الموضوع: كرة القدم
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
7

المشاهدات
1594
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
02-28-2021, 12:25 PM
المشاركة 1
02-28-2021, 12:25 PM
المشاركة 1
افتراضي كرة القدم
كرة القدم*


من العجيب أن تحظى كرة القدم بهذا الكم الهائل من المعجبين والمتابعين والممارسين وهذا يجعلها تستحق الوقوف عندها بعين مستكشفة تظهر بعضا من كنه هذه الظاهرة، فكيف للعبة كباقي الألعاب أن تكون دون غيرها محجا وأرضا خصبة جذابة لهذه الكم الهائل من المخلصين.

منذ مئات السنين بل آلافها والرياضة حاضرة بشكل أو بآخر في صلب المجتمعات، وخاصة تلك التي لها علاقة بالجيوش كالفروسية والمصارعة، كما اللعب حاضر منذ الأزمان الغابرة. فهذا الشغف للتعالي على الواقع والخروج منه إلى عالم رمزي ملازم للبشرية، فالكلام العادي يستطيع التعبير عن الذي يجول في الخواطر بكل بساطة، لكن رغم ذلك فالإنسان ميال إلى هذه الرمزية، يحب هذا البعد الذي يغرب الواقع ويجعله في شكل آخر، يتطلع إلى الخيال، فقديما في قريتي كان الناس يرتجلون الشعر ويحبون الرقص والإيقاعات، فكان الكلام الموزون والصوت الموزون والحركة الموزونة، إرثا مشتركا للجميع. وهذه سمة العالم القديم حيث كانت للكلمة حظوة وحضور، فاستطاع الأوائل أن يلبسوها رداء جماليا لتعلو على الواقع. وتقفز على مجرد كونها مماثلة له، فازدهر الحكي والمثل والقصيدة. فالانتماء فيه للكلمة منزلة، فأن تحس بوجودك في مجتمعك يستدعي هذا الانخراط في صلب هذه الرمزية. لكن حاليا فالانتماء للمحيط القريب تتآكل صلابته، لذلك تضاءل منسوب تأثير تلك الفنون القديمة.

لعل ميزة العصر الحديث هي الانتقال من "كل ومكانته" إلى "كل وعمله"، فقديما كانت الطبقات عدلا، فابن فلان كانت تكفي، فالطبقة الأريسطقراطية لا تعمل ولا تحتاج للعمل فكانت تمارس المعرفة والفنون، وطورت الموسيقى والرقص والكلام. لكن مجيء التقنية خلق طبقة وعالما جديدا وانحصر الفكر الأريسطقراطي وضاعت الموهبة وجاءت مكانها الخبرة والممارسة. ولعل ظاهرة الهيب هوب خير تعبير عن كسر تلك الأنماط الموسيقية النخبوية المعقدة وتلك الرقصات المدروسة. وسرعان ما سيطر هذا اللون المعتمد على الصخب وسرعة الحركة العنيفة والصوت الجاف والكلمة الطائشة. فالهيب هوب خليط من رياضات فنون الحرب وطبولها وتدهور مكانة الكلمة.*

شيئان أساسيان طبعا العصر الحديث أولهما التقنية كواقع والثاني الحركة الرومنسية. فالتقنية خلقت عالما جديدا والحركة الرومنسية تريد القفز على هذا الواقع. الهيب هوب تظهر فيه هذه الازدواجية فهناك استخدام للآلة العصرية في الموسيقى كسيطرة للتقنية على العمل اليدوي، فبدل العازفين يكفي تشغيل برامج موسيقية، ثم العودة إلى الحياة البرية والقفز على الواقع والتعبير بالحركة العنيفة والسريعة والصوت البري. ففيه هذا التكامل بين الواقع وما وراء الواقع، مع جعل التقنية خلفية والرقص في الصورة وضياع الكلمة.

بعد هذه الفسحة أعود إلى كرة القدم التي هي رياضة شعبية وغير نخبوية ككرة المضرب فهي لعبة العامة وصعودها إلى قمة الهرم الرياضي تعبير عن انتكاسة للطبقة الأريسطوقراطية، وتعتمد على كثرة الممارسة والتداريب فهي تعتمد على الخبرة بدل الموهبة، وهي جماعية فهي تعبر عن الانتماء وليست لعبة فردية، ولها قوانين، فهي شبه عقلانية، وتحضر فيها التقنية، كالتصوير والتليفزيون و"الفار" وتواصل الحكام باللاسلكي. ومن مظاهر الرومنسية في كرة القدم أرضية الملعب التي تتسم بالرحابة ومعشوشبة فهي تعبير عن الطبيعة، وفيها اندفاع وركض وقوة وخشونة وكسر للقواعد وتحايل على القانون، وفيها بالإضافة إلى مظاهر القوة مرونة حركية ومراوغات فنية تعبر عن الإبداع والتميز. فهي خليط من مجتمع اليوم وخير معبر عن هذا الواقع.

تعتبر ملاعب كرة القدم معالم حقيقية في العالم الحاضر فانتقل الملعب من مجرد مكان للعب إلى رمز من رموز المدينة إلى منشأة حضارية، يقصده السياح وترتبط به قلوب العشاق، فيصبح *العاشق محكوما بربط الصلة بهذا المكان، مكان ليس مجرد واقع فحسب بل تقمص رمزية توحي بالانتماء، انتماء إلى عالم يتجاوز الواقع.*

حين تقام مباراة في كرة القدم، تجد الكثير من الطقوس تربط بين الجماهير فتجد لون الفريق ككسوة وتجد الهتاف المتواصل والمتكرر الذي لا تهم فيه الكلمة بل مجرد انخراط في سلوك الجماعة هتاف له إيقاع غير معقد لكنه صاخب، تجد الحركة تنتقل في موجات، ينسى الجمهور كرة القدم ويقفز على الواقع ونتشي بعيدا عن الواقع والكلمة.*

يقول نيتشه وهو من كبار الرومنسين، الكلام مجرد نقيصة كبلت البشرية فبدل أن تفعل لتحقيق وجودك تنخرط في الكلام لتستعطف غيرك فالكلام فيه الكثير من التبرير والكثير من الكذب والكثير من الكسل، يقترح على الإنسان أن يكون دائما على نار، ولا ينصاع لردود الأفعال بل فاعلا متقدما نحو الأمام. ربط البعض الهوس الموجود في العالم بهذه النصيحة النتشية، وأرى أن كرة القدم فيها هذا البعد النتشوي فهي منافسات لا تنتهي أبدا، وليس لها مغزى معينا في حد ذاته بل مجرد منافسة من أجل المنافسة. تقدم نحو الأمام وفقط. بعد بطولة بطولة وبعد كأس كأس وهكذا.*

بدل الكلام قفز الإعلام إلى الواجهة والاعلام صنعته التقنية، والفرق بين الإعلام والكلام القديم هو الدعاية، فالكلام يتحرى الصدق، فالمنطق أساس الكلام عند الإغريق وأيضا عند المتكلمين *العرب، لكن التقنية أداتية لاتبالي بالمنطق والصدق، بل تصنع النافع والضار فالطاقة النووية نافعة وضارة، فهي تقنية خلاقة ومدمرة، لكنها لا تبالي بهذا، فالمعامل نافعة وملوثة، ولكن هذا لا يهم، ودور الإعلام هو التواصل في حد ذاته، رفعا لمجد التقنية، وانتماء لروح العصر، لذلك لا تبحث عن الغائية في الإعلام لأنه نذر نفسه للتواصل. والإعلام الرياضي جزء من كل. فالواصف لمباراة في كرة القدم لا يهمه الكلام الذي يتلفظ به، بل الحفاظ على الصلة بين عالم مثالي هو كرة القدم و المستهلك، فهو يقدم دعاية لمنتوج. لذلك يسهل أن يكون اللاعب قيصرا وملكا وفحلا ومعلما وشاعرا وكوميديا وعازفا ووحشا وجزارا وقاتلا وسفاحا وكل الألقاب. لأن الكلام هنا ليس له دور بل مجرد خلق لأجواء صاخبة مثل رقصة الهيب هوب.*
استطاعت كرة القدم أن تعطي انتماء للإنسان، بعد أن ضعفت هيبة الكثير من معالم الهوية ومبررات الانتماء. فكرة القدم قفزت على الكثير من الصراعات وخلقت شيئا مشتركا بين الشعوب المختلفة، إنها تعبير عن آمال الشعوب في الوحدة، وقد فشلت برامج الوحدة السياسية والثقافية والفكرية والاقتصادية وأصبحت كرة القدم رمزا من رموز الوحدة. والحضور في عالم اليوم وتعبير صادق عن روح هذا العصر.