عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:05 PM
المشاركة 6
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
استلم الطبيب رسائله الخاصة مع رزمة الصحف. ووضع جانبا النشرات الدعائية الطبية. ثم تصفح الرسائل الخاصة. وفي أثناء ذلك، قام الموظف بتوزيع الرسائل على أصحابها الموجودين. تطلع الكولونيل إلى الكوة الخاصة به في اللائحة الأبجدية. بينما كانت في يد الموظف رسالة مرسلة بالطائرة حوافيها زرقاء ضاعفت من توتر أعصابه.
نزع الطبيب مغلف الصحف. وقرأ الأخبار البارزة، بينما كان الكولونيل الذي يثبت نظره على كوته ينتظر من موظف البريد أن يتوقف أمامها. ولكنه لم يفعل ذلك. قطع الطبيب قراءته للصحف. ونظر إلى الكولونيل. ثم نظر إلى الموظف الذي جلس أمام جهاز البرق وعاد ينظر مرة أخرى إلى الكولونيل، وقال:
ـ فلنذهب.
قال الموظف الذي لم يرفع رأسه:
ـ لاشيء للكولونيل.
فأحس الكولونيل بالخجل، وقال كاذبا:
ـ لم أكن أنتظر شيئا والتفت نحو الطبيب بنظرة طفولية تماما، وتابع:
ـ ليس لي من يكاتبني.
رجعا صامتين. الطبيب مركزا اهتمامه في الصحف. والكولونيل بطريقته المعتادة في المشي التي تبدو كمشية رجل يذرع الشارع بحثا عن قطعة نقود ضائعة. كان مساء ساطعا. وأشجار اللوز في الساحة تلقي آخر أوراقها المتعفنة. وعندما وصلوا إلى باب العيادة كان الليل قد بدأ يخيم.
ـ ما هي الأخبار سأله الكولونيل.
فقدم إليه الطبيب عدة صحف، وقال:
ـ لست أدري... فمن الصعب قراءة ما بين السطور التي تسمح الرقابة بنشرها.
قرأ الكولونيل العناوين البارزة. كلها أخبار عالمية. في أعلى الصفحة، وعلى أربعة أعمدة، تقرير حول تأميم قناة السويس. الصفحة الأولي كانت ممتلئة كلها تقريبا بالنعوات.
ـ لا أمل في إجراء انتخابات قال الكولونيل.
فقال له الطبيب:
ـ لا تكن ساذجا أيها الكولونيل. فقد أصبحنا كبارا على انتظار المسيح المخلص.
حاول الكولونيل أن يعيد إليه الصحف، ولكن الطبيب اعترض قائلا:
ـ خذها معك إلى البيت.. اقرأها هذه الليلة وأعدها لي غدا.
بعد الساعة السادسة بقليل قرعت في برج الكنيسة أجراس الرقابة السينمائية. إذ أن الأب أنخل يستخدم هذه الوسيلة ليشير إلى النوعية الأخلاقية للفيلم استنادا إلى قائمة التصنيف التي يتلقاها بالبريد كل شهر. عدت زوجة الكولونيل دقات الناقوس، فكانت دقتين.
ـ انه فيلم سيء لجميع الأعمار... منذ سنة تقريبا وجميع الأفلام سيئة لجميع الأعمار.
أسدلت ستارة الكلة ودمدمت: 'لقد فسد العالم'. أما الكولونيل فلم يعلق بشيء. وقبل أن ينام ربط الديك إلى قائمة السرير. ثم أغلق البيت ورش مبيد الحشرات في الغرفة. وضع بعدها المصباح على الأرض، وعلق سرير نومه واستلقي ليقرأ الصحف.
قرأها جميعا حسب تسلسل تواريخها ومن الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. في الحادية عشرة تعالى صوت نفير منع التجول. وختم الكولونيل القراءة بعد نصف ساعة من ذلك. فتح باب البهو باتجاه الليل القاتم، وبال على دعامة السقف الخشبية، التي تعج بالبعوض.. وعندما رجع إلى الغرفة كانت زوجته مستيقظة. سألته:
ـ أليس في الصحف شيء عن قدماء المحاربين.
ـ لا شيء.
قالها الكولونيل ثم أطفأ المصباح قبل أن يدس نفسه في السرير، ثم أردف:
ـ لقد كانوا سابقا ينشرون على الأقل قائمة بأسماء المحالين الجدد على التقاعد. ولكنهم منذ حوالي خمس سنوات تقريبا لا يذكرون شيئا.
أمطرت بعد منتصف الليل. واستجاب الكولونيل للنعاس ولكنه استيقظ بعد لحظة مذعورا بسبب أمعائه. وانتبه لوجود ثقب في السقف يتسرب منه الماء إلى مكان ما من البيت. فنهض وقد لف نفسه ببطانية صوفية حتى رأسه وحاول تحديد مكان الثقب في الظلام. انزلق خيط من العرق البارد على عموده الفقري. فأدرك انه مصاب بحمي. وأحسٌ بأنه يطفو في دوائر ذات مركز واحد ضمن بركة من الهلام.
تكلم احدهم. فرد عليه الكولونيل من سريره المعلق الذي كان يستخدمه وهو ثائر.
سألته زوجته:
ـ مع من تتكلم.
ـ مع الإنجليزي المتنكر كنمر، الذي ظهر في معسكر الكولونيل اوربليانو بوينديا أجابها الكولونيل. ثم استدار في السرير، وهو يتقد بالحمى، وتابع:
ـ لقد كان دوق مارلبورو.
استيقظ في غاية الإنهاك. وعندما دق ناقوس الصلاة للمرة الثانية قفز من سريره المعلق وانتصب في واقع من الاضطراب والضوضاء التي كان يسببها صراخ الديك. كان رأسه ما يزال يلف في دوائر ذات مركز واحد. أحس بالغثيان. فخرج إلى البهو واتجه نحو المرحاض عبر الحفيف الناعم وروائح الشتاء المكفهرة. حجرة المرحاض الصغيرة المصنوعة من الأخشاب والمغطاة بسقف من التوتياء كانت تعبق بأبخرة الامونياك المنطلق من المبولة. وعندما رفع الكولونيل الغطاء انطلقت من الفتحة سحابة من الذباب.
لقد كان ذعرا مزيفا. فعندما اتخذ وضع القرفصاء على الأرضية المصنوعة من خشب لم تصقله فارة النجارة، أحسن بتفاهة رغبته الخائبة. فقد شعر بدل الغثيان بألم ثقيل في الجهاز الهضمي. 'لاشك في هذا' تمتم الكولونيل 'فدائما يحدث لي نفس الشيء في أكتوبر'. وظهرت عليه سيماء الواثق البريء الآمل إلى أن خمد الفطر الذي في أحشائه. عندئذ عاد إلى الغرفة ليري الديك.
قالت له زوجته:
ـ لقد كنت تهذي من الحمي في الليل.
كانت قد بدأت بترتيب الغرفة التي لم تنظم طوال أسبوع الأزمة، وحاول الكولونيل جاهدا أن يتذكر. ثم قال كاذبا:
ـ لم تكن الحمي، وإنما هو حلم العناكب من جديد.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب