عرض مشاركة واحدة
قديم 02-28-2015, 02:33 PM
المشاركة 9
رضا الهجرسى
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
الفصل الخامس
__________

جالسا على سريره، غارقا في أفكاره، واضعا الصندوق أمامه،
يقلبه بين حين وآخر بيديه، باحثا عن كيفية فتحه، ليرى ما بداخله..
حتى داعبه النوم، وقد بدأ يشعر بالإجهاد، بعد هذا اليوم الطويل الحزين، والذي انتهى بهذا الصندوق العجيب.. وتملكه اليأس من فتحه، سمع آذان الفجر..
شعر برغبة شديدة تتملكه أن يصلي بالجامع القريب، كعادته مع أبيه. تحامل على نفسه، وارتدى ملابسه، وتوكل على الله..
وهناك.. بعد أن انتهى من صلاته وراء الأمام، وسلم عليه، فوجئ بالإمام يشده بقوة وعنف، وهو ينهره بغضب:
- لماذا لم تسم بالرحمن الرحيم؟.. قل: بسم الله الرحمن الرحيم
بُهت عبد الباسط من غضب الإمام وصرخته.. وزاد تعجبه، عندما وجده يعود ويسلم عليه، مع ابتسامة ودودة ووجه بشوش، ويعزيه في أبيه، ثم يتركه ويذهب وكأن شيئا لم يحدث!..
لكأنه كان مغيبا لينطق هذه الكلمات، ثم عاد له وعيه!..
مذهولا، أخذ يتابع الإمام ببصره، حتى تذكر فجأة، وصرخ معاتبا نفسه..
- نعم..نعم.. أنا لم أقرأ البسملة قبل فتح الصندوق..
لك كل الحق يا أمامنا؛ لقد أنرت بصيرتي وأخرجتني من
غفلتي..جازاك الله عني كل خير..
عاد مسرعا يسابق الريح إلى المنزل، فوجد أمه في انتظاره، بعد أن
انتهت من صلاة الفجر. لكنه تركها، مهرولا إلى ميراث هالته، وأغلق غرفته عليه.
قفز على سريره، وأمسك بالصندوق بيديه بجلال ورهبة قائلا:
- بسم الله الرحمن الرحيم.. افتح واعطني ميراث هالتي..
ارتد بظهره مذعورا، حين وجد الصندوق يُفتح، وتغمر الغرفة رائحة
لم تشمها أنفه من قبل.. وكأنها من روائح الجنة.
شعر براحة نفسية، وقوة روحية غمرت كامل كيانه، زالت بعدها كل ظواهر للتعب والأجهاد. في حرص و بطء شديدين، مع فضول قاتل..
أعتدل ومد بصره داخل الصندوق، ليرى ما بداخله، فوجد ثلاثة مفاتيح كبيرة الحجم.. لونها أبيض ناصع كلون السحاب، تبرق ببريق محبب للنفس مريح للبصر. مد يده المرتعشة داخل الصندوق، وتناول الثلاثة مفاتيح في رهبة وجلال.. ولاذ بالصمت وهو يحدق بها مليا، ثم تمتم بهدوء..
- أهذا ميراث هالتي؟..مفاتيح متلألئة عجيبة الشكل، ذات جمال محبب ومبهر!.. لكن ما فائدتها لهالتي؟ وأي شيء يُفتح بها؟..
فكر لحظة..
- أمي!..من المؤكد أن أمي تعلم..
قفز من الفراش مغادرا غرفته، وهو يمني نفسه أن يجدها ما زالت مستيقظة. وتهللت أساريره حين وجدها جالسة، شاخصة بنظرها في تجاه غرفته في انتظار خروجه..
قبل رأسها ويديها في ود، ووضع أمامها المفاتيح الثلاثة.. صمتت برهة، ثم سألته في تعجب:
- أهذا ميراث هالتك؟..ثلاثة مفاتيح!..
- نعم.. هذا ما وجدته بالصندوق..
- وأي شيء تفتح..
- ألا تعلمين؟..ألم يخبرك أبي؟..
- لا يا بني.. لم يخبرني أبوك سوى ما ذكرته لك..
أغمض عينيه، وشهق نفسا عميقا، ليفرغ شحنة اليأس التي انتابته وأدخلته في تيه جم. شعر كأنه وقع في جب مظلم سحيق، لا يستطيع الخروج منه..
وأحست الأم بما ينتاب ولدها من قنوط، فأخذته في حضنها، وأخذت تقرأ آيات من القرآن، وهي تمسح على رأسه. فشعر برغبة شديدة في النعاس على صدر أمه الحنون..
وبالفعل نام نوما عميقا.. ورأى أباه في منامه، مرتديا عباءته، ويسبح على سبحته العاج.. فتح أبوه باب الغرفة، التي كان يقيم بها في خلوته، ثم التفت إليه وأشار له ليدخل الغرفة.
وانتبه عبد الباسط من نومه فجأة، فقص على أمه ما فعله أبوه من فتح غرفة الخلوة له، فقامت الأم، ووقفت أمام باب الخلوة، وأشارت له بيدها ناحية الباب كما فعل أبوه، قائلة في حنان:
- المفاتيح الثلاثة هي ورث هالتك، أما غرفة أبيك وخلوته فهي ميراثك الشرعي من أبيك، فتوكل على الله، وضع مفاتيحك واستلم ميراثك وميراث هالتك..
أولج عبد الباسط أحد المفاتيح بباب الغرفة، وهو يسمي بالرحمن..
وفتح الباب.. أشار إلى أمه لتدخل معه، فردته في رقة.
- غير مسموح لي يا بني دخول هذه الغرفة.. اغلقها عليك وعلى ميراثك..
قبل يدها، وسمى بالرحمن.. أغلق باب الغرفة، وأسند ظهره إلى بابها متجولا بنظره في أرجائها. تعجب من تلك الرائحة العطرة التي تغمر الغرفة.. هي ذاتها الرائحة التي استنشقها حين فتح صندوق المفاتيح..
ازداد عجبه ودهشته حين لم يجد بالغرفة منفذا أو نافذة لدخول الهواء.. جال بنظره بأرجاء الغرفة ، فلفت نظره صندوقان خشبييان كبيران، مغلقان بأقفال حديدية كبيرة، ووقع بصره على خطاب مغلق فوق أحد الصندوقين.
تناول الخطاب، فوجد اسمه مكتوبا عليه.. فتحه، وأخذ في قراءته بصوت مرتعش..
"ولدي عبدالباسط.. أنا أعلم أن المهمة التي ألقيت على كاهلك تنوء الجبال بحملها، ولقد حاولت أن أحملها عنك، وواجهت ابن الملعون مرتين، وكدت أفقد حياتي في مواجهته، حتي ضعفت هالتي ووهنت قوتي. ولكن الله العلي القديروهبك هالة قوية، تفوق قدرات كل من سبقوك، لا يستطيع الملعون معها مجابهتك وجها لوجه. سيحاول إضعاف هالتك بطرقة الخبيثة الملتوية، بإيقاعك في الرذيلة والفسق والمحرمات..فاحذر بني. ابتعد عن كل ما حرمه الله، حتى لا تضعف هالتك ولا تستطيع مواجهة الملعون.. ثق في الله وأنه دائما معك".
انتهت الكلمات، وأغرورقت عيناه بالدموع، وأخذ يشم رائحة أبيه في الخطاب..
فتح عبد الباسط الصندوق الأول، فوجد بداخله مجلدات كبيرة، ذات أوراق صفراء ثقيلة الوزن، أخذ في تصفح أوراقها، فوجد شجرة عائلته من الجد الأكبر، حتي وصلت آخر فروعها إلى أبيه ، مكتوبا بها أعمال كل منهم في مواجهة الشر، وفي كيفية إخراج التلبس الشرير من أرواح وجان وشياطين، من الأجساد التي تلبستها، والسبل التي كانوا يتبعونها في طردها دون الأضرار بمن تلبستهم..
عندما فتح عبد الباسط الصندوق الثاني، وجد به ما انقبض له قلبه، وتسلل الخوف إلى روحه، عندما قرأ عما فعله إبليس وذريته من شر مستطير أسود.. خراب ودمار وحروب على الأرض.. سفك للدماء.. نشر الرذيلة والفساد.. فرقة وكراهية..
بدأ الخوف، من هول ما قرأ، يدب في أوصاله، وعزيمته تضعف، ويقينه يهتز.. وشعر بهول المهمة الملقاة على عاتقه..
لكن فجأة، شعر بنسمة رقيقة تلفح وجهه، ورائحة انسلت إلى روحه. وأصوات كأنها أصوات الملائكة، تغني له بصوت رخيم رقيق، ينسل إلي القلب فيقويه.. أعادت تلك الرائحة العبقة التي ملأت صدره، وهذا الغناء الملائكي الراحة والسكينة إلى نفسه وروحه. استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن الله قوى جبار علي كل جبار.
ظل في خلوته تلك لأكثر من شهرين، يقرأ في كتاب طرد الأرواح والمس الشيطانى ومعالجة الحسد، حتى حفظه عن ظهر قلب بإيمان راسخ..
أصبحت ثقته في الله غائرة في أعماق ضميره وكيانه، إلى أن أرسلت له الجامعة خطابا بتعيينه بالجامعة.