عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2011, 12:24 AM
المشاركة 14
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


( السلامُ بين ألمانيا وقوى التحالف تمَّ أمس التبشيرُ به رسمياً في باريس _____ انتخاب "السينيور نيتّي"، رئيساً لوزراء إيطاليا _____ تحطُّم قطار ركابٍ في" دونكاستر" إثر اصطدامه مع قطار شحن بضائع …)

" جميعُنا يعرف _____ صحيفةُ " التايمز" تعرف _____ لكننا فقط نتظاهرُ بعدم المعرفة."

مرةً أخرى، تسللتْ عيناي فوق حافةِ الجريدة. فاختلجتِ المرأةُ، انتزعتْ ذراعَها على نحوٍ غريب، أرْختْه في منتصف ظهرها ثم هزّت رأسها.


من جديد, أطرقتُ برأسي لأُغرقَها في مستودعي الكبير، مستودع الحياة.


" خذْ ما شئتَ," تابعتُ, " مواليد، وفيّات، زواج، نشرةُ أخبار البلاط الملكيّ، من عادات الطيور، ليوناردو دافنشي، جريمة قتل في "ساندهيل"، ارتفاعُ الأجور لمواجهة تكاليفَ المعيشة، _____ ياااه ! خذْ ما شئتَ," أعدتُها مراراً،" كلُّ شيءٍ في "التايمز"، الحياة كلُّها."

من جديد، وبضجرٍ لا نهائي، أخذَ رأسُها في التحرِّك يميناً ويساراً حتى إذا ما هدَّه التعبُ من جرّاء الدوران المتسارع، سكنَ من جديد فوق عنقِها.

لم تعدْ "التايمز" تمثّل حائطَ حمايةٍ لي أمامَ مثل ذلك الحزنِ في عينيها. سوى أن الأشخاص الآخرين قد حالوا دون تواصلنا.

أفضلُ ما يمكنُ اتخاذه ضدَّ الحياةِ هو أن تطوي الصحيفةَ مرارًا حتى تحصلَ على مربعٍ سميك منتظم الأضلاع. مربع مُصمَت وغيرِ مُنْفِذٍ حتى للحياة.

هذا بالضبط ما فعلت، ثم رنوتُ لأعلى مسرعةً، متسلحةً بالدرعِ الواقي الذي صنعتُه توّاً من الجريدة، غير أنها اخترقتْ حائطَ دفاعي وحدّقت مباشرةً، وعلى نحوٍ ثابتٍ، في عينيّ كأنما تنقِّبُ في أغوارِهما عن أثرٍ من شجاعةٍ، لتحيلَها ضَعفًا وصلصالاً رطباً.

سوى أن اختلاجتَها، وحدها، أفسدتْ كلَّ شيء، وأَدَتْ كلَّ أملٍ، وحسمتْ كلَّ خيال.

وهكذا كنا نتهادى بالقطار خلال "سيرلي" وعبر حدود "سُسيكس". غير إني، بعينيّ الشاخصتين صوب الحياة، لم ألحظ المسافرين الآخرين وقد غادروا القطار واحداً فواحداً، حتى غدونا – باستثناء الرجل الذي يقرأ – وحيدتيْن معاً.

هاهي محطة "الجسور الثلاثة"، بدأ القطار يزحفُ بنا ببطءٍ حتى رصيف المغادرة، ثم توقف.

تُرى هل سيغادرُنا الرجل؟ في الحقيقة لم أكن واثقةً من رغبتي، دعوتُ الله على الاحتماليْن، غير أني في الأخير تمنيتُ أن يبقى. في تلك اللحظة تحديداً، انتبه الرجل، انتفضَ، كرمشَ جريدته وألقاها باستخفافٍ كما يتخلَّصُ المرءُ من شيءٍ انتهى منه ولم يعد في حاجة إليه، ثم اندفع بعنفٍ نحو باب القطار، وتركنا وحيدتيْن.

بعد انحناءةٍ طفيفة إلى الأمام وعلى نحوٍ فاترٍ لا لون له، بدأتِ المرأةُ الحزينةُ تتجاذبُ معي أطرافَ الحديث _____ تكلمتْ عن محطاتِ القطار وعن العطلاتِ، عن الأشقّاء في إيستبورن"، ون ذلك الوقت من العام الذي هو فصل الـ....، نسيتُ الآن، شتاء أم خريف. لكنها في النهاية نظرتْ من النافذةِ، وراحتْ تتأملُ – أنا على ثقةٍ – الحياةَ وحسب.

أخذتْ شهيقًا ثم قالت: " البقاءُ بعيدًا _____ تلك هي الخسارة _____" آه ها نحن نصلُ إلى بؤرة الفاجعة.

- " زوجة أخي" _____ قالتها بينما المرارةُ في نبرتِها تشبه سقوط قطراتِ ليمونٍ على سطحٍ من الحديد البارد، وكأنها تتحدث – لا معي – بل مع نفسها، تمتمتْ: " هُراء"، كأنما أرادتْ أن تقول _____ "هذا ما يردده الجميع دوماً"


فيما تتكلم، كانت تتململُ في جِلستِها على نحوٍ عصبيّ كأن بشرةَ ظهرِها كما لدجاجةٍ منزوعةِ الريشِ في نافذة عرض محلٍّ لبيع الطيور.

- " ياااه، تلك البقرة !"


توقفت عن الكلام بغتةً على نحوٍ عصبي،ّ وكأن البقرةَ الخشبيةَ الضخمةَ، في المرجِ الأخضرِ الذي مررنا به، قد صدمتها وأنقذتها من ارتكاب حماقةٍ ما.

عندئذ ارتعدتْ، ثم تلوّتْ بحركةٍ زاويّةٍ شاذة، كما لم أرَ من قبل طيلة حياتي، وكأنما نوبةَ تقلّصٍ حادّة قد تسببتْ في التهابٍ وحكّةٍ في بقعةِ الجلدِ فيما بين كتفيها.


بعدها، عادت من جديد لتبدو كأكثر نساء الوجود شقاءً وحزناً، ومن ثمَّ أيضاً، بدأتُ من جديد ألومُها وأستنكرُ عليها ذلك، لكن ليس بذات اليقين السابق، لأنه لو كان ثمةَ سببٌ، ولو علمتُ أنا هذا السبب، إذاً لاختفت وصماتُ العار من الحياة.
" زوجاتُ الأخوة، " قلتُ لها _____
زمَّت شفتيها وأمالتهما، كأنها ستبصقُ سُمّاً في وجه الكلمة؛ لكنهما بقيتا مزمّمتين. كل ما فعلته أن أخرجتْ قفازَها وراحتْ تفركُ بشدّة بقعةً على زجاجِ نافذة القطار.


كانت تحكُّ كأنما لتمحوَ شيئًا من الوجود وإلى الأبد _____ وصمةً ما، تلوّثًا لا ينمحي.

في الواقع، ظلّتِ البقعةُ راسخةً رغم جهودِها، ومن جديد غاصتِ المرأةُ في رِعدتِها وفي اشتباك ذراعيها، تماماً كما توقعتُ أنا أن تفعل.

شيءُ ما دفعني أن أُخرجَ قُفازي وأشرعَ في حكِّ نافذتي. كانت هناك بقعةٌ صغيرة على الزجاج أيضًا. بقيتْ، رغم كلّ محاولاتي، مكانَها.

عندئذٍ، تسربتْ إليّ حالةُ التقلّص ذاتُها، لويتُ ذراعي وشبكته خلف ظهري. وشعرتُ بأن بشرتي أيضاً كما لدجاجة مبتلّةٍ في نافذة عرض محلٍّ لبيع الطيور؛ ثمة بقعةٌ في الجلد بين الكتفين بدأتْ تلتهبُ و تستحِّكُني، أشعرُ بها لزجةً، أشعرُ بها فجّةً. هل يمكنني الوصولُ إليها؟

حاولت ذلك خلسةً، لكن المرأةَ لمحتني. وألقتْ في وجهي ابتسامةً تحملُ سخريةً لا نهائية، وحَزَناً لا نهائياً. ابتسامةٌ سرعان ما تلاشت من وجهها واحتوتها الظلال.


لكنها تواصلتْ معي على كل حال، قاسمتْ أحداً سرِّها أخيراً، وبعد أن سرّبتِ سُمَّها، لم تكن لتقول المزيد.

وبينما أتكئُ للوراء في رُكني الخاص، وأحجبُ عينيْ عن عينيها، وفيما أنظر إلى المنحدرات والتجاويف وحسب، الرماديّات والأرجوانيات ومناظر الشتاء الطبيعة، قرأتُ رسالتَها، حللتُ شَفرةَ سرِّها ورموزَه، قرأتُ الرسالةَ الخبيئةَ تحت نظرتها المحدّقة.

"هيلدا"، زوجةُ الأخ. هيلدا؟ هيلدا؟ هيلدا مارش _____ السيدةُ الناضرةُ، ذات النهدين العامريْن، المرأةُ رفيعةُ المقامِ. تقف هيلدا عند باب البيت بيدها عملةٌ فضّية بينما سيارة التاكسي على وشك التوقف.

- "ها هي ميني البائسة، أكثر فقراً من جندب، أكثر تعاسةً من أي وقت مضى _____ بعباءتِها القديمة ذاتِها التي جاءت بها العام الماضي. حسناً، حسناً مع وجود أطفال، هذه الأيام، لا يستطيع المرءُ أن يفعل أكثر. لا يا ميني، أنا سأدفع، هاهي الأجرة أيها السائق _____ لن تجدي أساليبُكَ معي. تعالي يا ميني أوه، يمكنُني حملك، ضعي عنكِ سلَّتَكِ!". وهكذا تدخلان إلى غرفة الطعام.

- " العمّة ميني يا أولاد."

ببطءٍ تبدأ السكاكينُ والشوكُ في الهبوط على الطاولة. ينكّسان رأسيهما (بوب وباربرا)، يُعرضان عن المصافحةِ بجفاءٍ؛ ثم يعودان ثانيةً إلى طعامِهما، يسترقان النظرَ بين فترات امتلاء الفم، ثمَّ يعاودان المضغ من جديد.


لكننا سوف نقفز فوق هذا، لنحذفْ هذا؛ الديكورات، الستائر، الصحن الصينيّ ذا الورود ثلاثية الأوراق، مكعبات الجبن الأصفر المستطيلة، ومربعات البسكويت البيضاء _____ نعم، لنهملْ كلَّ هذا، ولكن انتظروا! في منتصف وجبة الغداء، تحدث إحدى تلك الارتجافات؛ يحدِّق "بوب" في وجهِها، والملعقةُ في فمِه. " أكملْ طبقَ البودينج يا بوب! " لكن هيلدا استنكرت هذا.

(لماذا لابد أن ترتعش دائماً هكذا؟" لنحذفْ هذا، نحذفْ، حتى نصلَ إلى بسطة الطابق العلويّ؛ الدرابزين النُّحاسيّ للسُّلَم، مشمع الأرضية الممزق؛ أوه نعم! ثمّة غرفة نومٍ صغيرة تُطلُّ من بين أسطح بنايات "إيستبورن" _____ الأسطح المتعرجة مثل العمود الفقاريّ ليرقات الفراشات، هذا الاتجاه، وذاك الاتجاه، مقلمةً بشرائحَ حمراء وصفراء، مع ألواحٍ من الأزرق الغامق)

والآن يا ميني، الباب مغلق، هيلدا تنزلُ بتثاقلٍ إلى البدروم؛ وأنت تفكّين الشرائطَ عن سلّتك، تضعين على سريرك قميصَ نوم هزيل، وإلى جانب بعضهما، تضعين فردتيْ خُفٍّ مبطَّنٍ بلبّاد الفراء. أما المرآة _____ لا، أنت تتجنبين المرايا.

بَعْض الترتيبِ المدروس لدبابيسِ القبعةِ. الصندوق الصغيرُ المصنوعُ من محار البحر، ربما بداخله شيءٌ؟ ها أنتِ تهزينه؛ إنه زرارُ القميصِ، المصنوعُ من اللؤلؤ، الزرار الذي كان داخل الصندوق قبل عام _____ هذا كل ما هنالك. ثم هناك الزفرةُ، التنهيدة، ثم الجلوس إلى النافذة.


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)