عرض مشاركة واحدة
قديم 10-02-2014, 06:07 AM
المشاركة 1203
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع....والان العناصر التي صنعت الروعة في رواية 60- دعاء الكروان طه حسين مصر

من دراسة يسري عبد الغني عبد الله
باحث ومحاضر في الدراسات العربية والإسلامية

- دعاء الكروان عمل روائي ، يجمع بين التركيب والبساطة ، ففيه من الرواية : هيكلها العام ، ونسيج الأحداث ، وصور الشخصيات .
- وفيه من النثر الفني تلك المباشرة في تحديد الهدف الأخلاقي أو الاجتماعي ، والقصد إليه دون مواربة أو غموض .
- وفيه منه كذلك : أسلوب أنيق رقيق ، يمزج الفخامة بالوضوح ،
- وفيه من الشعر : روحه ، ونبرته الذاتية ، واسترسالاته الغنائية .
- وفيه إلى جانب ذلك كله طعم المأساة حين يعصف الثأر بزهرة غضة لم تكد تستقبل إشراقة الصبح ، وإطلالة الندى .
- أما البساطة فتتجلى في المضمون الروائي ، وفي قلة الأحداث ، والميل إلى التجريد ، والتجافي عن الانفعالات المبالغ فيها ، والمشاهد الميلو درامية الصارخة التي لا جدوى منها .
- إن دعامة المأساة في رواية دعاء الكروان ، تنهض على دعامتين أساسيتين : الأولى : الثأر الثانية : الحب .
- وتسهم العادات والتقاليد والأعراف والبيئة ، أي : ثقافة المجتمع بكل مفرداتها ، تسهم بوجه عام في التمهيد لهذه المأساة ، وتخطيط مسارها .
- والبيئة هنا هي صعيد مصر بكل موروثه في الحفاظ على العرض ، وتطهيره بالدم إذا شابته أقل شائبة .
- وأما الضحية فهي (هنادي) التي هاجرت مع أختها (آمنة) ، وأمها (زُهرة) من قريتهم (بني وركان) إثر مصرع رب العائلة في حادثة أخلاقية ، وفي مهجرهن بإحدى مدن الأقليم يقدر لهنادي أن تعمل في خدمة مهندس شاب يعيش بمفرده ، بينما تخدم آمنة في بيت مأمور المركز ، وتستقر الأم في بيت موظف من موظفي الدائرة السنية .
-فجيعة أخرى تتسرب في أعماق آمنة لتزيدها إصراراً على الثأر لأختها من ذلك المهندس الشاب الذي أغواها ثم غدر بها .
- موضوع هذه الرواية إذن هو: (الخطيئة والثأر والحب) ، ومن ثم فهي رواية عاطفية / تحليلية بالدرجة الأولى .
- ولقد تمثل رواية دعاء الكروان لعميد الأدب العربي الدكتور / طه حسين مع ذلك صورة من كفاح الطبقة الفقيرة الكادحة في محاولة للتغلب على تعاستها .
- ولنا أن نميز بين جزئين ، الجزء الأول من الرواية نرى فيه فتاة تسعى إلى التحرر بلا وعي ولا تفكير مرسوم ، وإنما هو مجرد صدام عريان غير متكافئ مع قوى الظلم ، ينتهي إلى النتيجة المنتظرة أو المتوقعة ، وهي موت هنادي بيد خالها .
- والجزء الثاني نرى فيه فتاة أخرى (آمنة) قد تسلحت بنور المعرفة وقوة العقل ، وعملت على تفادي الصراع الدموي مع المجتمع ، وتحويل هذا الصراع نفسه إلى صراع نفسي وفكري .
- غير أن لب الرواية ومحركها الأول يظل ـ قبل ذلك وبعده ـ محكوماً بمنطق تحليل العاطفة ، ويعقبها فزعاً وتمرداً على مصرع هنادي الضحية البريئة .ثم نقمة وكراهية وإصرار على الثأر من المهندس الجاني ، ثم حباً ينمو على استحياء متأرجحاً بين ذكرى الأخت (هنادي) وكبرياء الأنثى (آمنة) ، ولكنه لا يلبث أن يصبح قدراً لا مفر منه ، وإذعاناً لا ثورة بعده ، واستسلاماً لا رجوع فيه .

- إلى جانب هذا المنهج في التحليل العاطفي ، تبدو في الرواية نزعة كلاسيكية أو فلنقل : ملامح ومظاهر كلاسيكية ، تتمثل في اختيار موقف روائي أثير لدى أقطاب الكلاسيكية الأوربية ألا وهو : موضوع حب الأعداء .
- كما تتمثل في حضور سلطة العقل (تحكم العقل وانتصاره ) في وعي البطلة (آمنة) بذاتها حتى في أحرج اللحظات وأكثرها صعوبة ، وهل ثمة ما هو أوضح في الدلالة على هذا من مسلكها ساعة يعرض عليها المهندس فكرة الزواج .
- في رائعة الدكتور / طه حسين (دعاء الكروان ) ، أناك جانب نقدي يشجب المأساة ويدينها ، وهو يدينها لأنها جريمة فقط لا غير ، ولا لأنها نتاج التقاليد البالية فحسب ، بل لأنها أولاً وقبل كل شيء عدوان أثيم على روح آدمية ، وإراقة لدم بريء . أي أن المنطلق النقدي في التحليل الأخير هو منطلق أخلاقي صرف ، وإنساني بحت بالدرجة الأولى .
- وهنا أيضاً لا تخون الكاتب نزعته الكلاسيكية في التصوير ، حتى في تلك المشاهد العنيفة بطبيعتها ، مثل مشهد مصرع هنادي على يد خالها ، نرى الدكتور / طه حسين يلجأ إلى ماكان يلجأ إليه أعلام المدرسة الكلاسيكية في فترة ازدهارها ، من رفق في التناول ، وقصد في إثارة الانفعالات والمشاعر ، وحرص عام على ذكر ما يليق دون أدنى توتر ، أو أقل تصعيد لا مبرر له ، إلى حد أن مجرد عرض منديل (ديدمونة) على خشبة المسرح كان كافياً لأزعاج الهدوء الكلاسيكي عند مشاهدي مسرحية (عطيل ) للشاعر والمسرحي الإنجليزي / وليم شكسبير .

- نلمس في الرواية عزوفاً عن إثارة القارئ المتلقي بالتفاصيل الفاجعة واللقطات الدرامية الصارخة أو فلنقل اللقطات المليودرامية ، حتى أن مصرع هنادي يتم إبلاغه لنا في جملة إخبارية واحدة وهي : "وإذا أختي قد صرعت ، وإذا خالنا هو الذي صرعها " .
- كما نلمس عنصر النقد في الرواية من منطلق أخلاقي وإنساني بحت ، وهذا العنصر يتجلى في صورة حكم قاطع بالإدانة ، فالحدث جريمة منكرة ، والخال مجرم أثيم ، والقتيلة هنادي ضحية بريئة .
- ربما لا حظنا مع ذلك أهمية الدور الذي يلعبه طائر الكروان لا في ذلك المشهد الذي عرضنا له آنفاً وحده ، بل وفي كل فصل من فصول الرواية .
- فالكروان بمثابة بطل غير منظور من أبطال الرواية ، ويتكرر دعاؤه ، وتتردد مناجاة البطلة آمنة له في صدر كل حدث ، وفي خاتمته .
- حتى لك أنه اللازمة اللحنية التي تتردد بين فواصل النغم فتزيد عناصره وحدة ، أو لكأنه الاستجابة النفسية يفيض بها صدر البطلة فتعقب على كل ذكرى وصدى وجدانياً لكل واقعة تحدث لها ، أو تعايشها .
- وبذا يمكن القول بأن رواية دعاء الكروان يتم على مستويين : 1 ـ المستوى الأول : مستوى النسيج الخارجي للأحداث أو الإطار الخارجي لها .2 ـ المستوى الثاني : المستوى الداخلي ، المتمثل في علاقة آمنة بطلة الرواية بطائر الكروان ، باعتبار هذا الأخير رمزاً لغناء التأثر من ناحية ، ولذكرى هنادي الأخت الصريعة من ناحية أخرى - إذا كان الكاتب الروسي الشهير / تشيخوف قد سمي أحد مسرحياته الشهيرة (طائر النورس ) .، كما أطلق الأستاذ / توفيق الحكيم (عصفور من الشرق ) عنواناً لواحد من أهم كتبه ، والذي صدر سنة 1938 م ، وأقام الأستاذ / عباس محمود العقاد للكروان ديواناً في الشعر العربي الحديث ، إلا أنه سوف يظل للدكتور / طه حسين أنه أول من جعل الكروان بطلاً من أبطال الرواية المصرية والعربية الحديثة .
- تتم رواية الأحداث في رواية (دعاء الكروان) على لسان المتكلم ، والمتكلم هنا هو آمنة الشخصية المحورية أو الرئيسية في الرواية .
- وآمنة تتولى سرد الوقائع ، والتعليق عليها ، وتقدم لنا زاوية الرؤية الأساسية في الرواية ، بطريقة تشعرنا بأنها تحمل وجهة نظر المؤلف (الدكتور / طه حسين) ذاته .
- وقد كانت هذه الطريقة في إدارة الرواية أو القالب الروائي ، على لسان بطلة لم تنل حظاً وافراً من التعليم ، مبعث نقد عنيف من قبل بعض الباحثين ، الذين لا حظوا اتساع الهوة بين شخصية الرواية ، ومستوى الأفكار التي تعبر عنها ، والأسلوب الذي تترجم به عن هذه الأفكار .
- تقوم الرواية على ما يعرف في النقد القصصي باسم الاسترجاع أو الفلاش باك ، أي أنها تبدأ من تلك النقطة التي انتهى إليها مصير البطلة بعد أن تزوجت من المهندس الشاب الثري ، وأصبحت آمنة سيدة تحيطها آيات الترف والنعمة ، وترمقها العيون بمزيد من الحسد والإعجاب .ثم لا تلبث آمنة أن تشعر بشيء من الكبرياء الغريب ، حين تتذكر صورتها منذ أكثر من عشرين عاماً ، وهي ما تزال صبية بائسة يائسة ، وتسير المقارنة في وجدانها ذكرى هنادي أختها التي قتلت على يد خالها ، فلا يلبث الحزن العميق أن يغمر جوانحها ، ولا تلبث خيوط المأساة أن تتجمع في خواطرها من جديد ، فتعقب على الأثر بقولها : "إن في أحداث الحياة وخطوبها لعظات وعبراً " .ثم تسرع آمنة في حكاية قصتها من أولها ، وبمعنى آخر تبدأ في حكاية الماضي منذ البداية .
- كل حدث فرعي يسهم في رسم بيئة الرواية أو يلقي الضوء الكاشف على ملامح أبطالها .
- وكل شخصية رئيسية كانتأو فرعية في الرواية تشترك في دفع حركة الرواية إلى الأمام قدماً ، وتقوم بدورها ، مهما قل حجمه في تطور الأحداث خلال الرواية ، وهذا رأي الدكتور / علي الراعي .
- فإذا التمسنا معاً سبباً لما عساه أن يلاحظ أحياناً من فضفضة في قالب رواية (دعاء الكروان ) ، فسوف لا نعثر عليه في الأحداث الروائية ، أو الشخصيات ، بل سنجده في تلك الاسترسالات ، التي يمكن أن نطلق عليها : استرسالات غنائية ، التي تقطع ديناميكية أو استمرارية الفعل الروائي ، وتفسد تدفقه ، دون أن يكون لها مع ذلك كبير صلة بالموقف الذي تساق .
- يلاحظ براعة الدكتور / طه حسين في رسم شخصياته الثانوية ، واستخدامه لهذا الغرض التفصيلات الواقعية الدالة والمعبرة ، وكذلك الأوصاف الدقيقة التي تعبر لنا بخلاء ووضوح عن هذه الشخصيات الثانوية .
- على الرغم من صغر دور الشخصيات الثانوية لكننا نجد بان طه حسين رسمها بدقة متناهية ، جاعلاً إياها تنبض بالحياة والحركة ، وتسهم في رسم البيئة العامة المحيطة بها ، والتي يجري فيها الحدث الروائي .
- على حين يستخدم المؤلف التفصيلات الواقعية في رسم الشخصيات الثانوية خلال الرواية ، نراه يلجأ إلى الوصف الشاعري ، واللمسات التقريرية في تحديد الشخصيات الرئيسية في العمل الروائي .
- كثيراًما يلجأ طه حسين في روايته إلى التحليل النفسي ، واستبار الشعور ، أي اختبار المشاعر بغية إضاءة الجانب الشعوري والعاطفي في الشخصيات ، وتخطيط ملامحها النفسية .
- بل أنه قد يعمق هذا التحليل النفسي أحياناً ، وتنهار فيه حواجز المنطق والتفكير العاقل المرتب حتى ليتحول إلى ما يعرف في النقد الأدبي بوجه عام ، والقصصي بوجه خاص باسم : تيار الوعي أو التداعي الحر .
- يلاحظ مدى انعكاس اللحظة النفسية على درجة شاعرية الأسلوب ، وغناه بالمشاعر والانفعالات الفياضة المعبرة .
-ربما كانت هذه الروح الشاعرة التي تظلل الأسلوب في الرواية ، بالإضافة إلى قلة الأحداث ، وغلبة لحظات الاستبطان النفسي ، والاسترسالات الغنائية ، ربما كان هذا جميعه وراء تركيز المؤلف الدكتور / طه حسين ، على السرد القصصي ، وقلة الاحتفاء أو الاهتمام بالحوار . فالحوار في دعاء الكروان قليل ، وهو مع قلته لا ينسجم تماماً مع طبيعة الشخصية التي تشترك في الحوار ، لعلو نبرته ، وكثافة محتواه الفكري .
وقد تطول الجملة الحوارية أحياناً طولاً غير مألوف ، حتى يفقد الموقف الذي نتابعه حيويته وحرارته .
- وأحياناً يفضل أستاذنا العميد / طه حسين العدول عن الحوار تماماً ، والاكتفاء بسرد مضمونه .
- أما أسلوب الرواية وطريقتها اللغوية فلا يختلفان كثيراً عما تعودناه من طه حسين من فخامة ، ووضوح ، وجلال ، وهو أسلوب نحس فيه دائماً إنعكاس الموروث الأصيل الجميل ، وأصالة المعاصرة .
- وأسلوب العميد يعتمد اعتماداً كلياً على : استقصاء المعنى ، وإشباع الفكرة ، وتشقيق التعبير بشتى الطرق والوسائل .
- كما يتميز أسلوبه المتفرد بخصائص الاستحضار أو الحيوية ، والتأكيد ، وكلاهما نابعاً من حرص العميد على التأثير في القارئ أو المتلقي ، وإقناعه بما يقوله .
.