عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2011, 12:49 AM
المشاركة 17
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


والآن ما هي الخطوة التالية؟ " سيدتي، سوف يفوتك القطار،" فهم لا يتلكئون.


ذاك هو طريق الرجل؛ ذاك هو الصوت الذي يدوي صداه؛ صوت كاتدرائية القديس "بولس" وصوت الحافلات العمومية ذات المحركات.

لكننا نكنس فتات الخبز بعيداً. أوه يا موجريدج ، ألن تنتظر؟ هل يجب أن تمضي؟ هل ستسافر إلى إيستبورن هذه الظهيرة في واحدة من تلك العربات الصغيرة؟

هل أنت ذلك الرجل المحبوس داخل صناديق الكرتون خضراء اللون، والذي، بين حينٍ وآخر، يسدل ستائرها، وفي أحيان أخرى يجلس على نحوٍ مهيب شاخصاً للأمام مثل أبي الهول، ودائما هناك نظرة تشبه القبور، تشبه شيئًا من أداوت متعهدي الدفن الذين يجهّزون الموتى، التابوت، بينما الغسق يحيط بالحصان والحوذيّ؟ أخبرني _____ لكن الأبواب صُفِقَتْ. لن نلتقي أبداً من جديد. الوداع يا موجريدج!


أجل، أجل، إني قادمة. تماما فوق قمة المنزل. لحظة واحدة، سوف أتريّثُ برهةً. كم يتجول الوحل في العقل _____ كم من دوامات تتركها تلك الوحوش، المياه تتأرجح، والأعشاب الصغيرة تتماوج، خضراء هنا، سوداء هناك، تضربُ في الرمال، حتى تتجمع الذرّات مجدداً بالتدريج، ثم تَنخلُ الرواسبُ نفسَها، ومن جديد من خلال العين، يبصر المرءُ كلَّ شيءٍّ صافياً وساكناً، وقتئذ، تصعد إلى الشفتين بعض الصلوات والدعوات من أجل الموتى، جنازةٌ للأرواح من تلكم التي يومئُ فيها المرءُ برأسه لهؤلاء الذين لن يلتقيهم بعد ذلك أبداً. .. جيمس موجريدج أصبح ميتّاً الآن، رحل إلى الأبد.

حسنًا يا ميني _____

- " ليس بوسعي مواجهة الأمر أكثر من هذا."



إذا ما قالت ذلك _____ (دعوني أنظر إليها. إنها تكنسُ قشر البيض نحو منحدراتٍ عميقة).


لقد قالتها بالتأكيد، بينما تميلُ على حائط غرفة النوم، وتقتلعُ تلك الكراتِ الصغيرةَ التي تزيّن حوافَ الستارةِ قرمزيةِ اللون.

غير أن النفسَ حين تتحدث إلى النفسِ، من يكون المتكلم؟ _____ الروح المدفونة؟ النفس التي أُقصيْتْ، وأُزيحت عميقاً، عميقاً، في عُمِقِ السرداب المركزيّ لكهوف الموتى؟

النفسُ التي اعتمرتْ الوشاحَ الحاجبَ وتركتِ العالم _____ نفسٌ جبانةٌ ربما، لكنها جميلةٌ على نحوٍ ما، لأنها تحلّق حاملةً مشكاتِها المنيرة بغير توقّفٍ أعلى وأسفل الدهاليز المعتمة.


" ليس بوسعي تحمّل المزيد".

هكذا قالت روحُها. "ذاك الرجل على مائدة الغداء _____ هيلدا _____ الأطفال." أوه، أيتها السماء، هذا نشيجُها! ها هي الروحُ تنتحبُ مصيرَها، الروحَ التي طُردَت وأُزيحت على مقربةٍ من هنا، أو هناك بعيداً، حتى تستقرَّ فوق السجاجيد الواطئة _____ حيث مواطئ الأقدام الهزيلة _____ والمِزَقُ المنكمشة لكل هذا الكونِ الآخذِ في التلاشي _____ الحبُّ، الحياة، الوفاء، الزوجُ، الأطفال، لا أعرف تحديداً أي بهاءٍ وروعة في لمحات مرحلة الأنوثة المبكرّة. " ليس من أجلي _____ ليس من أجلي."



لكن، حينئذ _____ شطائرُ الفطائر، الكلبُ العجوزُ الأجرد؟ الحصيرةُ المزخرفة بالخرزِ التي يجب أن أتخيلَها، ومواساة لفافات الكتان. إذا كانت ميني مارش قد دُهست وأُخذت إلى المستشفى، لكان سيهتفُ الأطباءُ والممرضاتُ أنفسُهم..... هناك المشهد والرؤية _____ وهناك المسافة بينهما _____ البقعة الزرقاء في نهاية الطريق المشجّر، بينما، برغم كل شيء، الشاي وافرُ، وشطائر الكعك ساخنة، والكلبُ _____ "بيني، عدْ إلى سلّتك أيها السيد، وانظر ماذا جلبت لك الأم!" وهكذا، تأخذين القفازَ ذا الإبهام المقطوع، تتحدين مرةً أخرى الروح الشريرة المتلصصة فيما يُعرف بالولوج داخل الثقوب، تجددين التحصينات، تجدلين الصوفَ الرماديّ، تنسجينه للداخل والخارج.


تنسجين للداخل والخارج، من جانبٍ إلى جانبٍ وتعيدين ذلك، تغزلين الشبكةَ التي من خلالها الله ذاته ... _____ صهٍ، لا تفكري في الله! كم هي الغرز مُحْكَمَة ومحبوكة! يجب أن تفخرينَ برتقِك ونسيجك. يجب ألا ندع شيئًا يزعجها. لندعِ الضوءَ ينسابُ برهافةٍ، ولنجعلْ الغيمةَ تُظهرُ القميصَ الداخليّ للورقةِ الخضراء الأولى. لندعِ العصفورَ يحطُّ على غصن الشجرة، ويهزُّ قطرات المطر المعلّقة على مرفق الغصن.... لماذا ترفعُ بصرَها إلى أعلى؟ هل هناك صوتٌ ما، فكرةٌ ما؟ آه، السماء! مرةً أخرى تعودين للشيء الذي فعلتِ، الزجاج السميك ذو الفيونكات البنفسجية؟ لكن هليدا سوف تأتي. الخزي، العار والفضيحة، أوه، أغلقي تلك الثغرة.



بعدما أصلحتْ ميني مارش قفازَها، تلقي به داخل الدرج، ثم تغلق الدرج في حسمٍ. اقتنصُ نظرةً لوجهِها عبر انعكاسه على الزجاج . الشفتان مزمومتان. الذقن معلّقةٌ ومرتفعة. بعد ذلك بدأت تعقدُ رباطَ حذائها، ثم لمست حنجرتَها. على أي شكل دبوس الزينة على صدرك؟ نباتٌ طفيليّ أم ترقوةُ طائر؟ وما الذي يحدث؟ إن لم أكن مخطأةً جداً، فإن النبضات تتسارع، اللحظة ستأتي حالا، الخيوطُ ستتسابق، والطوفانُ أمامنا. هنا تكمنُ الأزمة! كانت السماءُ في عونِك! تمعن في اكتئابها. تشجعي تشجعي! واجهي الأمر، كُوُنِيه أنتِ، بالله عليكِ لا تنتظري فوق الحصيرة الآن! ها هو الباب هناك! أنا في جانبك! تكلمي! تصدّي لها، اقهري روحَها!



" أوه، معذرةً ! نعم، هذه إيستبورن. سوف أنزل هنا من أجلك. دعيني أجرّب مقبض اليد."



[ لكن يا ميني، برغم استمرارنا في الإدعاء والتظاهر، فإنني قرأتك على نحوٍ صحيح _____ أنا معكِ الآن ].

- " هل هذه كلّ أمتعتك؟"

- " نعم بكل تأكيد، أنا ممتنةٌ جداً."

( لكن لماذا تتلفتين حولكِ هكذا؟ هيلدا لن تأتي إلى المحطة، ولا جون؛ وموجريدج يقود سيارتَه في الجانب البعيد من إيستبورن).


"سوف أنتظر بجانب حقيبتي يا سيدتي، هذا أكثر أماناً. قال أنه سيلتقي بي.... أوه، ها هو ذا! هذا هو ابني." .. وهكذا.. يمضيان سويّاً.


حسناً، ولكنني حائرة.... بدون شك، يا ميني أنتِ تعلمين أكثر، شابٌ غريب.... توقّفْ! سوف أخبره _____ ميني! آنسة مارش! _____ لا أعرف برغم هذا. ثمة شيء غريبٌ في عباءتِها فيما يحركها الهواء. أوه، لكن هذا غير صحيح، غير لائق ولا محتشم...... انظروا كيف يتثنى فيما يمضيان نحو البوابة الرئيسية. لقد وجدت تذكرتَها. يالها من نكتة! يمضيان بعيداً، إلى الأسفل نحو الطريق، جنباً إلى جنب.... حسناً، إن عالمي في حالٍ سيئة يصعب الخلاص منها! ما الذي أتكئُ عليه؟ ما الذي أعرفه؟ تلك ليست ميني. لم يكن هناك موجريدج على الإطلاق. من أنا؟ الحياة عاريةٌ مثل قطعة عظام.



ولكن تبقى النظرة الأخيرة إليهما _____ بينما هو يخطو نحو الحاجز الحجري وهي تتبعه حول حافة البناية الضخمة، يملئاني بالحيرة _____ يغرقاني من جديد. شخصان غامضان! أم وابنها. من تكونين؟ لماذا تمشين نحو الشارع؟ أين ستنامين الليلة، ثم، غداً؟ أوه، كم تدور وتلتف مثل دوامة _____ تطفو بي من جديد! سأبدأ في تتبعهما. الناس يقودون السيارات في هذا الطريق وفي ذاك الطريق. الضوء الأبيض يتقطّع وينسكب. النوافذُ ذات الزجاج السميك.

زهورُ القرنفل وزهورُ الأقحوان. نباتُ اللبلاب في الحدائق المظلمة. عربات الحليب على الأبواب. أينما ذهبتُ، ثمة كائنات غامضة، أنا أراكما، تنعطفان عند الناصية، أمهاتٌ وأبناء، أنتِ، وأنتَ، وأنتِ. أُسْرعُ، أتتبعُهم. هذا لابد هو البحر كما أتخيل، مناظرُ الريف الطبيعية رماديةُ اللون، معتمةٌ مثل الرماد؛ المياهُ تدمدمُ وتتحرك. إذا ما سقطتُ على ركبتيّ، إذا ما مارستُ الطقوسَ الدينية، الألاعيبَ العتيقة، إنه أنتم، أيتها الكائنات الغامضة غير المعلومة، أنتم من أتعبّد فيهم، فإذا فتحتُ ذراعيّ، فإنه أنتم من أعانق، أنتم الذين أجذبهم نحوي _____ أيها العالم الجدير بالحب!


* * *





يتبع


.


.


.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)