عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:06 PM
المشاركة 7
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
وكما يحدث دائما، خرجت المرأة من الأزمة بحماسة شديدة. ففي فترة الصباح قلبت البيت رأسا على عقب. وأبدلت مكان كل الأشياء ما عدا الساعة ولوحة حورية البحيرات. لقد كانت ضئيلة ومرنة لدرجة أنها عندما كانت تتنقل بخفها الذي صنع من القطيفة وثوبها الأسود المغلق بكامله، تبدو وكأنها تملك خاصية المقدرة على اختراق الجدران. ولكن قبل أن تصل الساعة إلى الثانية عشرة كانت قد استعادت كثافتها، وثقلها الإنساني. لقد كانت في السرير فراغا. أما الآن، وهي تتحرك بين أصص السرخس والبيجونيا، فإن و جودها يملأ البيت. 'لو أن سنة مضت على وفاة أغوستين لكنت غنيت' قالت، وهي تحرك القدر الذي يغلي على الموقد والذي يحتوي على جميع أصناف نباتات الأكل التي بامكان أرض الاستواء إنتاجها، مقطعة إلى قطع متشابهة.
قال لها الكولونيل:
ـ إذا كنت تشعرين برغبة في الغناء غني. فهذا مفيد من أجل الغدة الصفراء.
بعد الغداء حضر الطبيب. كان الكولونيل وزوجته يتناولان القهوة في المطبخ عندما دفع الباب المؤدي إلى الشارع وهتف:
ـ لقد مات المرضي.
نهض الكولونيل لاستقباله، وقال وهو يقوده إلى الصالة:
ـ أن الأمر كذلك أيها الدكتور. ودائما كنت أقول لك أن ساعتك تمضي مع ساعة الدجاجات.
ذهبت المرأة إلى الغرفة لتعد نفسها للفحص. وبقي الطبيب في الصالة مع الكولونيل. ورغم الحر، فإن بدلته المصنوعة من الكتان السادة كانت تطلق نفحة من البرودة. وعندما أعلنت المرأة أنها مستعدة، قدم الطبيب إلى الكولونيل ثلاث رزم من الورق ضمن مغلف. وقال: 'هذا هو ما لم تقله صحف الأمس'. ثم دخل إلى الغرفة.
لقد خمن الكولونيل ذلك. فقد كانت تلك الأوراق تحتوي أهم آخر الأحداث على المستوي الوطني مطبوعة على آلة سحب، للتداول السري، وتقريرا عن وضع المقاومة المسلحة داخل البلاد. أحس بالانهيار. فعشر سنوات من الإعلام السري لم تعلمه بأنه ليس هناك أي خبر أكثر مفاجأة من أخبار الشهر القادم. كان قد انتهي من القراءة عندما رجع الطبيب إلى الصالة وقال:
ـ إن هذه المريضة في حالة أحسن من حالتي. فبإصابة بالربو كهذه سأكون قادرا على العيش مائة سنة.
نظر إليه الكولونيل بتجهم. وأعاد إليه المغلف دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ولكن الطبيب رده قائلا بصوت خافت:
ـ أطلع عليه آخرين.
وضع الكولونيل المغلف في جيب بنطاله. خرجت المرأة من الغرفة قائلة: 'في يوم قريب سأموت وسأحملك معي إلى الجحيم أيها الدكتور'. رد الطبيب صامتا بإظهار ميناء أسنانه المرتبة. ثم أدار كرسيا نحو الطاولة الصغيرة وتناول من حقيبته عدة زجاجات من أدوية العينات المجانية. مضت المرأة مسرعة نحو المطبخ:
ـ انتظر ريثما أسخن لك القهوة.
ـ لا، شكرا جزيلا قال لها الطبيب وهو يكتب مقدار الجرعة على ورقة من الأوراق المرفقة بالزجاجات والتي تحتوي تركيب الدواء، وتابع:
ـ إني ارفض رفضا قاطعا منحك الفرصة لتسميمي.
ضحكت وهي في المطبخ. وعندما انتهي الطبيب من الكتابة، قرأ ما كتبه بصوت عال، إذ كان يعرف أن أحدا لا يستطيع حل رموز كتابته. حاول الكولونيل أن يركز انتباهه. وعندما رجعت المرأة من المطبخ لاحظت على وجهه الآم الليلة الماضية، فقالت للطبيب وهي تشير إلى زوجها:
ـ لقد عاني لليلة من الحمي. وأمضي حوالي ساعتين وهو يهذي بهراء عن الحرب الأهلية.
ذعر الكولونيل، وقال بإصرار:
'لم تكن حمي'، ثم تابع وهو يستعيد رصانته: 'وفوق ذلك، في اليوم الذي سأشعر فيه بأني مريض فاني لن أضع نفسي بين يدي احد. وإنما سألقي بنفسي إلى صندوق القمامة'.
ذهب إلى الغرفة لإحضار الصحف.
ـ شكرا أيها الزهرة قال الطبيب.
سارا معا نحو الساحة. كان الهواء جافا. وإسفلت الشارع بدأ يذوب بسبب الحر. وعندما ودعه الطبيب، سأله الكولونيل بصوت خافت، وقد ضغط على أسنانه:
ـ بكم نحن مدينون لك أيها الدكتور.
قال الطبيب:
ـ لاشيء في الوقت الحاضر ثم ربت على ظهره قائلا:
ـ سآتيك بلائحة ديون سمينة عندما يكسب الديك.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط ليعطي الرسالة السرية لأصدقاء أغوستين. لقد كان هذا المحل هو مأواه الوحيد منذ أخذ رفاقه في الحزب يموتون أو يطردون من القرية، وتحول هو إلى مجرد رجل وحيد لا اهتمامات لديه سوي انتظار البريد كل يوم جمعة.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب