عرض مشاركة واحدة
قديم 12-01-2020, 12:34 PM
المشاركة 2890
عبد السلام بركات زريق
مشرف منبر الشعر الفصيح

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية المشرف المميز الألفية الأولى الحضور المميز 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: مَجْمعُ الأمثال

.... أَصَبُّ مِنَ المُتَمَنِّيَةِ ....


هذا مثل من أمثال أهل المدينة سار في صدر
الإسلام ، والمتمنية : امرأة مَدَنية عَشِقَتْ فتًى من بني
سُلَيم يقال له : نَصْر بن حَجَّاج ، وكان أَحْسَنَ أهل زمانه
صُورة ، فَضَنِيَتْ من حبِّه ، ودَنِفَتْ من الوَجْدِ به ، ثم
لَهِجَتْ بذكره ، حتى صار ذكره هِجِّيَراهَا ، فمرَّ عُمَرُ بن
الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة بباب دارها ، فسمعها
تقول رافعةً عَقِيرَتَهَا :

ألا سَبيلَ إِلى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا
أم لا سَبِيلَ إلى نَصْر بن حَجَّاجِ


فقال عمر رضي الله عنه : مَنْ هذه المتمنية ؟ فعرف
خَبَرَها ، فلما أصبح استحضر الفتى المتمنَّى ، فلما رآه
بَهَرَهُ جمالُه ، فقال له : أأنت الذي تتمناكَ الغانياتُ في
خدورهن ؟ لا أُمَّ لَكَ ! أما والله لأزيلَنَّ عنك رِدَاءَ
الجمال ، ثم دعا بحجَّامٍ فَحَلَقَ جُمَّته ، ثم تأمَّله فقال له :
أنتَ مَحْلُوقًا أَحْسَنُ ، فقال : وأَيُّ ذنبٍ لي في ذلك ؟
فقال : صدقت ، الذنْبُ لي أنْ تركتُكَ في دار الهجرة ،
ثم أركَبَهُ جملًا وسَيَّره إلى البَصْرة ، وكتب إلى مُجَاشع
ابن مسعود السُّلَمي : إني قد سَيَّرتُ المُتَمنَّى نصرَ بن
حجَّاج السُّلمي إلى البصرة ، فاسْتَلَبَ نساءُ المدينة لفظةَ
عمر ، فَضَربْنَ بها المثل ، وقلن " أَصَبُّ مِنَ المُتَمَنِّيَةِ "
فسارت مثلاً .
قال حمزة : وزعم النسابون أن المتمنية كانت القريعة بنت
هَمَّام أم الحجاج بن يوسف ، وكانت حين عَشِقَتْ نصرًا
تحت المُغِيرَةِ بن شُعْبة ، واحتجوا في ذلك بحديث رَوَوْه ،
زعموا أن الحجاج حَضَرَ مجلس عبد الملك يومًا وعُرْوَة بن
الزبير عنده يحدثه ويقول : قال أبو بكر كذا ، وسمعت أبا
بكر يقول كذا ، يعني أخاه عَبْدَ الله بن الزبير ، فقال له
الحجاج : أعند أمير المؤمنين تَكْنِي أخاك المنافق ؟ لا أم
لك ! فقال له عروة : يا ابن المتمنية إلي تقول هذا ؟ لا أمَّ
لك ! وأنا ابن عجائز الجَنَّة صفيَّةَ وخَدِيجَة وأسماء وعائشة
رضي الله عنهن .
وكما قالوا بالمدينة " أصب من المتمنية " قالوا بالبصرة
" أَدْنَفُ من المتمنَّى " وذلك أن نصر بن حجاج لما وَرَدَ
البصرةَ أخذ الناسُ يسألون عنه ، ويقولون : أين هذا
المتمنَّى الذي سَيَّرهُ عمر رضي الله عنه ؟ فغلب هذا الاسم
عليه بالبصرة كما غلب ذلك الاسم على عشيقته بالمدينة .
ومن حديث هذا المثل أن نصرًا لما ورد البصرة أنزله مُجَاشع
بن مسعود السُّلَمي منزلَهُ من أجل قَرَابته ، وأَخْدَمَهُ امرأته
شُمَيْلة ، وكانت أجملَ امرأةٍ بالبصرة ، فعلقته وعَلِقها ، وخفي
على كل واحدٍ منهما خبرُ الآخر ؛ لملازمة مُجَاشع لضَيْفه ،
وكان مجاشع أمِّيًّا ونَصْر وشُمَيلة كاتبين ، فَعِيْلَ صبرُ نصر ،
فكتب على الأرض بحضرة مجاشع : إني قد أحببتك حبًّا لو
كان فَوْقَكِ لأظَلَّكِ ، ولو كان تحتك لأقَلَّكِ ، فوقَّعَتْ تحتَهُ
غيرَ محتشمة : وأنا ، فقال لها مجاشع : ما الذي كَتَبَه ؟
فقالت : كتب كم تَحْلُب ناقتكم ؟ فقال : وما الذي كتبت
تحته ؟ فقالت : كتبت وأنا ، فقال مجاشع : كم تَحْلُب ناقتكم ،
وأنا ، ما هذا لهذا بطبق ، فقالت : أصدقك أنه كتب كم
تغلُّ أرضكم ؟ فقال مجاشع : كم تغل أرضكم وأنا، ما بين كلامه
وجوابك قرابة ، ثم كَفَأَ على الكتابة جَفْنة ودعا بغلام من
الكُتَّاب ، فقرأ عليه ، فالتفت إلى نَصْر فقال له : يا بن عم
ما سَيَّرَكَ عمر من خيرٍ فقم ، فإنَّ وراءك أوسَعَ ، فنهض
مستحييًا ، وعَدَلَ إلى منزل بعض السُّلَميين ، ووقع لجنبه ،
فَضَنِيَ من حب شُمَيْلة ، ودَنِفَ حتى صار رَحْمَة ، وانتشر
خبره ، فضرب نساء البصرة به المثل ، فقلن " أَدْنَفُ من
المتَمَنِّي " ثم إن مجاشعًا وقف على خبر علة نصر بن حجاج ،
فدخل عليه فلحقته رقَّة ، لما رأى به من الدنف ، فرجع إلى
بيته وقال لشُمَيلة : عَزَمْتُ عليكِ لما أخذت خُبْزَةً فَلَبَكْتِهَا
بسمنٍ ثم بادرتِ بها إلى نصر ، فبادرت بها إليه ، فلم يكن به
نهوض ، فضمته إلى صَدْرها ، وجعلت تلقمه بيدها ، فعادت
قُوَاه وبرأ كأنْ لم يكن به قَلَبة* ، فقال بعض عُوَّاده : قاتل
الله الأعشى فكأنه شَهِدَ منهما النجوى حيث قال :

لوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلى صَدْرِهَا
عَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إلى قَابِرِ

فلما فارقته عاوده النُّكْس ، فلم يزل يتردد في علته حتى
مات فيها .


* القلبة - بالتحريك - الداء ، والعيب أيضًا .