عرض مشاركة واحدة
قديم 10-10-2014, 08:42 PM
المشاركة 1206
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع ...
والان مع العناصر التي صنعت الروعة في رواية 61- فساد الامكنة صبري موسي مصر

- إننا، مع «فساد الأمكنة»، إزاء نص نادر، رغم سهولة البحث له عن أصول ووشائج تصله بمرحلة الستينات، في الرواية المصرية.

- ويبدو أن إيقاع «الموال» هو الأنسب للتعامل مع رواية تجمع بين الأغراض الإنسانية الكبرى، وبناء «النشيد» الذي يبقى حكرا على كتابات الشرق القديم، وما تناسل منها من مدونات تحاورها أو تتعامل معها،

- لهذا، ولسواه، من السهل جدا أن نقع في هوى هذه الشخصيات التي تتحرك وسط ديكور بدائي، يحيل على العالم قبل ظهور الخليقة، وصور شخصيات مستعارة من الواقع والأسطورة في آن واحد، ويتناول أحداثا يعسر تخيلها خارج هذا الإطار.

- والرواية تبطن أشتاتا من العجائبية السحرية النابعة من تراث عشائر الجنوب.

- فالبناء الداخلي ينسجم مع المرجع الخارجي واللغة، ليصهرهما ضمن رؤية واحدة تولد واقعا جديدا مختلفا: إنه عالم الرواية، حيث يعيد المبدع تنظيم الكائنات وتصنيفها، حيث يشوش الوجود ليبتدعه من جديد!

- لهذا يبدو أن الصحراء تستحضر البداية والنهاية، تستدعى المدينة والبيداء،

- يقول صبري موسى: في الصحراء حياة كاملة تجمع بين البدو والمناجم ومشروعات التعدين. لأنها منطقة ثرية للغاية. كان يخيل إليّ أنني أول من يضع قدمه على ترابها..!

- النص يصور المرحلة الأخيرة من نفوذ الأسرة المالكة في مصر، قبيل الثورة الناصرية، حيث كان من السهل أن ينقض الخواجات الأجانب على أحد المناجم المتناثرة في الجنوب المصري، يشتغلون ويساومون ويداورون ويبتزون!

- ومن الواضح أن منطق السرد في هذه الرواية يعتمد الحذف والاستبدال والتكثيف والإشارة والتضمين، لكنه يستعمل فنيات «الإرجاء» بلا منازع، لذلك يبدو مبدأ التصريح والإعلان ضامرا إذا ما قورن بمبدأ الإهمال والتغاضي!

- تستهل الرواية بفصل افتتاحي موسوم بعنوان «الدرهيب، ملمح شبه نهائي» يوحي بالبداية والنهاية، بالفتح والإغلاق، في وقت واحد.

- تتوالى المقاطع في شكل تبرير تدريجي للمشهد الافتتاحي، حتى ندرك الفصل الأخير الموسوم بـ«فصل ختامي» فنجد أنفسنا، عودا على بدء، إزاء الملمح نفسه: ثلج وخراب.. و«نيكولا يتأمل البيوت الخشبية حيث كانوا يروحون ويجيئون، يعملون ويأكلون ويلعبون». ونحن لا نشك في أن الأسطورة والحلم يدعمان هذه البنية القائمة على التفكك والعود الأبدي.

- والملاحظ أن «فساد الأمكنة» رواية توغل في اعتماد لغة شعرية صافية.

- ومما يسمح بمثل هذا التكثيف الشعري ذي السمات الأسطورية استخدام الكاتب عدة فنيات وصياغتها ضمن قوالب تجعل من الجبال والصحارى، والإنسان والمعادن، عناصر تتفاعل في فضاء غير نهائي، في أرض «لا يحكمها أهلها.. وينزح إليها كل راغب فينقب ويستخرج ترخيصا بالحفر، فيصبح مالكا لواحد من هذه الجبال التي لا يملكها أحد حتى الآن..!»

- إننا إزاء مشاهد خارقة ترى فيها المسموعات وتسمع المحسوسات والملموسات. فقد ولدت اللقيا بين البحر والجبل والمدينة والصحراء والسماء والأرض وأعماق المناجم فضاء جديدا خارج الحدود والأطوار، هو فضاء الرواية، الذي تقام فيه الطقوس والشعائر البدائية وتنذر القرابين. ويبدو أن رحلة الصيد التي يصحب فيها الملك الصغيرة «إيليا»، يلوثها وينتهك براءتها ويدفع بوالدها نحو الجنون، تمثل أوج هذا النص الفاجع.

- فالدرهيب تملأه كائنات تهيمن على الجبال والوهاد والبحر، وعبد الله كريشاب يضاجع عروس البحر تحت أنظار ملك مصر وحاشيته، وجسم الملك نفسه يمسخ في نظر إيليا ليكون كائنا بدائيا مثل السمكة المتوحشة! أما إيسا فيصبح شبيها بإبراهيم يدخل النار دون أن يمسه سوء! لقد كان إيسا- سارق السبيكة- يدرك أنه قد أخذ حقه، وأنه لم يغتصب شيئا من أحد! «بل لعله وقتها كان ينظر بغريزته الصافية في أغوار الزمن القديم، فيرى النمرود يدفع إبراهيم إلى اللهب فيخرج منه سليما معافى، أو يرى معجزة بابل القديم، حين ألقى «نبوخذ نصر» بثلاثة من رعاياه في النار موثقين فخرجوا منها محلولي الوثاق، ثم لم تمس النار حتى ثيابهم».

-إنها تركيبة تبتعد عن المعتاد لتجعلنا إزاء «غذاء جبلي لا يعرفه حقا سكان المدينة!»

-إزاء رواية تقول في لغتها الراقية ما يعسر أن تقوله رواية أخرى!

- هنا يتحول الإنسان إلى كائن ملحمي، وتصبو الحياة إلى منطق الفن، فنتجاوز قوانين العقل والوضوح لمجابهة الحضارة الحديثة بكامل عدتها وعتادها!

- ينبغي أن نقر بأننا إزاء نص تحدث فيه الأفعال وتوجد الأشياء لحظة تسميتها، فتتحد حقيقة المبدع المرجع للإقرار بأن الرواية تتوسل بالشعر لتقول اختلافها، واختلاف صاحبها.. وبحثه عن نص مغاير نابع من رؤية مغايرة!

من مقال *د. صلاح الدين بوجاه*
كاتب وناقد تونسي.