عرض مشاركة واحدة
قديم 03-01-2015, 08:10 PM
المشاركة 10
رضا الهجرسى
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الفصل السادس
_________

سعيدا فرحا، وأمه تلف المبخرة حول رأسه، وتدعو له، وتستعيذ
من الشيطان الرجيم، ومن كل عين رأته ولم تصل على النبي، وهي ترافقه حتى باب البيت. قفزت كلمات أبيه ووصية روحه الأخيرة في المقبرة إلى عقله: "سيجدك دليلك..وهذه آخر مرة تراني فيها" وهو في طريقه إلى الجامعة في أول أيام العمل، غير صافي الفرحة بسيارته الجديدة، قلقا من إلحاح الكلمات على عقله، يحاول أن ينساها أو يتناساها. حضر أول اجتماع له مع عميد الكلية، جالسا وسط طاقم التدريس، والذين كانوا بالأمس القريب أساتذته، وبعد انتهاء الاجتماع، نادى عليه عميد الكلية..
- تعالى يا عبقري..أهنئك ونهنئ أنفسنا بانضمامك إلى طاقم التدريس،
هذا أولا.. ثانيا لدي بشرى لك ستسعدك..
- أشكرك يا سيدي، وأرجو أن أكون عند حسن ظن سيادتك..
- اسمع بشراي أولا، ثم اشكرني كما شئت.. أتعرف الدكتور على البنهاوي؟..
- للأسف يا سيدي، لم أسمع عنه..
- نعم.. نعم لك كل الحق.. فقد ترك الجامعة فجأة؛ بل ترك البلد
كلها، وعمل في جامعة في إحدى دول الخليج، في ذات العام الذي بدأت أنت عام دراستك الأول، وهذا عذرك.. فالدكتور البنهاوي عالم جليل، له من الأبحاث ما جعله كبيرا ومشهورا في جميع أرجاء المعمورة.
- للأسف يا سيدي أني لم أتشرف بمقابلته.
- أبشر، ستقابله وتجلس معه.. فقد وافق أن يكون المشرف على رسالتك في تحضير الماجستير..
- هذا خبر سعيد يا سيدي..
- العجيب، أنه قبلك دون أن يراك، وهذه ليست عادته.. قبلا، كان يرفض الإشراف على رسائل الماجستير.. ويقبل فقط رسائل الدكتوراة ومن ثبت تفوقهم العلمي.. جهز نفسك يا فتى لمقابلة عالمنا الجليل..
- متى يا سيدي؟..
- اليوم..
- اليوم!..
- نعم اليوم، فهو سيلقي أولى محاضراته اليوم في المدرج الرئيسي، وسيحضرها جميع الأساتذة -وأنا أولهم-.
واذهب الآن لتجد لك مكانا، قبل ازدحام المدرج، ثم بعد ذلك
تأتي إلى غرفتي لأعرفك به..هيا يا عبقري اسرع..
هرول عبد الباسط فرحا ليلحق مكانا بالمدرج الكبير، وليرى أستاذه
والمشرف على رسالته، الدكتور علي البنهاوي.
دخل الدكتورعلي المدرج، واستقبله الحشد بتصفيق وقور، فرد عليهم تحيتهم بوقار العالم، وبابتسامة خفيفة مع رفع يديه..
علي البنهاوي رجل يقترب من الستين، نحيل، واهن القوة، يكاد العظم يبرز من تحت جلده.. يتحرك في بطء، ويتنفس بصعوبة. صمت الجميع، وأخذ الدكتور يتفرس في وجوة الجالسين مبتسما، وبصوت هادئ رزين تحدث..
- أشكركم على هذا الأستقبال الحافل بشخصي المتواضع،
واسمحوا لي ألا نضيع وقتنا في المجاملات..
لقد أحضرت معي فيلما تسجيليا عن آخر أبحاثي، وأيضا عن آخر الاكتشافات والنظريات الجديدة في عالم العلوم.فلنشاهد الفيلم، ثم نكمل محاضراتنا.
وقف العميد طالبا الكلمة، فابتسم له البنهاوي في ود، مستمعا له..
- أرحب أولا بعالمنا الجليل الدكتور علي البنهاوي، وعودته إلى
داره، التي تخرج منها وقام بالتدريس بها، وتخرج على يديه أنجب العلماء والباحثين. ولكن هل يسمح لي أستاذنا بسؤال كزميل وصديق عمر؟..
- تفضل سيادة العميد..
- ما سبب تركك المفاجئ لكليتك، والعمل بالخليج لأكثر من خمس سنوات، ومعروف عنك أنك لست من المهتمين بجمع المال؟
والأعجب يا صديقي، هو رجوعك المفاجئ أيضا، دون أي مقدمات!..هذا ما يدور بخلد الجميع، وأردت أن أكون مندوبا عنهم؛ وأكرر ترحيبي وسعادتي بعودتك الميمونة إلى جامعتك..
ابتسم البنهاوي في ود مجيبا..
- أرجو من صديقي وزميلي العزيز ألا نضيع وقتنا في أمور
شخصية، فنحن علماء.. فدعونا نبدأ محاضرتنا.
التفت يطلب من أحد مساعديه أن يبدأ في تشغيل آلة عرض، ليعرض آخر اكتشافاته وأبحاثه، التى نشرت في جميع أنحاء المعمورة. أطفأ مساعده الأنوار بالقاعة، ليبدأ عرض الفيلم.
بعد دقائق معدودة، فوجئ الجميع بالدكتور البنهاوي يجرى بطريقة غريبة على مفاتيح الإضاءة، ويضئ المدرج، وهو ينظر في حدة في المكان الجالس به عبد الباسط.
بُهت الجميع عندما شاهدوه يجرى إلى حيث يجلس عبد الباسط، ويتفرس في الطلبة الذين يجلسون عن يمينه ويساره، ثم أشار لهم أن يقفوا جميعا، بما فيهم عبد الباسط، واصطحبهم إلى مكتبه، وسط ذهول الجميع.
وهناك، أغلق الباب عليهم، وعبد الباسط والذين معه يتساءلون فيما بينهم عما أغضب الدكتور ليستدعيهم بهذه الطريقة الغريبة..
قرأ البنهاوي ما يدور بخلدهم، فطمأنهم مبتسما، وطلب منهم الجلوس.. ثم طلب من الساعي أن يحضر لهم مشروبات باردة تبرد قلوبهم..
جلس إلى مكتبه، ونظر أمامه إلى اللاشيء، ثم بدأ يفسر لهم سبب وجودهم هنا.. ببساطة.. ليتعرف إليهم!
لم يقتنع أي منهم بالطبع. وظل التوجس بداخلهم، وهو يحدثهم في ود، حتي اطمأنت قلوبهم شيئا فشيئا بالحديث العادي، ثم وقف مادا يده لمصافحتهم مودعا إياهم.
صافحه الجميع، وهو يشد على أيديهم بقوة. وعندما مد عبد الباسط يده ليسلم على الدكتور البنهاوي، تلكأ في مد يده حتى خرج آخر الموجودين، ثم مد يده إليه. تشابكت يداهما، فصرخا معا من المفاجأة، وارتعد جسداهما برعشات متواصلة في هذه اللحظات التي مرت وكأنها دهر من الزمان، قفزت فيها إلى عقل عبد الباسط صور انخلع لها قلبه رعبا وفزعا.. كانت فتاة مكبلة في سريرها بسلاسل حديدية من يديها وقدميها.. جسدها عارٍ وممزق من آثار جلدها بسوط ، ورجل هناك يضربها بعنف، والدم ينزف من التشققات التي يحدثها السوط الوحشي في جلدها. وجهها مشوه أيضا بتشققات تملأه في جميع جنباته، يخرج من فمها زبد أخضر اللون.
استدار الرجل فجأة، ولتظهر ملامح وجهه واضحة جلية في عقل عبد الباسط، وليزداد رعبه وفزعه فقد كان هو نفسه الدكتور البنهاوي!..