عرض مشاركة واحدة
قديم 03-23-2016, 03:10 PM
المشاركة 59
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع...ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


وكانت عمتي حليمة هذه واحدة من مجموعة نساء أحاطت بي في سنوات طفولتي الأولى، نساء ربطني فيهن صلة القرابة، جلبن لي الكثير من البهجة والسعادة على الرغم من حياة البؤس والشقاء التي كن يعشن بها والتي كانت بائنة وواضحة في حياتهن وملامحهن...وعلى الرغم من المآسي التي عصفت بهن، وحولت حياتهن الي كرب ومعاناة...

وكانت تلك العمة حليمة، صلبة، قوية الشخصية، صاحبة عزيمة، وشكيمة، وحكمة، وكرم، حتى انهم كانوا يلقبونها بأخت الرجال بسبب سمات شخصيتها القيادية، وكانت بالنسبة لوالدي الحصن الحصين في الدفاع عنه والوقوف الي جانبه في ازماته، وهو الذي لم يكن له اخوة او اخوات سواها، مما جعلها عزوته الوحيدة خاصة انه لم يكن له اعمام او عمات، وكان له خال واحد كفيف مات مبكرا...

فكانت هذه العمة حليمة، ام نايف، السند والداعم والمدافع الشرس عنه خاصة في المواقف الصعبة التي كانت تتمثل في الحجز على املاكه كنتيجة لعدم قدرته على تسديد الديون الربوية التي كان مضطرا لأخذها لعلاج والدتي حينما مرضت، تلك الديون التي سلبته في نهاية المطاف جزءا عزيزا غاليا من ارضه المزروعة بأشجار الزيتون...

وقد كنت في طفولتي المبكرة شاهدا على احد عمليات الحجز هذه حيث حضرت الجهات الرسمية، وقامت بعملية جرد لكل شيء كان له قيمة في البيت وتم الحجز عليه بما في ذلك خزانة الملابس ولو انها كانت شبه بالية، ولم يكن الهدف طبعا تلك الأشياء ذات القيمة المادية المتدنية ولكن الغاية كانت اجباره على التنازل عن الأرض مقابل ما عليه من دين ربوي ارتفعت قيمته في سنوات قليلة اضعاف مضاعفة...وهي تجربة لو تعلمون شديدة الوقع والالم على النفس لا يمحى اثرها ابدا خاصة على طفل صغير في السن شاهد قوة امنية وهي تنتهك بيت والده وتحجز على ممتلكاته وتهدده بالحجز والسجن...
ولا بد ان عمتي هذه كانت قد اكتسبت قوة الشخصية تلك من الواقع العام الصعب بل المرير الذي مر به العالم ككل في القرن العشرين، وانعكس على فلسطين كونها مركز العالم القديم، والأرض المقدسة، التي ظلت محط أطماع الكثيرين على مر السنين...

فقد شهد القرن العشرين حربين عالميتين جلبتا الدمار والقتل والمآسي والفقر والعوز...ومن حكايات العوز التي رواها لنا والدي عن فترة الحرب العالمية الاولي والمعروفة لأبناء فلسطين (بسفر برلك) ان الناس أصابها جوع فظيع حتى ان الناس كانوا يبحثون عن حبات الشعير في براز البقر لكي يجمعوه ويجعلوه خبزا يعتاشون عليه...

ثم شهدت فلسطين تنفيذا لوعد بلفور المشؤوم، والذي احتل الجراد من الصنف البشري على أثره المناطق الخصبة من فلسطين الساحلية كمرحلة أولى وبصورة تدريجية خبيثة، ثم وبعد سنوات استكمل الجراد السيطرة على باقي الأرض الفلسطينية الداخلية، والجبلية والمزروع اغلبها بأشجار الزيتون... وكانت محصلة ذلك كله بؤس وشقاء والم للإنسان الفلسطيني بشكل عام والذي عانى من الهزيمة والتشرد...ولا بد ان ذلك أصاب حياة الانسان الفلسطيني في الريف بمقتل وحول حياته الى ما يشبه الجحيم..

ولكن الوضع العام لم يكن هو مصدر الألم الوحيد لعمتي حلمية فقد قيل لي بأنها واجهت تجربة فقد مريرة في بداية حياتها الزوجية الأولى وكانت حينها صبية في مقتبل العمر، حيث كانت قد تزوجت من رجل من قرية مجاورة، يبدو انه كان مغرورا بقوته البدنية، او ربما خانه ذكاءه في لحظة غفلة قاسية، او ان عيون حاسده فتكت به...

حيث قام على ما يبدو بربط حبل الرسن لثور قوي على وسطه كان يجره وهو ينقله من مكان الي اخر...وما لبث ذلك الثور ان هاج وماج بعد ان هاجمته حشرة صغيرة تشبه النحلة، لكنها لا تهاجم الا الحيوانات وخاصة البقر منها، وتصدر هذه الحشرة الطائرة والتي تسمى محليا (الكيكوبة) صوت زنة اشبه بالرنين وهي تطير، وتحلق باحثة عن ضحاياها من البقر، وتظهر أكثر ما تظهر في موسمي الربيع والصيف...

وفر ذلك الثور القوي من حشرة الكيكوبه بطبعه الغريزي محاولا النجاة بنفسه، فسقط ذلك الرجل قوي البنيان على الأرض، واخذ الثور يجره وهو هارب من ملاحقة تلك الحشرة وصار الجار مجرورا...ولم يتوقف الثور حتى كان ذلك الرجل قد فارق الحياة من شدة ما أصابه من ارتطام وكدمات وكسور في انحاء جسمه...لتصبح عمتي حليمة الصبية الوحيدة عند والديها ارملة في مقتبل العمر، ولم يمض على زواجها سوى بضعة أشهر فقط، فهي حتى لم تكن قد انجبت من زواجها الأول...لتعود من توها وعلى أثر مقتل زوجها الأول الي منزل والديها وهي ارملة مكسورة الخاطر...

ولكم ان تتخيلوا صعوبة ان تكون المرأة ارملة في ذلك الزمن المر...حيث كانت المرأة تتحول في مثل تلك الحالة الي عبء اجتماعي يسعى الاهل الي التخلص منه مهما كلف الامر لقطع السنة الناس، ووقفهم عند حدهم في مسألة القيل والقال...فكانت زيجتها الثانية مرتبة من شخص بسيط وفقير الحال ما كان ليقوى على زواج من صبة بكر...حيث قام جدي على شراء ارض قريبة من منزلنا من مختار القرية خليل اليونس بقيمة ستة دنانير كما هو مدون في حجة الارض، وبنى لها بيتا ملتصقا ببيت والدي، وكان ذلك البيت عبارة عن غرفتين من الحجر والطين وساحة وطابون خبيز وبئر ماء محفور في الارض...ثم اشترى لهما بقرتين ليعتاشا من كدهما وانتاجهما... وعاشت هي مع زوجها الثاني حياة الفلاح البسيط...حياة بؤس وشقاء مليئة بالفقر والمعاناة...وكان يعينها على تلك الحياة وتلبية متطلباتها المادية جدي ووالدي، وكأنها ما زالت عزباء تسكن في بيت اهلها...

ومن النوادر التي تؤشر الى وحدة الحال في ذلك الزمن بين عمتي ووالدي ما أخبرني به أحد أبناؤها، ابن عمتي صالح، حيث أعلمني بان جدي كان اذا اصطاد العصافير في موسم التين يقوم على قسمة حصيلة صيده والذي كان يصل في أحيان كثيرة الى 300 عصفور في المرة الواحدة وفي اليوم الاحد بين الاسرتين...نصفها لأحفاده من الابن ونصفها الاخر لأحفاده من البنت الوحيدة...

ولكن ذلك لم يكن الشيء الوحيد الذي يؤشر الى وحدة الحال فقد كان روزنة القمح، وخوابي الحبوب والطعام وبراميل الزيت، وانية العسل مفتوحة لها على مدار الساعة، ولو ان ذلك لم يعد يحظى بموافقة خالتي زوجة ابي الثانية، والتي حلت محل امي بعد موت جدي بعامين وبعد موت امي بأيام...وكانت خالتي تقاومه ضمن حدود لا تتسبب بالقطيعة، لتتمكن في نهاية المطاف من وضع حد له خاصة بعد ان تغيرت ظروف عمتي الي الاحسن، واصحبت في بحبوة من العيش بمساعدة أبنائها الذين اصبحوا مقاولين فاعلين ومنتجين يعملون في مجال المقاولات...حتى ان ابنها الثاني صالح، اصبح مع الأيام واحدا من اغني أبناء المنطقة قاطبة يدير مجموعة مشاريع تشغل مئات العمال وتدر أرباحا طائلة...

عاشت عمتي حليمة حياة بؤس وشقاء وفقر مرير معظم حياتها...الى ان تبدل حال اسرتها في زمن لاحق وبعد ان شاخت تقريبا، لكنها حتى في ذلك الزمن ظلت تعيش حياة الفلاحة الصعبة بكل ما فيها من ظلف العيش، وسقطت في أحد الأيام وقد تجاوزت السبعين...وانا ما ازال في المدرسة الثانوية على أثر جلطة دماغية اصابتها وهي تعمل في ساحة الدار تحت اشعة الشمس الحارقة تدق القش لتوفير مونة طابون الخبز...

وظلت على أثر ذلك مطروحة الفراش، في حالة شلل شبه تام لسنوات طويلة لاحقة كنت أجد في اثناءها صعوبة في زيارتها، وهي طريحة الفراش وأسيرة المرض الذي اقعدها وشل حركتها وجعل لسانها يتحرك بصعوبة، وكلامها لا يكاد يكون مفهوما...وذلك لعدم قدرتي على تقبل ما أصابها وجرى لها وعدم استطاعتي مشاهدتها وهي طريحة الفراش، ضعيفة مسكينة وقد عرفتها في طفولتي المبكرة تلك المرأة القوية، المقدامة، الحانية، الحنون، صاحبة الكبرياء، وعزة النفس، ذات الإرادة والعزيمة قل شبيهها...لتصبح كسيحة، مسلوبة القوى تنتظر الموت لعله يخلصها مما أصابها...

واذكر تماما انني كنت اشعر بدفء خاص جدا وانا بقربها، على الرغم امن فارق العمر حينما أصبحت أدرك الأشياء من حولي...وكان الوقت الذي كنت امضيه في منزلها من أجمل الأوقات وأكثرها دفئا وحنانا وسعادة...وكانت كريمة معي معطاءة لا تبخل علي بشيء ابدا...حتى انني كنت اذهب اليها لتعيرني دراجة ابنها الأستاذ صايل خلسة، وما كانت لتمنعها عني ابدا رغم انني لم أكن طويلا بما يكفي لركوبها حسب الأصول المتعارف عليها، ومن خلال الجلوس على كرسي السائق، وانما اكتفي بركوبها وانا أقف على البدالات او اجلس على المساورة التي نسميها جحش الدراجة لكي أتمكن من الوصول الي البدالات وتحركيها لتندفع العجلات...

لقد ملأت عمتي حليمة طفولتي بهجة وسعادة وسرور لا اظن انها اختبرتها هي بنفسها طوال عمرها لان ظروف حياتها كانت أصعب من ان يحتملها انسان...وماتت عمتي حليمة اثناء دراستي الجامعية...وحزنت لموتها لكنني لم احضر دفنتها لأنني لم أكن لأستطيع احتمال ان ارها وهي تدفن تحت التراب...



يتبع..