عرض مشاركة واحدة
قديم 04-14-2014, 09:00 AM
المشاركة 1132
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ...العناصر التي شكلت وصنعت الروعة في رواية48- - دار الباشا حسن نصرتونس



- وإذا كان التّبريرْ الدّاخلي غير موجود فلا بدَّ من البحث عندئذ عن تبرير خارجيّ وبذلك ندخل إطار التأويل، فالنص لم يعُدْ يَقْولُ شيئاً وإنما على الناقد أن يقول وأن يجد مدخلاً يبرّرُ هذه الشخصيّة الإشكالية "دارالباشا".

- ولن يكون التّبرير إلاّ تبريراً حضاريّاً أو بعبارة أخرى سياسيّاً عاماً

- . ذلك أنّ الرّواية تطرح قضيّة العودة إلى الأصول، فالبطل لا يحقّقُ ذاته إلا عبرالذاكرة، تلك المسيرة الاسترجاعية عبر الزمان الآفل وعبر المكان المهدّد بالزّوال وعندئذ يُصْبِحُ الاسترجاع فَراراً من واقع مُخِيفٍ هو واقع العقل المجحف الذي يهدّد الخيال والحلم وهو كذلك واقع المصالح المادية والتحرّر الاقتصاديّ والمضاربات المالية، فالمكان لا يكتسب قيمته برائحة الإنسان فيه وفعله الحضاري وقيمته التاريخية ولكنّه أضحى سِلْعَةً تخضع لاقتصاد السوق ف "هذه الأراضي التي تحيط بالمدينة كانت من قبل لا تساوي شيئاً والآن، انظر كيف ارتفعت قيمتها، من شَدْرِي، ربما "دار الباشا" ترتفع قيمتها يوماً وهذه الأماكن لا تكتسي قيمتها من ذاتها، نحن الذين نكسبها القيمة التي تستحقّ، بما نحقّقه من عمل وننجزه من مشاريع، بالعمل يمكن أن ترتفع قيمة "دار الباشا" وليس بالحلم".

- إنّ العمل والمشاريع والمضاربات الماليّة هي لغة العصر الحديث الذي قطع مع الأيديولوجيا والقيم المثاليّة.

- ذاك وجه من وجوه فهم أبعاد هذه الشخصية الإشكالية،

- ولكنَّ الوجه الآخر يتمثّل في أنّ البطل في هذه الرّواية بمسيرته النكوصيّة إنما هو رمز لهذا الجيل الذي عاش أحلاماً كثيرة وواكب هزّاتٍ سياسيةً واجتماعيةً عنيفةً على الصعيد القطري وعلى الصعيد القومي،يستيقظ لكي يُدْرِكَ أنَّ كُلْ تلك الأحلام قد تهاوت وعندئذ يعود بحثاً عن الأصول والجذور فلا يجد منها إلا أطلالاً تتهاوى لتُعبِّرَ عن أزمة جيل شاخ قبل الأوان.

- في "دار الباشا" يتضخّم السارد-هذا الكائن الوهمي- تضخماً غير عادي، فنحن-داخل الرّواية- إزاء رؤيتين مستقلّتين هما رؤية البطل (مرتضى الشامخ) ورؤية السّارد ولا شكَ أن الرّؤيتين تتقاطعان بل تتطابقان تطابقاً كاملاً ولكنّ رؤية السّارد تطفح على رؤية الشخصية ولعل عبارة الإنشائيين" الرؤية من الخلف". لا تكفي لتجسيد هذه العلاقة بين السّارد والعالم الذي يرويه ويصفه.

- لا يمكن أن نعتبر السّارد شخصيَّةً روائيّةً إذ أنه ليس طرفاً مباشراً في الأفعال التي يتخيّلها المؤلّف ولكنّ سلْطته التعليقية والتفسيرية والتبريرية (خارج حقبة الأربعين عاماً التي إليها أشرنا) تقوى إلى درجة يتحوَّل بها السّارد إلى بطل من الدّرجة الأولى.

- فأغلب عناصر العالم المرويّ تصل إلى القارئ عبرعين السارد وليس عبر عين الشّخصيّة الإشكاليّة والأمثلة في الرّواية كثيرة وهذه بعضها: "عرجت به بعد ذلك إلى زاوية سيدي محرز ودخلت السقيفة الرحبة الشاسعة، ملاذ الحيارى والمساكين والبائسين، صدمه المنظر العجيب، أطفال تتعالى أصواتهم بالبكاء، نساء يتنقلن كالأشباح أو يجلسن تحت حائط السقيفة، ثيابهن بالية، نظراتهم مخطوفة، ركام من الأدباش وأكداس من الفوضى، حصر مهترئة، فرش متسخة،أوان مبعثرة، أرضية مغطاة بالنفايات.

- إنّ مثل هذا الوصف يكون في كثير من الأحيان وصفاً تزيينياً لا علاقة له بالشخصيّة الرئيسية بقدر علاقته بالسّارد إذ يعكس -من موقع التّبئير- نظرة السّارد إلى هذا العالم السّحريّ الذي يريد أن يرصده من خلال ملامح تونس القديمة.

- ولذلك يصبح وصف المؤثّثات والمكان برمّته مجرد إطار تسبح فيه الشّخصيّة ولكنّه لا يعكس نفسيتها وأزمتها وحالتها الفكريّة،

- ويعكس الوصف أحياناً أخرى موقفاً توثيقياً واحداً، فالسّارد يتّخذ من حركته الشخصيّة في المكان وسيلةً ليَرْسمَ من خلالها بعض اللّوحات عن شوارع تونس القديمة لتسجيلها وتوثيقها عبر إعادتها إلى الذاكرة: "رجل يدفع عربة وآخر يحمل فوق رأسه قُفّةً، متسوّل يطلب صدقة وأعمى يقرع الأرض بعصاه، بائع العطور، ماء الزهر وماء الورد والعطر شيّة، دلال وسقّاء وحامل المبخرة وسلاّك الواحلين يلقي الكلام الموزون ويعبر سريعاً، فرقة نحاسية تتقدم باتجاه سيدي محرز من وراءها "المظهر" في ثيابه الزاهية يحف به الأطفال وهم ينشدون وراء الفرقة".

- وفي هذا السّياق لا يمكن أن يفوت الباحث المختصّ أن يلاحظ أنّ الكاتب وضع مقطعاً وصفيّاً كاملاً وهو الفصل الخامس عشر برُمَّتِهِ، لاتذكر فيه أيّة شخصيّة من شخصيّات الرّواية ولو مجرد ذكر ولا حضور فيه إلاّ للسّارد الذي نتخيّل أنه الكائن الذي يقف وراء هذا المقطع ولكنّ هذا الفصل يمكن أن يحذف ولن يؤثر حذفه في سياق الأحداث ولا في بناء الشخصيات فلا مبرر لوجوده إلا رغبة المؤلّف في الوصف المجاني وفي التّوثيق واتّخاذ موقف من الحضارة الحديثة ولذلك يصبح المقطع أشبه ببحث في العمارة الحديثة.

- ونضيف إلى هذا الفصل ما رواه السّارد عن الحرب ليتحوّل إلى مُؤَرّخ شاهِد ومحلّلٍ لأبعاد الحدث.

- ولا يضاهي هذا المقطع التّاريخي الطّويل إلا مقطعَ شبيه يصف فيه السّارد واقعة تازركة.

- وهكذا تتحولُ الرواية إلى ما يشبه الوثيقة التاريخيّة لهيمنة حضور السّارد ورغبته الملحّة في تسجيل الوقائع التاريخيّة والمشاهدات العمرانيّة مؤكّداً بذلك حقائقية العالم الذي يحيل عليه ومصداقيته الوهم المرجعي الذي إليه يشد الوقائع والأحداث وبذلك يظلّ برنامج الميثاق الواقعي قائماً.