عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2019, 04:53 PM
المشاركة 22
تركي خلف
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: سيميوطيقا الثقافة
• الفضاء الثلاثي: الداخل والخارج والحدود:

تنبني النظرية الفضائية، عند يوري لوتمان، على أبعاد ثلاثة هي[26]:الداخل والخارج والحدود. ومن ثم، تشكل الحدود فواصل وتخوما أساسية ين الداخل (الكوسموس/Cosmos)، والخارج (الكاوس/ Chaos). ومن هنا، ترد الحدود على أنها مفاصل أساسية بين الذات والغير، أو بين الأنا والآخر، أو بين نحن والآخرين. وتتحول هذه الفضاءات إلى قيم تتخذ أبعادا مادية في النصوص والخطابات. كما تفصل الحدود بين الأحياء والأموات، بين المدن والقرى، بين المركز والمحيط، بين المدنيين والقرويين، بين المتحضرين والمتخلفين...

وهناك أنواع من الحدود:
حدود مكانية، مثل القبور والأسلاك والأنهار والوديان والجبال... وهناك حدود زمانية، مثل: الليل الذي يفصل الصباح عن المساء. ومن ثم، تتمثل وظيفة الحدود في تعيين العناصر التي تنتمي إلى الداخل أو الخارج، ورصد العناصر التي تتسرب إلى الداخل أو العكس. ومن هنا، يعد قاموس الترجمة عبارة عن حدود ثقافية التي تحدد نطاق ثقافة معينة. ومن ثم، تساهم الحدود في تحقيق التواصل الثقافي. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتحول إلى عائق للتواصل والتبادل الثقافي. فقد كان جدار برلين - مثلا- بمثابة حد عدائي إيديولوجي يعيق التواصل بين أفراد الأمة الجرمانية نفسها. ومن ثم، فالحدود هي أساس التبادل بين الحضارات أو أساس صراعها وانغلاقها، كما يحدث الآن في الكوريتين: الشمالية والجنوبية.

ويرى لوتمان أن الشفرة السيميائية تختلف من ثقافة إلى أخرى، والدليل على ذلك صور الآخر التي تختلف من جماعة إلى أخرى، أو من شعب إلى آخر، حسب المعتقد والوعي والسلوك. ومن هنا، يشتغل يوري لوتمان على ما هو ثقافي وحضاري واجتماعي، بل إنه يؤسس لسيميوطيقا ثقافية كونية من خلال مؤشرات الفضاء.
هذا، وينتج عن الداخل والخارج عدة ثنائيات متعارضة ومتقابلة، تترجم لنا مختلف العلاقات الموجودة بين الأنا والآخر على المستوى الثقافي.

وعلى العموم، تنبني سيميائية الكون على مفهوم الحدود. بمعنى أن الفضاء الداخلي يتسم بكونه لامتجانسا وغير منسجم وغير موحد. وبالتالي، تفصل الحدود بين الداخل والخارج، بين ضمير المتكلم وضمائر الآخر. ومن ثم، تشير الحدود إلى المجابهة بين الثقافات والذوات والضمائر، مجابهة بين المتكلم المثقف الراقي، والآخر العدواني والعدمي والهمجي. تحيلنا الحدود على ثنائية الأنا والغير، وتبين لنا طبيعة العلاقة التي تجمع بين الذات والغير، هل هي علاقة محبة وصداقة وتعاون وتكامل وتعايش أم هي علاقة عدوان وكراهية وتغريب وإقصاء؟

ويعني هذا أن آلية الحدود من أولى آليات التفريد السيميوطيقي. وبالتالي، تستند الثقافات البشرية إلى التقسيم الثنائي: ثقافة الأنا وثقافة الغير، ضمن نسق ثقافي بشري كوني وكلي. وفي هذا الإطار، يقول لوتمان:" تبدأ كل ثقافة بتقسيم العالم إلى الفضاء الداخلي الخاص " بي"، و فضا" ئهم" الخارجي. الطريقة التي يؤول بها هذا التقسيم الثنائي تتوقف على تيبولوجية الثقافة المعينة. غير أن التقسيم الحقيقي هو الذي ينبع من الكليات الثقافية البشرية.
بمعنى أن كل منظومة ثقافية بشرية تقدم صورا مخيالية عن المنظومات الثقافية البشرية الأخرى على مستوى المحظور والمكروه والمباح. وعلى سبيل المثال، يقدم أدب الرحلات صورا مرآوية حول الآخر، قد تكون هذه الصور موجبة أو سالبة.

وعليه، فالحدود هي سمة التوحيد أو التفريق، وسمة التعايش أو الاختلاف. وفي هذا السياق، يقول لوتمان: "غير أن النقط الأكثر حساسية لسيرورات العملية السيميائية هي حدود سيمياء الكون. يتسم مفهوم الحدود بالازدواجية: إنه يفرق ويوحد في الآن ذاته. تعد دائما حدا لشيء معين، وتنتمي بهذه الطريقة لثقافتين متجاورتين، لاثنين من سيمياء الكون متلاصقتين. الحد يتسم بالازدواجية اللغوية والتعدد اللغوي. إنه آلية موجهة لترجمة النصوص من سيميوطيقا أجنبية إلى " لغتنا"، الفضاء الذي يتحول فيه ما هو خارجي إلى ما هو داخلي؛ إنه غشاء يحول النصوص الأجنبية إلى حد أن هذه الأخيرة تصبح عناصر مكونة للنسق السيميوطيقي الداخلي لسيمياء الكون، مع الاحتفاظ بخصائصها التي تميزها. "[28].

ويمكن للداخل أن ينفتح على الخارج عبر الترجمة والحوار والتناص. كما يتأرجح الفضاء بين الانغلاق والانفتاح، وقد يكون ذلك الفضاء موحدا أو فضاء لتصارع الذوات وتطاحنها. وإذا كانت الشقة، في المدينة، مركزا فضائيا، فإن الحد الذي يفصل ين المنزل واللامنزل هو السلالم والأقفاص والممرات والشوارع التي تعبر عن طبقة المهمشين والضائعين والمدمنين على الخمور. وهذا ما يسميه ميخائيل باختين بفضاء العتبة. وإذا كان الفضاء الداخلي يتسم بالوجود والألفة والحميمية، فإن الفضاء الخارجي يتميز بالعدم والخوف والعدوانية والوحشية...

ويتضح، مما سبق ذكره،

بأن هناك فضاءات حدودية، وفضاءات داخلية، وفضاءات خارجية. وبالتالي، فالحد هو رمز للازدواجية اللغوية، والازدواجية الثقافية، والازدواجية السلوكية والقيمية...

الخاتمة
وخلاصة القول، لقد عرفت الدراسات الثقافية ثلاث مراحل في تطورها المعرفي: مرحلة الدراسات الفلسفية والأنتروبولوجية، ومرحلة الدراسات اللسانية، ومرحلة الدراسات السيميوطيقية.

هذا، وتعد مدرسة تارتو - موسكو مهدا لسيميوطيقا الثقافة أو الثقافات، إذ قاربت الأنظمة والظواهر الثقافية المادية والمعنوية في إطار تفكيك السيميوزيس، وتركيبه من جديد. ومن ثم، يعد يوري لوتمان من رواد السيميوطيقا الثقافية، وقد ركز على مجموعة من المفاهيم هي: سيمياء الكون، والمركز والهامش، والفضاء الثلاثي: الداخل والخارج والحدود، والفضاء الجغرافي في مقابل الفضاء الثقافي الكوني، و سيميوطيقا الثقافة، و سيمياء الترجمة، وسيمياء الحوار...

هذا، ويعتبر مشروعه (سيميوطيقا الثقافة) إطارا نظريا ومنهجيا متميزا، إذ يسعفنا في تحليل الكثير من النصوص والخطابات والأنظمة الثقافية، مثل: دراسة الفضاء العام والخاص، ودراسة محكيات السفر والرحلة، وتحليل النصوص السردية التي تضم مجموعة من الفضاءات المتنوعة والمختلفة، ودراسة أدب الهجرة، ودراسة بنيات المدينة، واستجلاء الأبعاد الثقافية في النصوص الأدبية وغيرها، ورصد الحبكات السردية التي تتلون بالأبعاد الثقافية بصفة عامة، وتمتح من مفاهيم سيمياء الكون بصفة خاصة.


الابتسامة هي قوس قزح الدموع