عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:09 PM
المشاركة 9
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
هذه هي معجزة تكثير الخبز'، هكذا كان الكولونيل يكرر كلما جلس إلى المائدة طوال الأسبوع التالي.
وبمهارتها المذهلة في الإصلاح والرفأ والترقيع، كانت تبدو وكأنها اكتشفت لغز تدعيم الاقتصاد البيتي في الفراغ. وقد أطال أكتوبر استراحته. وحلت الرطوبة محلٌ الغيبوبة. وانعشتها الشمس النحاسية، فخصصت المرأة ثلاث ليال لتنهمك بتسريح شعرها. 'الآن بدأت الصلاة المغناة'، هكذا قال لها الكولونيل في الأمسية التي حلٌت بها فتائل شعرها الزرقاء بمشطي أسنانه متباعدة. في الأمسية التالية، وهي جالسة في البهو وشرشف أبيض على حضنها، استخدمت مشطا أكثر نعومة لتنزع القمل الذي تكاثر خلال الأزمة. وأخيرا غسلت شعرها بماء الخزامى، وانتظرت حتى جف، ثم عقصت الشعر على الرقبة في لفتين وثبتته بمشبك.
استلقي الكولونيل في الليل مسهدا في سريره، لقد قاسي كثرا وهو يفكر بمصير الديك. ولكن عندما وزنوه يوم الأربعاء كان في حالة جيدة.
في تلك الليلة ذاتها، وعندما غادر أصدقاء أغوستين البيت، وهم يضعون حساباتهم السعيدة عن فوز الديك، أحس الكولونيل أيضا بأنه في حالة جيدة. قصت امرأته له شعره. 'لقد رفعتِ عشرين سنة عن كاهلي' قال لها وهو يتلمس رأسه بيديه. ففكرت المرأة بان زوجها على حق، وقالت:
ـ عندما أكون في حالة جيدة فاني قادرة على بعث ميت من موته.
ولكن إيمانها هذا استمر لساعات قليلة فقط. إذ لم يبق في البيت شيء يستحق البيع، ما عدا الساعة واللوحة. وفي يوم الخميس ليلا، أبدت المرأة قلقها لهذا الوضع أمام نضوب آخر الموارد.
فقال لها الكولونيل مواسيا:
ـ لا تقلقي، فغدا يأتي البريد.
في اليوم التالي، وبينما كان ينتظر مركب البريد أمام عيادة الطبيب، قال الكولونيل وعيناه معلقتان على كيس البريد:
ـ أن الطائرة لشيء عظيم، فهم يقولون بأنها قادرة على الوصول إلى أوروبا في ليلة واحدة.
'أجل، هذا صحيح' ـ، قال الطبيب وهو يهوي وجهه بمجلة مصورة. ورأي الكولونيل موظف البريد يقف بين مجموعة من الناس وهو ينتظر انتهاء المركب من مناورته ليقفز إليه. كان أول من قفز. وتسلم من الكابتن مظروفا ختم بالشمع الأحمر، ثم صعد إلى سطح المركب، حيث كان كيس البريد معلقا فوق برميلين للبترول.
ـ ولكن رغم ذلك، فإن للطائرة مخاطرها قال الكولونيل. وأضاع نظره موظف البريد، ولكنه عثر عليه من جديد إلى جانب الزجاجات الملونة في عربة المرطبات. فتابع قائلا:
ـ إن الإنسانية لا تتقدم مجانا.
قال الطبيب:
ـ أنها حاليا أكثر أمانا من السفينة. فعلى ارتفاع عشرين ألف قدم يكون الطيران فوق العواصف.
ـ عشرون ألف قدم كرر الكولونيل وهو حائر، دون أن يستوعب الرقم تماما.
اهتم الطبيب بالأمر، فشٌد المجلة بيديه الاثنتين إلى أن تمكن من تثبيتها بشكل كامل، وقال:
ـ ثمة استقرار تام.
ولكن الكولونيل كان يلاحق موظف البريد. رآه وهو يشرب مرطبا له رغوة وردية حاملا الكوب بيده اليسرى، بينما كان يمسك كيس البريد بيده اليمني.
تابع الطبيب حديثه:
ـ إضافة إلى هذا، توجد بواخر راسية في البحر وهي على اتصال دائم بالطائرات الليلية. وبهذه الاحتياطيات الكثيرة. فإن الطائرات أكثر أمانا من السفن'.
نظر الكولونيل. إليه وقال:
ـ بالتأكيد. لابد أنها مثل البساط.
اتجه الموظف نحوهما مباشرة. مال الكولونيل برغبة لا تقاوم محاولا قراءة الاسم المكتوب على الظرف المختوم بالشمع الأحمر. فتح الموظف الكيس. وسلٌم الطبيب رزمة الصحف. ثم مزق طرف المظروف الذي يضم الرسائل الخاصة وتحقق من صحة جهة الإرسال، ثم قرأ عن الرسائل أسماء المرسل إليهم. فتح الطبيب الصحف وقال وهو يقرأ العناوين البارزة:
ـ ما تزال قضية السويس مستمرة. إن الغرب يفقد مواقعه.
قال الكولونيل الذي لم يقرأ العناوين، والذي قام بمجهود ليسيطر على آلام معدته: 'منذ فرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا.. من الأفضل أن يأتي الأوروبيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجري في بلده'.
فقال الطبيب ضاحكا، ودون أن يرفع نظره عن الصحف:
ـ أن أمريكا الجنوبية بالنسبة للأوروبيين هي رجل له شارب، يحمل غيتارا ومسدسا... أنهم لا يفهمون مشاكلنا.
ناوله موظف البريد رسائله، ودس الباقي في الكيس وعاد ليغلقه من جديد. استعد الطبيب ليقرأ رسائله الشخصية. ولكن قبل أن يشق مغلفاتها نظر إلى الكولونيل، ثم نظر إلى الموظف:
ـ ألا يوجد شيء للكولونيل.
أحس الكولونيل بالذعر. ألقي الموظف بالكيس على كتفه ونزل الرصيف وأجاب دون أن يدير رأسه:
ـ ليس لدي الكولونيل من يكاتبه.
على غير عادته، لم يذهب لتوه إلى بيته. تناول قهوة في محل الخياطة بينما كان أصدقاء اغوستين يتفحصون الصحف. أحس بأنه مغبون. وكان يفضل البقاء هناك حتى يوم الجمعة التالي كي لا يقف هذه الليلة أمام زوجته صفر اليدين. ولكن عندما أغلقوا المحل كان عليه أن يواجه الواقع. سألته المرأة التي كانت تنتظره:
ـ لاشيء.
ـ لاشيء أجابها الكولونيل.
يوم الجمعة التالي ذهب إلى حيث المراكب. ومثل كل جمعة رجع إلى البيت دون الرسالة المنتظرة. قالت له زوجته هذه الليلة: 'لقد انتظرنا ما فيه الكفاية. يجب أن يكون للمرء صبر الجواميس مثلك لينتظر رسالة طوال خمس عشرة سنة'. فقال الكولونيل وهو يدس نفسه في السرير ليقرأ الصحف.
ـ يجب أن ننتظر دورنا أن رقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرون.
ردت المرأة:
ـ لقد كسب هذا الرقم مرتين في اليانصيب منذ بدأنا الانتظار.
قرأ الكولونيل الصحف كالعادة، من الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. ولكنه لم يركز انتباهه هذه المرة. إذ كان يفكر خلال القراءة بمعاشه التقاعدي: قبل تسع عشرة سنة، عندما أصدر الكونجرس القانون، بدأت عملية مماطلة استمرت ثماني سنوات، وبعد ذلك احتاج لست سنوات أخرى حتى تمكن من ضم اسمه إلى قائمة قدماء المحاربين. وكانت تلك آخر رسالة يتلقاها الكولونيل.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب