الموضوع
:
ما سر "الروعة" في افضل مائة رواية عالمية؟ دراسة بحثية
عرض مشاركة واحدة
09-11-2011, 04:45 PM
المشاركة
82
ايوب صابر
مراقب عام سابقا
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 4
تاريخ الإنضمام :
Sep 2009
رقم العضوية :
7857
المشاركات:
12,766
فيدور
دوستويفسكي
(1821-1881)
"
إن ما يجعلك عظيما، هو ألا تستطيع أن تنتهي
" -
غوته
هذه الجولة فى أعمال دوستويفسكى تقود السائر..
عبر جحيم الرذائل ويرقى
به كل درجات العذاب الأرضي، عذاب الإنسان وعذاب البشرية، عذاب الفنان والعذاب
الأخير، عذاب الله، وهو أقصى ألوان العذاب
!!
إن الفكر والإيمان قد أنقذا
دوستويفسكى من الحياة الضحلة والوضيعة والجسدية، ففى أعمق أعماق دوستويفسكى تتجلى
دائما ذروة عظمته: لا ينطق محياه قط أقوى مما ينطق من عالم
الموت
.
مأساة حياته
يحس المرء بذلك ــ أول الأمر ــ
تعذيبا لا معنى له، ذلك أن هذه السنوات الستين تعذب الجسد المتداعى بكل أدوات
التعذيب.. لم يدخر عذاباً، ولم ينس تعذيباً ويبدو هذا المصير بادئ ذى بدء قسوة لا
معنى لها وعداء أعماه الغضب
.
إن يد الله الجبارة تفعل ما تفعل بأيوب إذ تحطمه
دائما.. فى أكثر اللحظات أمانا فتنتزع منه الزوج والولد وتثقل كاهله بالمرض، وتشهر
به فى ازدراء لئلا يكف عن الصراع مع الرب، وليظفر به الرب أكثر من ذى قبل بتذمره
المستمر وأمله الذى لا ينقطع! ثم ينشئ دوستويفسكى من ألمه حبا لمعاناة الألم وهو
يغرق عصره وعالمه بلهيب عذابه القائم على المعرفة
.
إن ديون دوستويفسكى
وهمومه تخرجه بسوطها من روسيا والمرض ينخر فى جسده ويتيه فى أوروبا بأسرها كالبدوي،
وقد نسيته أمته.. ثم يعود للمرة الثانية بعد أن قضى فى سيبيريا إبان سجنه وهناك فى
ملجأ الفقراء بموسكو فى كوخ ضيق كان يقاسمه مع أخيه، أنفق السنين الأولى من حياته،
فلا يجرؤ المرء على أن يقول: طفولته.. ذلك أن هذا المفهوم مات وتلاشى من حياته فى
مكان ما
.
من دخان هذه الأيام العكر، تتكاثف على نحو بطيء صور خاصة وأخيرا ينضج
من هذه الحالة الضبابية القائمة على الخوف والوجد مؤلفه الأدبى الأول، الرواية
الصغيرة "أناس بؤساء" لقد كتب هذه الدراسة الإنسانية البارعة عام 1844، وهو فى
الرابعة والعشرين من عمره،
وكان الفقر وهو أعمق ما يذله هو الذى
أنتجها ألا وهى حب
الألم والمشاركة اللانهائية فى الألم
.
ثم يهرع الشاعر الروسى الكبير نيكراسوف
إلى بيلينسكى (ناقد روسيا الجبار) وينادى وهو على الباب ملوحاً فى يده كالراية
قائلا: "لقد نشأ غوغول جديد" ويغمغم بيلينسكى وقد أغاظته كل تلك الحماسة بقوله: "إن
الغوغولات لتنمو عندكم كما ينمو الفطر" بيد أن بيلينسكى يتحير عندما يزوره
دوستويفسكى فى اليوم التالي، قائلا: "ترى هل تدرك أنت نفسك ما أبدعت هنا؟!" لكن
دوستويفسكى يغمغم، هو أيضا شاكرا وفى دموعه تمتزج السعادة
بالألم
!!
ومرة أخرى كما حدث بالأمس يفتح دوستويفسكى فى الليل شقته متعجلاً، ولكن
الصوت فى هذه المرة هو نداء الموت، فهؤلاء ضباط وقوزاقيون يقتحمون حجرته ويعتقل
الرجل المستثار وتختم أوراقه بالشمع الأحمر: كان كل ذنبه الاشتراك فى مناقشات بعض
الأصدقاء الغاضبين التى سميت على سبيل المبالغة باسم "مؤامرة بتراشيفسكي" ولا ريب
فى أن اعتقاله كان سوء فهم. ومع ذلك ينزل الحكم فجأة كالبرق إلى أقسى
العقوبات إلى
الموت بالبارود والرصاص
.
ومرة أخرى يتدخل القدر، ففى غسق الصبح يخرجونه من السجن
مع تسعة من
رفاقه ويسدل عليه كفن وتشد أوصاله بالحبال إلى الوتد وتعصب عيناه
..
وفجأة يرفع الضابط يده ويلوح بالمنديل الأبيض، ويقرأ حكم العفو محولا الحكم
بالإعدام إلى سجن أربع سنوات فى سيبيريا
.
ويعود دوستويفسكى إلى بطرسبرج رجلا منسياً وتنتزع روايته "ذكريات
من بيت
الموتي
" هذا الوصف الخالد لفترة عقوبته، روسيا من البلد الحسى المتمثل فى المشاركة
اللامبالية فى المعاناة! الآن يأتى الفزع
ضربة عاصفة إثر ضربة عاصفة فى قلب ساحة
حياته، تموت زوجته ويموت بعدها بقليل أخوه الذى كان فى الوقت ذاته أفضل صديق ومعين
له
!
الآن أيضا يبدأ ذلك التجوال الذى استغرق سنين طوالا بلا هدف فى المنفى
الأوروبي!! ولئن كانت سيبيريا هى المطهر أو
المدخل إلى معاناته للألم
، فقد كانت
فرنسا وألمانيا وإيطاليا
بلا ريب جحيمه
؛ لا يعرفه الناس إلا فى المصرف، حيث يأتى
شاحبا كل يوم إلى منصة المصرف، ويسأل بصوت مرتفع من الانفعال عما إذا كانت الحوالة
لم تأت من روسيا أخيرا وهى حوالة بمئة روبل كان يتوسل من أجلها، ألف مرة أمام
الأدنياء، والغرباء من الناس وسرعان ما يضحك الموظفون من المجنون البائس وانتظاره
الأبدي، لقد بلغ دوستويفسكى الخمسين من العمر،
ولكنه عانى عذاب الآلاف من
السنين
.
معنى مصيره
"
لقد غدوت أستاذاً فى احتمال
اللذة والألم، وتحولت عندى متعة المعاناة إلى سعادة ونعيم" - جوتفريد كيللر
يقوم
بين دوستويفسكى ومصيره صراع لا يتوقف نوع من العداوة المفعمة بالمحبة، وإزاء مثل
هذه القدرة الشيطانية على تحويل المعاناة يفقد المصير الظاهرى سيطرته بصورة كاملة،
فما يبدو عقاباً وبلاء يتحول عند العارف إلى عون، فثمة برق مشابه يمس أديبا بآخر من
عالمنا هو أوسكار وايلد. ويسقط كلا الأديبين وهما كاتبان لامعان ونبيلان من أصحاب
المكانة الرفيعة، بيد أن الأديب وايلد يسحق فى هذا الامتحان كما تسحق الأشياء فى
هاون، أما الأديب دوستويفسكى فيتشكل من هذا الامتحان فحسب، كما يتشكل الفلز فى
بوتقة ناريةَ
!!
يحترق وايلد متحولا إلى خبث لا قيمة له فى اللهيب الذى يشكل
دوستويفسكي، فيحوله إلى صلابة متألقه ويجلد وايلد كالعبيد لأنه يقاوم، بينما ينتصر
دوستويفسكى على مصيره بحبه لمصيره
.
إن
السجن
سيبيريا والأشغال الشاقة و
الصرع
والفقر
وحمى
المقامرة والتهتك
، كل أزمات وجوده هذه تصبح فى فنه
مثمرة بفعل قدرته الشيطانية
على قلب القيم
!!.
كان دوستويفسكى
مصابا بالصرع طوال كل الأعوام الثلاثين من حياته الفنية
،
فأثناء انهماكه فى العمل وفى الشارع وأثناء الحديث، بل فى النوم تنشب يد "
الشيطان
الخانق
" مخالبها حول حلقومه وتطرحه أرضا على نحو مفاجئ والزبد يغشى فمه حتى ينزف
جسده فى الحال دما. إن دوستويفسكى المعذب لا يثور قط بكلمة واحدة على الامتحان، ولا
يشكو قط من عجزه، كما يشكو بيتهوفن من صممه، وبايرون من قدمه القصيرة، وروسو من
التهاب المثانة،
فدوستويفسكى يصبح سيد ألمه بأن يصغى إلى ذلك الألم. أما الخطر
الأقصى الذى يحدث بحياته وهو الصرع فيحوله إلى أعلى سر من أسرار فنه
.
يجب أن
يفهم دوستويفسكي،
فهو ضحية حياة قائمة على الصراع
، وهو من أجل ذلك متعصب لتناقضه
باعتباره متعصبا ومتحمسا لمصيره، وينشأ اللهيب المسخن لمزاحه الفنى من مجرد
الاحتكاك المستمر بين هذه المتناقضات، ويعمد ذلك الجامح بدلا من توحيد المتناقضات
إلى تقسيم الصراع الفطرى القائم فى نفسه تقسيما متباعداً على نحو متزايد إلى جنة
وجحيم. فدوستويفسكى الفنان، هو الأكمل ناجم عن التناقض، وأكبر ثنوى
Dualistic
فى
الفن وربما كان أكبر ثنوى بين البشر
.
كان يمثل مفهوم السعادة عنده فى التمزق،
ومفهوم العذاب فى الإجادة. إن دوستويفسكى يستفز المصير فى المقامرة: وما يقامر به
ليس المال، وهو دائما آخر ما يملكه، وإنما يقامر بذلك بكل وجوده، وما يكتسبه من
المصير هو الحالة القصوى لخدر الأعصاب، إنه رعدة قاتلة، خوف جذرى أصيل، إنه الإحساس
الشيطانى بالعالم
.
كل ما يهم هو ألا نسيء فهم الحقيقة. إن اليوشا المسيح،
القديس ونقيضه المتهتك، الإنسان الشهوانى ذو الحس المتوفز فيودر القذر يرتبطان برابطة الأخوة الدموية فى كرامازوف دوستويفسكي
.
إن تولستوى يتهم نفسه بكل الخطايا القاتلة بصوت عال وأمام الناس جميعا، أما دوستويفسكى فيسكت غير أن سكوته يقول عن "سدوم" شيئا أكثر من تهم تولستوي.
ينبغى للمرء أن يفهم هذا المعنى الرمز الكارامازوفي، وهو أن اليوشا الملاك القديس هو ذاته ــ دون غيره ــ ابن فيودر(؟!) ابن "عنكبوت اللذة" القاسي، فاللذة تنتج النقاء، والجريمة تنتج العظمة، والمتعة تنتج المتعة من جديد، وتتلامس المتناقضات أبدا، فبين الجنة والجحيم، بين الله والشيطان يمتد عالمه متوترا!
شخصيات دوستويفسكي
"إياكم والإيمان بوحدة الإنسان" ــ دوستويفسكي
هذه الروسيا، روسيا منتصف القرن التاسع عشر، لا ندرى إلى أين تذهب، فتورجينيف يدفع بها إلى الأمام، وتولستوى يردها إلى الوراء. وكل شيء مضطرب. القيصرية تواجه بصورة مباشرة تحديا شيوعياً، والأرثوذكسية، المتوارثة منذ عهد بعيد تواجه إلحادا تعصبيا جنونيا، بيد أن شخصيات دوستويفسكى لهى شخصيات روس أصلاء باعتبارها مجتثة الجذور من تقاليد كبيرة، من يريد ذلك من شخصيات دوستويفسكي؟ لا أحد فالسعادة شيء لا يؤبه له عندهم، والاكتفاء شيء لا يؤبه له عندهم، والغنى محتقر عندهم أكثر مما هو مرغوب فيه. إن هؤلاء الغرباء لا يريدون شيئا من كل ذلك الذى يريده أفراد جنسنا البشرى قاطبة، إنهم يمتازون بالحس غير المألوف وهم لا يريدون شيئا من هذا العالم.
إن هذه الأرض لتبدو كما يقول إيفان كرامازوف
حانقاً غرقى بالدموع حتى
أعمق نواة فيها
!" ذلك أن فى هذه الشخصيات شيئا يقابل المتعة، متعة السعادة بين
الألم بمتعة العذاب مقابلة عميقة المعني، فألمها فى الوقت نفسه سعادتها، وهى تتشبث به بأسنانها، تدفئه على صدرها، تداعبه بأيديها، وتحبه بكل روحها، ولو أنها لم تحبه لكانت أكثر الخلق تعاسة! ولأنهم يعرفون أن "المرء لا يستطيع على هذه الأرض أن يحب حبا حقيقياً إلا عن طريق الألم، فبدلا من مبدأ أنا أفكر، إذن أنا موجود، تطرح شخصيات دوستويفسكى هذا المبدأ "أنا أتألم إذن أنا موجود
!".
إنهم يصوغون جميعا أفكارهم فى فكرة ثابتة وحيدة يفكرون فيها إلى نهايتها القصوي، ويحولونها إلى خنجر حاد مدبب يتجه فى أيديهم أنفسهم فكيريللوف وشاتوف وراسكولنيكوف وإيفان كرامازوف، كل هؤلاء الغرباء لهم فكرتهم الخاصة فكرتهم العدمية، فكرتهم الخيرية، فكرة الجنون النابليونى بالعالم، وقد أنضجوا جميعا هذه الفكرة فى هذه العزلة المرضية، فكوليا، مثلا يلقى بنفسه تحت القطار "ليبرهن" لنفسه أنه شجاع، وراسكولنيكوف يقتل المرأة العجوز ليبرهن على نظريته النابليونية، وكيريللوف رجل لا بد له أن يقتل نفسه ليستطيع أن يظل إنسانا أصيلا كل الأصالة، وشاتوف رجل يقتل ليثبت أصالته!
لا يكاد إليوشا يتميز عن ستاربتس وكرامازوف وراسكولنيكوف كما يظهرون فى ضوء الحياة الجديدة من جرائمهم بوجوه غسلتها الدموع. ففى نهاية كل روايات دوستويفسكى توجد عملية تطهير العواطف المعروفة فى التراجيديا الإغريقية ألا وهى الغفران العظيم.
لقد تبين الإنسان العارى الخالد نفسه فيهم، وإن سر التآخى
رد مع الإقتباس