الموضوع: لعنة البطاطا..
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
12

المشاهدات
6085
 
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


صبا حبوش is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
397

+التقييم
0.08

تاريخ التسجيل
Mar 2011

الاقامة
الرياض

رقم العضوية
9765
01-23-2017, 03:00 AM
المشاركة 1
01-23-2017, 03:00 AM
المشاركة 1
Post لعنة البطاطا..
أحببت أن أشارك المنتدى فرحي، بنيل هذه القصة المركز الثاني في مسابقة واحة الأدب في الكويت على مستوى الوطن العربي نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

.................................................. .................................................. ..........

كنا عائلة دافئة ، نفتقد كباقي عائلات مدينتنا الأمان الذي غادرنا إلى غير رجعة ، أبي رجل متفائل يبيع الحلويات العربية التي يصنعها بنفسه ، ويضاهي بها أفخر المحلات الكبيرة في المدينة ، أما أمي فكانت أنشودة فرح ،فوق شفاه لا تعرف إلا الابتسام.
كنت أنا وشقيقتي التوأم فرحتهما الأولى ، أضفنا لعلاقتهما خيطاً خفياً، شدّهما بإحكام إلى جذع الحب الأبدي، الذي اكتمل بولادة أخي حازم، بساطة عيشنا كانت السبب الرئيسي لسعادتنا؛ كأسرة تستقرّ على سطح كوكب آخر ، لا ينقصنا سوى الرفاهية، التي لم يكن أبي ليبخل بها، لولا جيوبه الفارغة آخر كل شهر.
وكأي بلد تصله الحرب ، كان بلدنا يترنح فوق آهات أبنائه ، أصبح الخبز حلماً لكل طفل في الحي ، و غدت الأمهات رحى الأمنيات المتعثرة .
في أحد الأيام كنا نذوب كالشمع أمام أنفسنا ، الثلاجة فارغة تماماً ، وطاولة الطعام ترمقنا بنظرات شفقة ، تزيد جوعنا جوعاً ، ولأول مرة نسمع صراخ أبي وأمي خلف باب غرفة النوم ، كانا يفضلان الشجار بعيداً عنا ، لكن صوتهما كان أعلى مما اعتقدا.
-إلى أين تذهب ، ألا تسمع صوت سيارات الإسعاف؟!
- أطفالي يموتون أمامي، دعيني أخرج ،ربما أجد أي شيء يسد الرمق..دعيني
كانت أمي تحاول جذبه من يديه ومنعه، لكنه رماها بعيداً، وخرج لاهثاً خلف لقمة تبقينا على قيد الحياة ولا تفرقنا.
مضت ساعات وأمي خلف النافذة في رواحٍ وغدو، دمعها لم يهدأ، تردد بعض الآيات القرآنية وتنفثها بين يديها ، ثم تعاود دورانها حول نفسها من جديد.
بعد ساعتين أو أكثر بقليل ،عادت الروح لأمي حين دخل أبي وأبصرته حياً،يحمل في يده اليسرى كيساً يحوي بعض حبات البطاطا، وجده داخل أحد المحال التجارية التي هجرها صاحبها خوفاً من الاعتقال.
كانت تلك الحبات كقناديل زيت أضيئت في ليلة حالكة ، لو يعود الزمن للحظة البداية ،لوقفتُ بجانب أمي، ومنعت أبي من الخروج ذلك اليوم، لازالت الصور المشوشة تنهال على ذاكرتي لتهشّم ما بقي من ذكريات ملطخة بالأسى وقسوة الحرب .
في تلك الليلة ،عاد أبي منتصراً بكيسٍ كبير من حبات البطاطا، تناولته أمي وذهبت للمطبخ لإعداد الطعام ، باغتتنا السعادة الغريبة أنا وأخوتي ، كنا نحلم بوجبة البطاطا المطهوة ،ونتلذذ بأحلام طفولية.
فجأة انقسم البيت لنصفين ؛ رعد اخترق المطبخ فأرداه حطاماً لا روح فيه ، والنصف الثاني رعَد في غرفة الجلوس ، لا أعلم كيف تحوّل البيت إلى كومة من النار ، شيء مرّ كالحلم ، الساعة الحادية عشرة منتصف الليل، وجدت نفسي برفقة أختي التوأم على سطح البناء المجاور لنا ، رمتنا النار بفعل الاصطدام الكبير الذي حدث من قوة الصاروخ الذي ألقته الطائرة ، لكن كيف طرنا من بين الجدران لا أحد يعلم الا الله ، حاصرتنا الدهشة بجوانبها الفسيحة ، فوقنا السماء بقمرها المضيء ،و إلى اليسار قليلاً طائرة رمت حمولتها فوق منزلنا الذي راح يحتضر بصمت، النار التي أشعلتها أمي لطهي البطاطا لم تنطفئ، والمخاطرة التي قام بها والدي لنبقى على قيد الحياة ، لم تنجح لنبقى سوياً.
وقفتُ برفقة أختي نراقب احتراق بيتنا الدافيء البسيط من السطح المقابل ، كانت تلك اللحظات ومضات هذيان يمر بنا، لم يكن من السهل تصديق ما حدث ،رحل أبي وأمي وحازم ،تركونا أنا وتوأمي نصارع رحلة البقاء ، أصبحت البطاطا عدوتنا الأولى قبل قائد الطائرة ، بتنا نراها فأل شؤم جلبه أبي ، فكانت بمثابة تعاويذ الموت.
استشهد أهلي متأثرين بحروقهم وجراحهم وجوعهم ، و انتهت حكاية البيت السعيد، لم يعد هناك بيت ولا سعادة ، طوينا صفحة الذكريات، وعلّقناها فوق الذاكرة، غطّانا اليتم بوشاحه ، و لم نعد نجوع ، الكل يعتني بنا ، ويمدّنا بالشفقة ، حين نمر أحد الشوارع، ونشاهد كوم البطاطا أمام بسطات الباعة ، كنا نغير الطريق ، ونتجنب رؤيتها ؛ في كل حبة من حباتها يخيل لنا وجه أبي المنتصر تلك الليلة ،وتعاويذ أمي وهي تطالع النافذة حتى عودته ، و اللهفة في عيني أخي حازم الذي كان ينتظر عشاءه بعيون لا تعرف الموت أبداً.
قالت لي جدتي أحد المرات ، بعد أن شاهدت دموعي؛ "سوف تلتقين بهم في الجنة ، لا تحزني"،
فهمستْ أختي في أذني ؛ "وهل في الجنة يوجد بطاطا أيضاً؟!" ،ضحكت جدتي ودموعها تملأ وجنتيها وقالت:
" في الجنة يوجد كل شيء جميل يا حبيبتي ، والأهم من ذلك لن يكون هناك طائرات ولا حرب ..تصبحان على خير..."
دفنت رأسها داخل السرير ، وكان باستطاعتي رؤية جسدها يتقلص وينتفض تحت الفراش، و كان بكاؤها الصامت يحرق قلبي، ويزيد شوقي للموت؛ لأدخل الجنة وألتقي وجه أبي وأمي وحازم من جديد!.


https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..