كذلك يجب أن يكون الأدب». ففي رواية «المهزومون» يؤكد على خط الأشخاص المشبعين بالرغبة في الحياة، والمتحرّرين من الضغوط الفكريّة والاجتماعية التي تعيق وجود السوريين: «أريد أن أشرب الحياة، أعبّ الحياة، أمتصّها، وأنسفح على أعصابها، وأنغمر في أعماق لذائذها ووجودها».

شرخ في تاريخ طويل
هي رواية قصص حب خائبة، أقامها الراوي والبطل أسيان على التوالي مع سوزي، ومرام، ولبنى. ويعود السبب الرئيسي لهذه الإخفاقات إلى النظام الاجتماعي العام الذي يمنع الأفراد من التعبير عن أنفسهم بحرية، وإظهار انفعالاتهم بصورة عفوية.
إن الحب مستحيل، لأن المحيط يتفنّن في إقامة الجدران التي لا يمكن اختراقها بين الناس ذوي الأخلاق الحسنة. ونصادف هنا من جديد نقد القوى الاجتماعية المحافظة السائدة، تلك القوى التي تتمسك بالمظاهر، بدلاً من القيم الاجتماعية الإيجابية، وتمنع الناس من أن يعيشوا كما يرغبون، في فرح وتفتّح.
ولما كان الحب ممنوعاً، فإنه لا يبقى أمام المرء لعلاج كبته إلا الخُطبات الخاطئة، أو العلاقات الجنسيّة التجارية، أو العادة السريّة. لأن هذه التيمة المحدودة للحب ليست إلا عرَضاً من أعراض الجو العام للضغط وعدم الرّضا السّائد. فالنظام الاجتماعي يمنع الصدق والحرية في جميع أحوال الحياة. وتغيير ذلك يعني أن ندق إسفيناً في الحالة الراهنة، ونعمل من أجل ثورة شاملة تمس جميع قطاعات الوجود العربي، وهذا ما يحاول أسيان شرحه لأحد أصدقائه.
«أسيان، لماذا تضيع حياتك متقطّعة. أنت موهوب وفهمان، اعمل ليستفيد منك وطنك. الوطن في حاجة لك، لجميع المخلصين، أليست بلادنا في حاجة إلى ثورة شاملة؟
ـ أريد امرأة أعيش معها ثورتي وبعدئذ أنطلق إلى ما هو أوسع. أكوّن أسرة وأنشئ أطفالاً أصحّاء.
ـ عصرنا لا يسمح لك بهذا الترك. هذه قضية صغيرة. أنت للوطن ولست لنفسك.
ـ عندما أعيش مع امرأة لا تتمزّق علاقتنا أكون قد صنعت ثورة كاملة. خدعتنا الشعارات الكبيرة، وغفلنا عن قصورنا الشّخصي».

ومدينة دمشق، المكان الاجتماعي بامتياز، تجسّد في معظم الأحيان هذا الانقسام، هذا التفتّت، عن طريق وضع حواجز داخلها: حواجز ماديّة أو رمزيّة تقيمها بين الناس وبين الجنسين بصورة خاصّة.
"رأيت البيوت المنظّمة حولي ـ بعضها غارق في الظلام، وبعضها مغلق على أنواره ـ والشوارع المنظّمة. عوالم سحيقة صامتة مفصولة بآلاف السدود والسنين. صبوات وخيبات أعلت بين الناس جدراناً من القيم والتقاليد وملأتها بالنوافذ والستائر، وصاروا يتحرّكون داخلها ويضاجعون ويأكلون ويلبسون الثياب ويتكلّمون في شؤون الدّنيا وأكثر من ذلك يطلقون أحكاماً». هذا الفصل قائم يومياً، وفي جميع الأنشطة الاعتيادية. والناس يعيشون في مكان وزمان يفصلان بعضهم عن بعض. هذه الجدران تقف حاجزاً أمام الحاضر، فأسيان يضطر إلى التصرّف كغريب حين يزور سوزي، المرأة التي يحبّها، وهو يشعر بأنه مستبعد من المشهد الذي يدور أمام عينيه، ولم يعد إلا متفرّجاً خارجيّاً، والأشخاص الذين يرون أنفسهم محصورين بين ماضٍ يفرض قوانينه الخاطئة، ومستقبل يبدو أنه لا يقدم فرصة للأمل، هؤلاء الأشخاص يستمرّون في الحياة بانتظار الموت. شيء واحد يمكن أن ينقذهم من الوحدة، ألا وهو الصّداقة التي تُسقط بعض الحواجز وتجعل المدينة غير معادية: «في دمشق لا توجد جدران ولا رمال. ثمّة مجد وسوزي ولبنى ومسعود وبعض لعاب العنكبوت القليل الأهميّة». كل هذا كتبه هاني الراهب بأسلوب العودة إلى الخلف.
يؤدّي الزّمن دوراً مهيمناً، ولكن دون أن يُنظر إليه من الناحية الكمّية التتابعيّة. إنه على العكس من ذلك، كيفي، نفسي، إنه الزمن البشري، الشعور الذي يحسّه كل إنسان باللحظة التي تمر، ويحيله إلى نشاط ذهني لإعادة البناء، من خلال استدعاء أحداث تشكل حياة. هكذا تصبح الفئات الزمنية للحاضر والماضي زاخرة. ففي الرواية يصبح الحاضر «شيئاً معاشاً» يقدم نفسه للقراءة. مروراً بآلية الذاكرة يقدم الماضي نفسه في حالة «حاضر»، يخضع للعلاقات الشعورية واللاشعورية التي تبني ذهن الإنسان.
التلال
هي تاريخ مدينة (وربما تاريخ مدن أخرى، لأنّ مصيرها مترابط) بعليتا، الواقعة في وادي «النهر الكبير»، أي النيل. ويأتي السرد التاريخي حول المدينة ليمثل، بالدرجة الأولى، التقلبات التي عاناها السكان، وطموحاتهم، وآمالهم، وإنجازاتهم: «معظم هذا التاريخ مرشوش الآن على ذاكرة العالم وفي متاحفه. لم يبق منه إلا القليل الذي رأيناه أطفالاً، القليل الغائب عن البصر والبصيرة، الذي يعيشه فقط ورثته، الغائبون هم أيضاً عن البصر والبصيرة. ولكن ما بقي هو الأهم. إنه التاريخ السري الذي تشاء الكتب والمخافر أن تنساه، الذي كلما تقادم اقترب من اللغز والهلوسة والمستحيل».
وهكذا فإن الأدب الخيالي واللجوء إلى الأسطورة والسخرية والرمز وأشكال السرد، يأتون لنجدة التاريخ، ويعيد للمنسيين مكانتهم. فطريقة الكاتب تجمع بين التاريخ «العلمي» والتجربة الشّخصية. فالتجربة الشخصية تسمح بالولوج إلى هذا التاريخ السرّي الذي لا يعرفه التاريخ الرسمي، والذي يعطي مكانة للتاريخ «الشعبي» على أن حضور شخصية «فيضة» يسمح بتجاوز هذا الإطار التاريخي الصرف وإعطاء معنى لحركة الحياة، وزحزحة السّرد نحو هذا «التاريخ السرّي» الذي يحمل في طياته قيماً عالمية، تتجه نحو غرض واحد، ألا وهو الحديث عن الممارسة المعاصرة للسلطة في العالم العربي لإبراز الجوانب السلبية فيها، والمطالبة بقدر أكبر من الديمقراطية. والرؤية التي يقدمها عن هذا العالم ما تزال متشائمة. فالبلدان العربية لم تنجح في إرساء الديمقراطية والسلم على أرضها. ومن خلال القصص الخاصة بالأشخاص تطالعنا خيبة الآمال الكبرى التي حرّكت التقدميين العرب في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحركات التحرر. وقد عبّر الكاتب عن هذا في مجلة ألف قائلاً: «بمعنى أنا أريد أن أحشد أكبر كمية، أكبر حجم ممكن من التجربة ومن البشر في خلق فني ما، فماذا أفعل، أتساءل عندها:
أيها الأقدر على تقديم هذا الحشد، الواقعية أم الأسطورة؟ ويأتيني الجواب: الأسطورية. الواقعية أم الرمزية؟ يأتيني الجواب: الرمزية. هل أهجر الواقع؟ أبداً، الواقع عنصر قائم ونحن لسنا منصرفين تماماً إلى الرمز والأسطورة لأنهما بالأساس نشآ من الواقع».

ألف ليلة وليلتان
نقد للتاريخ العربي في القرن العشرين، وصعود البورجوازية الصغيرة إلى السلطة في بداية الستينات، وإخفاقها في مهمتها لتحقيق التقدم والإصلاح. والأشخاص يمثّلون هذه الطبقة الجديدة المسيطرة، ويظهرون غير قادرين على تلبية توقعات الشعب. فقد جرى تجميد الإصلاح الزراعي، وهيمن الفساد والمحاباة، واحتل الجنس الأولوية أمام الحب الحقيقي، وبقيت التقاليد الأكثر رجعية تحكم العلاقات الاجتماعية، وقد تأثرت المرأة بشكل خاص بهذه الأوضاع، وبقيت خاضعة لسلطة عائلتها التي ترى فيها سلعة للتبادل، وسلطة زوجها الذي يفرض عليها أن تخدمه بصورة عمياء. صحيح أن الفروق الاجتماعية زالت، ولكن الانقسام القائم بين الأغنياء والفقراء ازداد اتساعاً. والمجتمع الاشتراكي التقدمي الموعود بقي بعيداً عن الواقع الممثل في الرواية: «إن اختلاط الأزمنة في الرواية مقصود به الإشارة إلى استمرار عالم ألف ليلة وليلة العربي خلال ألف سنة وسنة، وإن هذا الاستمرار بلغ ذروته عام 1967 عبر هزيمة حضارية أزاحت العرب عن هامش الزمن ووضعتهم في الليلة الثانية بعد الألف: وهذا الزمن الجديد الذي تنتهي الرواية ببدايته سيكون سداة رواية قادمة».
يبرز في الرواية عنصر رئيسي وهو «النعاس» وحياة الناس منظمة فيه، كما هي الحال في الحياة الواقعية، بالتناوب بين النوم واليقظة، ولكن هذه اليقظة ليست إلا جسدية، فالواقع أن المجتمع العربي استكان إلى النعاس، ولن يستيقظ إلا بعد الهزيمة، حيث يقرر قسم من الأشخاص مغادرة عالم ألف ليلة وليلة ومعيشة حياتهم الخاصة. وتنتظم القصة حول فعل «أفاق» الذي يفتتح الرواية، «في زمن ما يفيقون»، وكأن الأشخاص يعيشون في حالة من «النوم، التعب، ليلة بدون صباح، نوم أبدي، الخدر الدائم»، وكأن الزمن قد توقف بالنسبة إليهم، وهم لا يفعلون إلا تكرار النماذج الماضية، غير قادرين على إيجاد حل للأزمات التي يجتازونها، فعالمهم لا يملك من الحداثة إلا المظاهر، فهو يتزين بالكلام الجميل، ولكن مساوئ الماضي ما تزال مستمرة في القلوب، وهو متجمد في أساليب قديمة من التفكير، على غرار الزمن المتوقّف، فالعالم تكبّله التقاليد والديمقراطية الغائبة، وضيق هوامش الحرية بسبب الضغوط السياسية والعقائدية والفنية التي يخضع لها.