عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2011, 12:28 AM
المشاركة 15
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



الثالثة من مساء أحد أيام ديسمبر؛ السماء تمطر رذاذاً خفيفاً؛ ضوءٌ يأتي من الأسفل من نافذة سقيفة محلِّ بيع الأقمشة، وآخر من الأعلى يأتي من غرفةِ نومِ الخادمة _____ هذا الضوء انطفأ. فلم تجدِ المرأةُ شيئاً تنظرُ إليه.

خواءُ اللحظة _____ ، والآن، في أيِّ شيءٍّ تفكرين؟

(دعوني أختلسُ النظرَ إليها؛ إنها نائمةٌ أو تتظاهر بأنها نائمة؛ إذًا، تُرى فيمَ يمكن أن تفكّرَ في الثالثة ظهراً أثناء الجلوس جوار نافذةِ قطارٍ؟ الصِّحة، المال، الفواتير، أم تفكر في الله؟)

أجل، ميني مارش تصلّي لربِّها، وهي تجلسُ على هذه الحافة من المقعد وتنظرُ صوب أسطح أبنيةِ "إيستبورن". هذا مناسبٌ جدّاً؛ ولعلّها نظفتِ الزجاجَ أيضاً، لترى اللهَ على نحوٍ أفضل.

لكن، أيُّ ربٍّ تَرى؟ من هو إله ميني مارش؟ إله الشوارع الخلفية لـ" إيستبورن "، إله الساعة الثالثة من بعد الظهر؟


أنا أيضاً أنظر إلى أسطح الأبنية، أنظر إلى السماء؛ لكن، آهٍ يا عزيزتي _____ يا لرؤية الآلهة! لابد أن ربَّها يشبه الرئيس كروجر(1) أكثر مما يشبه الأمير ألبرت(2) _____ هذا أكثر ما يمكنني منحه؛ أراه يجلسُ فوق كرسي في عباءةٍ سوداء، ليس في مكانٍ بالغ العلو؛ ربما يمكنني أن أدبّر له غيمةً أو غيمتيْن كي يجلس فوقهما؛ بعدها ستتدلى يدُه بهدوءٍ من الغيْمة قابضةً على عصا، الصولجان، أليس كذلك؟ _____ سوداء، غليظة، ومليئة بالأشواك _____.


عجوزٌ شرسٌ وطاغية _____ إله ميني مارش! أتراه هو الذي أرسل الحَكَّةَ والبقعةَ والرِعشة؟ أمن أجل ذلك كانت تصلّي وتدعوه؟ إذاً، الشيءُ الذي حاولتْ محوَه من فوق زجاج النافذة كان بقعةً من الخطيئة! أوه، ميني مارش إذاً ارتكبتْ جريمةً ما!

لديّ اختياراتي الخاصّة فيما يخصُّ الجرائم. الغابات تتحرك سريعاً وتطير ____ في الصيف تنمو عُشبةُ "الجريس" البريّة ذات الأزهار الزرقاء؛ في تلك البدايات، مع قدوم الربيع، تنبتُ زهرةُ الربيع. أرحيلٌ ما؟ أشيءٌّ من هذا؟ منذ عشرين عاماً مثلاً؟ هل ثمة عهودٌ أُخلِفَت؟ لا، ليس من جانب ميني! هي كانت مخلصةً دائماً. انظروا كيف كانت ترعى أمَّها وتُمَرِّضُها! كم أنفقتْ من مالٍ لبناء الضريح _____ أكاليلُ الزهر تحت الغطاء الزجاجيّ _____ زهور النرجس البريّ في الأصص. لكنني خرجتُ عن الموضوع.

جريمةٌ ….ربما يقولون أنها أبقت على حزنها، طمست سرَّها ____ قمعتْ أنوثتَها، هكذا سيقول _____ رجال العلم. ولكن، أيُّ هراءٍ حين آسرُها وأختصرُها في قفصِ الغريزة! لا _____ الأمر أبعدُ من ذلك.


فيما تتجولُ عبر شوارع "كرويدون" قبل عشرين سنة، كانت العُقدُ بنفسجيةُ الّلون في شرائطِ الستائر المخمليّة على فاترينة محلات بيع القماش التي تتلألأ تحت أضواء المصابيح الكهربائية، تخطفُ بصرَها. تتلكأُ _____ إلى ما بعد الساعة السادسة. لكن، مع هذا، مازال بوسعها الوصولُ إلى البيتِ إذا ما ركضت. وهكذا، تندفعُ عبر الباب المروحيّ المصنوع من الزجاج.


وقت التصفيات السنويّ، ثمّة صوانٍ مسطّحة ممتلئة حتى الحافة بالشرائط، تتوقفُ، تجذبْ هذه، تعبثُ أصابعُها في تلك التي تعلوها زهورٌ متفتّحة ____ لا حاجة للانتقاء، لا حاجةَ للشراء، فكلُّ صينية تحمل مفاجآتها ودهشتها. " لا نغلقُ قبل السابعة. " .. وجاءت السابعة.

تركضُ، تندفعُ مسرعةً صوب البيت، وصلتْ، لكن متأخرةً جدّاً.

الجيران _____ الطبيب _____ الشقيق الرضيع _____ غلاية الشاي _____ احتراق الجسم بالماء المغليّ _____ المستشفى _____ الموت _____ أو مجرّد الصدمة من فكرته، اللوم والتوبيخ؟

أجل، لكن التفاصيل لا تهم! الأهم هو ما تحملُه بداخلِها، البقعة، الجريمة، الفعلة التي تستوجب التكفير عنها، إنها هناك دائمًا، بين الكتفيْن.

"نعم" يبدو أنها تومئ إليّ، "إنها الفعلة التي ارتكبتُها" ... سواء ارتكبتِ خطيئة أم لا، وأيّا كان ما فعلتِ، أنا لا أعبأُ بهذا، ليس هذا ما أريد.

الفاترينة الزجاجيّة لمحال بيع الأقمشة، ذات الفيونكات والشرائط البنفسجيّة، _____ نعم، هذا الموضوع سوف يفيد(1)، أمرٌ تافه بعض الشيء، فكرة مطروقة ومألوفة _____ طالما المرءُ بوسعه الاختيار بين الجرائم، سوف يكون هناك العديد جدّاً من الاختيارات.

( دعوني أختلسُ النظرَ ثانيةً _____ مازالتْ نائمة، أو تتظاهر بأنها نائمة! بيضاءُ، مُتْعبَةٌ مُستهلَكةٌ، الفمُ مُغلَقٌ _____ بوجهها مسحةٌ من العناد والاستعصاء على المعالجة، ربما أكثر مما يظن المرء _____ لا ملمحَ واضحاً أو إشارة للغريزة) _____ ثمة جرائمُ عديدةٌ لا تناسبك؛ جريمتُك متواضعة؛ بينما القصاصُ جليلٌ ومهيب؛ لأن بابَ الكنيسةِ يُفتحُ الآن، المقعدُ الخشبيّ الصلب يستقبلُها؛ تركعُ فوق البلاط البنيّ ؛ كلَّ يومٍ، في الشتاء، في الصيف، في الغسق، في الفجر، (هي الآن في هذه الحال) تُصلّي... كلُّ آثامها تسقطُ، تسقطُ، إلى الأبد تسقط... البقعةُ سوف تمتصُّ الآثامَ جميعًا. إنها تتفاقم، يحمرُّ لونُها، تحترق. بعد هذا سوف تخزُ المرأةَ فتختلجُ وتتشنّج من فرط الألم.

الأولادُ الصغار بدأوا يظهرون. " بوب موجود على الغداء اليوم" _____ غير أن النساءَ المُسنّات هن الأسوأ.



في الواقع ليس بوسعِك الصلاةُ والدعاءُ الآن أكثر من ذلك. لأن كروجر غاصَ تحت الغمام _____ ذابَ وانمحى كأنما بريشةِ رسامٍ مضمّخةٍ باللون الرماديّ السائل، بعد أن أضاف إليها مسحةً من الأسود _____ حتى طرف الصولجان اختفى كذلك. هذا يحدث دائماً! بمجرد أن تشاهديه، تشعرين بوجوده، سرعان ما يأتي من يقاطعكما ويفسد الوصل. إنها هيلدا الآن.

كم أنت تكرهينها! إنها حتى تغلقُ بابَ الحمّامِ بالمفتاح طوال الليل أيضاً، مع إنه الماء البارد وحسب ما تحتاجين إليه، أحياناً يبدو الاغتسالُ مفيداً حين يسوء الطقسُ في الليل. ثم "جون" على الإفطار _____ الأطفال _____ الوجبات شديدة الرداءة، وأحيانا يتواجد أصدقاء _____ نباتات السرخس جميعها لا تستطيع إخفاءهم _____ هم يخمنون ويتخيلون أيضاً؛ لهذا تخرجين إلى حيث الواجهة المائية الأمامية، حيث الموجات رماديّة اللون، وحيث الصحف تتطاير، وحيث المخبأ الزجاجيّ مفعمٌ بالحياة ومُنفِذٌ للهواء البارد، في هذا المكان يكلفكُ المقعدُ بنسين _____ مكلّفٌ جدا _____ لأنه يلزم وجود وعّاظ على طول الضفة الرمليّة.

آه، إنه زنجيّ ____ يا له من رجلٍ مضحك !_____ هذا الرجل الذي يحمل الببغاوات _____ ياللكائنات الصغيرة المسكينة!

أما من أحدٍ هنا يفكر في الربّ؟ ____ هناك، فوق الجسر البعيد، يمسك عصاه _____ لكن لا _____ لاشيءَ هناك سوى الرماديّ في السماء، أو، لو كانت السماءُ زرقاء، لولا تلك الغيوم البيضاء التي تخفيه وراءها، ثم هذه الموسيقى _____ إنها موسيقى الشرطة العسكرية ____ وعمَّ يبحثون؟ هل يمسكون بهم؟ كم يحملق الأطفال! حسنًا، إذاً العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية _____. .. " العودة إلى المنزل عبر الطرق الخلفية! "

لهذه الكلمات معنى؛ ربما نطقها رجلٌ عجوزٌ له لحيّة وشارب _____ لا، لا، لم يتكلم في الحقيقة؛ سوى أن لكلِّ شيءٍّ معنىً _____ الإعلاناتُ المتكئةُ على بواباتِ البنايات _____ الأسماءُ فوق فتارين المَحال _____ الثمارُ الحمراءُ في السِّلال _____ رءوسُ النساءِ في محال الكوافير _____ كلها تقول: "ميني مارش!" .. لكن، هناك ارتجافةً أخرى. .. " البيض أرخص ثمنًا!"

هذا ما يحدث دائماً! كنت أفكر بها فوق شلالات المياه، نحو الجنون مباشرةً، عندئذ، فجأةً مثل قطيعٍ من أغنام الحُلْم، استدارتْ هي نحو الجهة الأخرى، وانزلقت بين أصابعي.

البيضُ هو الأرخص. مربوطةٌ بحبالٍ عند شواطئ العالم، لا جريمةَ من الجرائم، أحزانَ، تطرّفَ، جنونَ المسكينة ميني مارش؛ ثمة وقتٌ دائماً لتناول الوجبات السريعة؛ لن تراها في جوٍّ عاصفٍ بغير معطف مطر، لا تعدمُ الوعيَ كليّة برِخَصَ البيض. ولهذا، ستصلُ إلى البيت _____ وسوف تكشطُ حذاءها الطويل من الوحل.. هل قرأتُكِ على نحوٍ صحيح ؟

لكنه الوجهَ البشريّ _____ الوجهَ البشريَّ فوق الحافة العليا لصفحة الصحيفة المحتشدة يحمل أكثر، مازال يخبئُ أكثر.


الآن، فُتِحَتِ العينان، تنظران بحذرٍ؛ وفي داخل العين البشريّة ثمّة ____ كيف يمكن أن نسمي هذا الشيء؟ _____ ثمة انكسار _____ انقسام _____ لكنك حين تقبضُ على ساق النبتة، إذا بالفراشة تختفي _____ الفراشة التي تتشبّثُ في المساء بأعلى الزهرة الصفراء _____ تحركي، ارفعي يدَك، بعيداً، عالياً، بعيداً جدّاً.


لن أرفع يدي. تشبّثي ساكنةً، ثمَّ، ارتجفي، يا حياة ...، يا روح ...، يا نفس ...، يا أيّاً ما يكون من ميني مارش _____ أنا، أيضًا فوق زهرتي _____ والصقرُ فوق الزغب _____ وحيداً، وإلا ما جدوى الحياة إذاً؟



يتبع
.
.
.


هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)