عرض مشاركة واحدة
قديم 01-31-2017, 10:11 PM
المشاركة 4
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فكرة رائعة

سأفتتح هذه الورشة بنص رغم أنه ليس وليد اللحظة .
----------
سحر الشرق

وصل إليها أخيرا ، كانت رحلة شاقة ، فمجرد السفر إليها ألصق به شبهة حب القتال ، لم يكن مظهره حاملا لأمارات السوء ، ليس بالأعور و لا بالأعرج ، لا تنسج بنيته هالة حرب ، لا شجة سنان بصمت جسده الهادئ ، فتى متأنق لا يملك لحية تستجدي العفو و لا شاربا يستوجب القص ، كابد عناء الانتظار بين الإدارات ليمنح تلك الرخصة ، مجرد رخصة سفر ، لم يطلب إقامة و لا عملا ، لا يبتغي علما هناك و لا فنا ، كل قصده هجرة في سبيلها .

كانت فتاة مرنة ، فياضة بالمثل العليا ، راقية الطباع ، وديعة الصورة ، لم تغره بليلة حمراء و لا بنهار ربيعي ، مجرّد لقاء ترتوي فيه عروق صداقة مبجلة ، تتصافح من خلاله الآمال العريضة ، تتقوى به وشائج رابطة إنسانية تعلو على وقع الخطوب ، و تجتث أشواك الرعب ، و تبني جسور الممكن و تردم أخاديد المستحيل .

مع قراءة أولى رسائلها عزفت أبجديتها على أوتار كمانه قصيدة عصماء ، كما نفخت حروفه في نايها نغمة العنادل ، رسمته بريشة العفوية تذكار براءة ، ونحتها بإزميل النقاء رمزا للطهارة ، يجمع بينهما حب الكلمة الموزونة فيتلذذان بقسمات النغمة الساحرة ، و يشيدان بيوت المشاعر كسفن راسية على بحار القوافي ، يفطران على شقشقة العصافير و تدفع عنهما قطرات الندى ثقل السمر ، و طراوة النسائم تهدهد صحوهما . عبر خيوط القمر تتلاحق أنفاسهما فيهاتفها وتهاتفه عبر الأثير المخلص .
حطت رجله على أرض النبوة وقلبه مفعم بروحانيات تتعاظم كلما هب صوت فيروز لاستقباله من صالون حلاقة ، أو صدحت ميادة بتغريدة العشق من زقاق شعبي أو مالت به ماجدة صوب رقص الكلمات وهو يرتشف من قهوة الشرق فنجان الوجد ، تأمل ملامح الكنائس مزخرفة خلابة كعروس في كساء الزفاف تعلن نواقيسها ملحمة العذوبة و تترنم في رحابها مواويل الرقة ، رأى بأم عينيه شموخ المساجد بمآذنها الباسقة وهي تقبل سحبا متناثرة في علياء السماء ، و رحمتها المهداة تنشر عبير سلام في قلبه ، تماهت روحه مع تراب الشرق الزاخر بجواهر التحف ، كلما تقدمت خطواته استحضر هندسة الشرق من بغداد إلى الشام ، يتفرس الحواضر و البوادي فتلوح له مناظر الأناضول حيث قضى سويعات هناك كانت كافية ليربط الماضي بالحاضر ويقسم أن الأرض كلها امتداد لبلاده بأوديتها الهادرة و شجرة الزيتون و ظلال الأرز و حمرة البرتقال ، تأمل حوض المتوسط بركة تطوقها جمالية بلاده ، بل يسترجع أيام غرناطة و قرطبة فيجد غرب البحيرة تمتد زينته إلى الشرق ، فتخيل نفسه وريث ابن بطوطة ، جاء يصل رحمه ، و يتفقد أبناء عمومته .
استحلى المكوث بهذه البلدة للاستراحة والتقاط الأنفاس والاستعداد للقاء القريب الوشيك ، هي هادئة مريحة لكأنه في دياره لولا بعض تشفير لغوي يعكر صفو تواصله فيرجع القهقرى إلى الماضي للتعبير عن حاضره والاستفسار عن بغيته ، بين الفينة والفينة يدون مصطلحا سقط من فارسية ، أو ضاع من غجرية واحتضنه الشرقيون فتزينت به قلائدهم اللغوية ، ما إن يلهج بلسان قومه حتى تحدجه العيون بنظرات سوء و استغراب فيحس نفسه ارتكب جريمة نكراء ، فيعود إلى لغة الفراعنة لعلها تمسح عنه غبنا يتمالكه ، هذه معضلة تؤرق نفسه كثيرا ، كيف للشرق أن يدير وجهه لواحدة من بنات لسانه ، و كيف له أن يحس باغتراب لغوي في أرض يستقبلها كل يوم مرارا و يعيش حيثيات عشائرها بكل تفصيل وهو الجاهل بقبائل بلاده ، يخاف أن تكون سهام حبيبته بقدر ما قاله واحد من ركاب الحافلة : أنت ماروني ؟ لا ، درزي ؟ علوي ؟ قحطاني ؟...... اكتفى بتحريك رأسه بالنفي و قد تناسلت العشائر من فم مستجوبه بلا توقف وهو يطلق قنبلته : " أنت مستعرب إذن ؟ يا سادة هذا مستعرب ، أسرع في رد التهمة عن نفسه متحدثا بلسان قومه ، فقالوا هاتفين : " وتتحدث بالعبرية ؟" احمر و ازرورق و هو يقول عندما شمروا على سواعد الشر ، يا ناس : لا اله إلا الله محمد رسول الله أنا من بلاد شمال أفريقيا . فكان ردهم قاسيا على نفسه : " آه جميل ، لهذا لا تعرف أدب الكلام ، أصلكم أهل بداوة وسكان كهوف ." تظاهر بلعبة السذاجة كي لا يفقد نفسه حين ظهر له القوم في حلة جديدة ، جاءته طرفة وقعت في مدينته حاول بها نفي التهمة عنهم حيث سألت عجوز طلبة من جنوب الصحراء يغترفون من علوم جامعة بلاده ذات يوم عن الساعة ، فردوا عليها بلسان لم تفقهه فاعتذرت قائلة : " استسمحكم حسبتكم من بني آدم" هكذا هو يرفع شعار الصفح عنهم لأنه مؤمن أنه معهم في الهوى سواء ، بعض عيوبه هي عيوبهم ، لكن بلاده لا تمارس العنف على الغرباء فهذه خاصية تكاد تكون شائعة ، بل للغريب حظوة في نفوسهم ، أهي عقدة الدونية تجعلهم يرون الغريب أحسن حالا منهم ، أم هي ثقافة كرم من نوع ما .
خلص أن الخلاص يأتي من الغرب ، هو أيضا يمتلك هذه الميزة ، يحمل جواز سفر من بلاد الأنوار ، ولسانه تجري فيه أنهار حروفهم بانسيابية ، بل يمتلك إلى حد ما بعض طبائعهم ، فوطنه تجرع أيضا من الغرب ما يكفي ليكون غربي الإنتماء ، ربما هذا ما يجعل الشرق يحس نوعا من الغيرة ، فبلده على مرمى عين من بلاد تسود العالم من أقصاه إلى أقصاه . هاتف أمه أن ترسل إليه عملة صعبة بها يستطيع استوطان الفنادق المصنفة ، هناك سيعاشر من يؤمنون بالآخر ، و لا يبحثون في أصله وفصله ، و يعيشون عولمة الإنسان ، كانت أمه تستجيب لكل طلباته ، هي من علمته بعضا من السذاجة و الركون إلى الحلول السهلة ، رغم ذلك لايزال يبحث عن نفسه ، فهذه الرحلة ربما هي من ستسطر مستقبله ، ويحظى بشرقية تملأ قبله دفءا و تغمره مشاعره سخونة بعد أن تشاءمت روحه من مكننة طباعه في الغرب ، فأضحى شبه آلة خالية من المشاعر ، بلاد الأولياء ما استطاعت تراتيلها السيطرة على مس روحي اعتراه ، رأى في الشرق مهد الحضارة ومهد الأرواح ، فحتى كثير من أعلام بلاده بحث له عن نسمة شرقية بها يشبع روحه ، فمنهم من بحث عن شعرة نسب تربطه بهم ومنهم من جعل نصب عينيه امتلاك بحور علومهم ، تكون له نغمة فخر تمسح عنه صبغة البداوة ، ومنهم من استشرق كلية فقط لأنه أحب أن لا يكون إلا شرقيا ولو بالقوة . لا يهم يحبون هوى الشرق و متاع الغرب فأينك ياشهامة الأطلس ، أم أنهم فقط يصعدون على هامتك تطلعا إلى الشرق والغرب ، يا من تسرقين من الغرب ثلوجا بيضاء و تجرين من الشرق قيض الهجير ، لتغزلي ثوب الربيع لأبنائك ليهاجروا روحيا شرقا وماديا غربا . صفعته حقيقته الهشة و بحث عن ذاته بين شرقية وغربية فوجدها تائهة مغبرة ، صبغت أصباغا مكشوفة ، لكن لا بأس ، فإن كان الشرقيون تنكروا لشرقيتي ، فسألبس قميص الغرب ، فلساني يرفرف بأعلامهم ، و عيني تكاد تخبئ زرقتها و الأخرى شيئا من اخضرارها .

بسرعة البرق أرسلت له جمعيته بطاقته عبر الفاكس مشفوعة بوصل باحث في قضايا الشرق . تعجب من قدرة الغرب على الابتكار و إيجاد الحلول ، تعجب من مؤسسات الشرق ومنظماته الحكومية وغير الحكومية كيف لا تستطيع منح مظلة للفرد ، يحتمي بها من بطش بني جلدته ، غرد أمام الملأ فهبت كل الخدمات ، كل فرد يكره لسانه على التغريد مقدما أقصى ما لديه ، تأهب الجميع ليسعدوا فترة وجوده بينهم ، من سائق سيارة إلى دليل عارف ، إلى وكيل أعمال ، نظم معهم برنامج رحلته . طاف المدائن و تعرف الطبائع و غاص في هموم الشرقيين ، رأى بأم عينيه تقوقع الأحياء والمدائن على ذواتها ، أينما حل يرى صور المذهبية تلون الجدران ، استقبلته و احتضنته كل الطوائف ، وكلها تتحدث عن الأصالة ، عن الخير ، عن احترام الآخر ، عن حسن السيرة ، عن القصد الشريف ، عن الظلم الذي يطالها ، لكأنهم متفقون على ذات الجواب ، وكلما سألهم عن الاقتتال ، خون بعضهم البعض واتهموا أنفسهم بالعمالة ورشقوا مخالفهم بخدمة المشروع الأجنبي ، تعجب من هذا التناقض الصريح ، أليسوا كلهم يتهافتون عليه لأنهم يحسبونه أجنبيا ، و يفتحون له صدورهم فقط لأنه قادم من هناك ، ألم يتيقنوا أن الإعلام وضعهم في الصورة حتى تملكهم حب الظهور و هم لا يملكون من مصير أنفسهم شيئا . تعجب من سذاجتهم فكيف لهم أن يفتحوا قلوبهم لمن يعتبرونه عدوا و يضعوا حجابا بينهم وبين اخوتهم في الدين والعروبة والوطن .
وصل في بحثه إلى المتاهة ، فهم برؤية حبيبته ، وجد بلدتها هناك على ضفة نهر دائم الجريان ، لم تستطع الدماء الجارية أن تحمر وجهه ، ظل كما كان مستعدا ليمنح الحياة للشرق كله ، رأى النوق بأعناقها المشرئبة لا تزال على عهدها منذ ناقة صالح ، رأى التمر الشرقي البدين ، رأى جمال الشرق الخلاب بعيونه السوداء ، و شعره الحالك الطويل ، رأى الصحراء غارقة في صمتها الأخاذ ، لا تردد أصوات الرصاص ، أخيرا على ضفاف النهر هناك مقهى هادئ مستعد لنسج قماش الحب الحريري .
رآها جالسة وفستانها يلامس الأرض ، وشعرها متدفق من الأعالي ، رأى بسمة غالية وعينا ساحرة ، رآى عذوبة الشرق ، رأى ما أسر قلبه وكيانه ، اعتراه دفء كله شبق ، تعجب من هذا الوحي الشرقي الذي يسكن النفوس ، تذكر عندما هم بالغربية يريد أن ينسج معها خيوط الحب ، لأعوام وهي تراوده عن نفسه فتفر من ساعة الحسم ، برودة هائلة جعلته يشك في مدى قدرته على الفعل ، لكن الآن أضحى رجلا كامل الرجولة ، إنها فعلة الشرق ، إكسيره الذي يجري في النفوس ، قامت مرحبة دون أن تمد يدها ، استويا جالسين ، تبادلا نظرات دافئة ، منحته عذوبة صوتها الفيروزي ، أسمعها من أهازيج الأطلس ، كادا يلتحمان لولا أن طاف طائف بالمدينة فرق جمعهما ، فرآها تحاول التخلص من أذرع صلبة ، والتكبير يعلو الأفواه ، والبنادق تطلق الرصاص ، سمعها تنادي مستغيثة ، لكن قفاه مستند على فوهة بندقية تنتظر إشارة الانطلاق ، تعارك سجّانها و تناطحه غير راضية بأن تكون غنيمة حرب ، و تتحول في لحظة من أميرة إلى جارية ، فأفرغ في جسدها اللين حمولة رشاشه مكبرا ومهللا ، رجع ببصره إلى الأرض المبتلة بالدماء والجسد الطيب الطاهر النائم في هدوء ، وكيله ودليله يفاوضان المسلحين ، جاء قائد الفيلق ، سمعه يخاطبهم بلكنة أطلسية ، أطلقوا سراحه : " فهو غربي الانتماء وفق تحرياتنا ! "