عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 08:59 PM
المشاركة 3
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
بعد أن حلق الكولونيل ذقنه بالتلمس إذ لم تكن عنده مرآة منذ زمن بعيد ارتدي ملابسه بصمت. كان البنطال ضيقا وملتصقا بالساقين مثل سروال داخلي طويل تقريبا، ويغلق عند الكاحلين بعقدتين منزلقتين، ويثبت عند الخصر بلسانين صغيرين من القماش نفسه يمران من خلال ابزيمين مذهبين ومخاطين على ارتفاع الكليتين، فهو لم يكن يستخدم حزاما، أما القميص الذي كان بلون الكرتون، وبقساوة الكرتون أيضا، فانه يغلق في أعلاه بزر نحاسي، وهذا الزر نفسه يثبت أيضا الياقة المستعارة. ولكن الياقة المستعارة كانت ممزقة، لذلك فان الكولونيل تخلي عن وضع ربطة العنق.
كان يقوم بكل حركة وكأنه يؤدي مهمة خطيرة. عظام يديه كانت مغطاة بالجلد اللامع المشدود والمخطط بتفرعات العروق كجلد الرقبة. وقبل أن يلبس حذاءه ذا الكعب العالي اللامع حكّ الوحل العالق بنعله. وفي هذه اللحظة فقط رأته زوجته وهو يرتدي ملابس يوم عرسه. وعندها أدركت كم هرم زوجها.
قالت:
ـ يبدو وكأنك ذاهب إلى حدث هام.
فقال الكولونيل:
ـ هذه الجنازة حدث هام. فهذا هو الميت الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة.
انقطع المطر بعد التاسعة. وأخذ الكولونيل يستعد للخروج عندما جذبته زوجته من كم سترته، وقالت:
ـ سرح شعرك.
حاول أن يثني شعره الخشن بمشط عظم، ولكن جهده ذهب سدي.
ـ لابد أني أبدو كببغاء.
تفحصته المرأة. وفكرت أن لا. فلم يكن الكولونيل يبدو كببغاء. كان رجلا جافا، له عظام متينة متمفصلة كبراغ وصمولات. وبسبب حيوية عينيه فقط لا يبدو ككائن محنط بالفورمول.
'حسن هكذا'، وافقت هي، وأضافت عندما كان زوجها يغادر الغرفة:
ـ اسأل الطبيب عما إذا كنا قد ألقينا عليه ماء ساخنا في هذا البيت.
كانا يعيشان في طرف القرية، في بيت سقفه من السعف وجدرانه مطلية يكلس قد تقشر. وكانت الرطوبة ما تزال منتشرة ولكن المطر كفّ عن الهطول، فهبط الكولونيل باتجاه الساحة عبر زقاق يفصل بيوتا متلاصقة. وعند وصوله إلى الشارع الرئيسي شعر برجفة، فإلى أبعد مدي يبلغه بصره كانت القرية مفروشة بالزهور. بينما جلست النساء أمام أبواب البيوت بانتظار الجنازة وقد ارتدين السواد.
عندما وصل إلى الساحة أخذ مطر ناعم يهطل من جديد. ورأي صاحب صالة البيليار الكولونيل وهو أمام محله فصرخ له وقد فتح ذراعيه:
ـ أيها الكولونيل، انتظر وسأعيرك مظلة.
فأجابة الكولونيل دون أن يلتفت:
ـ شكرا، فالحال حسنة هكذا.
لم تكن الجنازة قد خرجت بعد. وكان الرجال وهم يرتدون ملابس بيضاء وربطات عنق سوداء يتبادلون الحديث أمام بيت الميت تحت مظلاتهم. ورأي أحدهم الكولونيل وهو يقفز فوق برك الماء في الساحة فصرخ:
ـ تعال وانضم إلى أيها الصديق.
وأفسح له مكانا تحت مظلته.
قال الكولونيل:
ـ شكرا أيها الصديق.
لكنه لم يقبل الدعوة، بل دخل من فوره إلى البيت ليعزي والدة المتوفي. كان أول ما أحس به هو رائحة زهور كثيرة متنوعة. وبعد ذلك شعر بالحر. وحاول أن يشق طريقه وسط الحشد المجتمع في غرفة النوم. ولكن أحدهم وضع يده على ظهره، ودفعه نحو عمق الغرفة عبر دهليز من الوجوه الحائرة إلى حيث توجد واسعتين وعميقتين فتحتا أنف الميت.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب