الموضوع: ادجار الن بو
عرض مشاركة واحدة
قديم 01-24-2014, 12:26 AM
المشاركة 59
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

قناع الموت الأحمر" لإدجار ألان بو.. عندما يأتي الموت بلا دعوة
عارف فكري

يبدو أن الغموض كان هو قَدَر إدجار ألان بو (1809-1849) حياً وميتاً؛ فقد عاش حياة صاخبة قوامها الشعور بمرارة اليُتم المبكّر، وصراعه المستمر مع والده بالتبنّي، وقضاء إجازات طفولته في خرائب اسكتلندا وقصورها المسكونة بالقصص المخيفة، وكان عقابه عندما يخطئ أن يعيد كتابة شواهد القبور مرة أخرى.. وهذه الشخصية الحادة الفذة كانت تنزع للتمرّد، وقرض الشِعر، والتحليق في آفاق الخيال، مع نفس تهفّو للحب وتقدسه، وتعتبر أن الرعب الذي لا يُطهر النفس من أدرانها، لا يحقق هدفه.

حياة قصيرة من الألم والإبداع
ومع موهبته الفذة في كتابة الشعر، التي بلغت درجة من الرقيّ والسمو، وجعلت الشاعر الفرنسي الشهير بودلير الملقب بـ”بشيطان الجحيم” يقوم بإعلان إعجابه بموهبة “بو”، وتقديسه؛ بل وترجمة أعماله للفرنسية، والحديث عنها في كل مكان؛ مع كل هذا فهو قاصّ عبقري ارتاد أماكن في عوالم القصة لم يرتَدْها أحد من قبله، وهو في نفس الوقت ناقد صارم اشتُهر بقسوته، وتأسيسه لمذهب أدبي فريد، وهو يُعدّ بحق من مؤسسي الأدب الأمريكي، مثله مثل هيرمان ميل فيل، ومارك توين وغيرهما من الأدباء العظماء؛ ليس إبداعاً فقط؛ بل ونقداً وتنظيراً.

برغم هذا؛ فهو يعيش فقيراً، وتموت زوجته بسبب المرض، ولا يجد ما يكفّنها به، لولا إشفاق جيرانه عليه.. ويقضي حياة متقلّبة بقصص الحب الفاشلة التي يدخلها، وإدمانه للخمر والمخدرات.. وهذه النفس القلقة المتمردة كروح سجينة تريد الانطلاق، جعلته يُقدِم على الانتحار في المرة الأولى بإلقاء نفسه في خزان مياه، والثانية بتناوله جرعة قاتلة من اللودانوم، ووُجد ذات يوم ملقى بلا حراك في أحد الشوارع، ونقل للمستشفى، وعندما أفاق قال: “أفضل صديق لي، هو الذي يُجهز عليّ بطلق ناري”، وكانت آخر كلماته:

“إن قباب السماء تسحقني، دعني أمرّ، لقد كتب الله مراسيمه بصورة مقروءة على جبين كل مخلوق إنساني.. إن الشياطين تتجسد سجونهم المزوبعة لليأس الأسود. قاتلاً نفسي، أرى الميناء ما وراء الهاوية.. أين العوامة؟ زورق النجاة؟ سفينة نار، بحر نحاس! الهدوء في كل مكان.. لم يعُد ثمة شطآن”.

ولعلّ الرجل كان يرى الموت كما وصفه مراراً في قصصه؛ إما بالتلميح أو التصريح، وربما تعدّ قصة “قناع الموت الأحمر” أكثر القصص التي تتحدث عن الموت بشكل صريح، وقد كانت عنوان المجموعة القصصية، التي قام د. رحاب مكاوي بترجمتها، جامعاً فيها ثلاثين قصة من دُرر الكاتب الراحل.

الموت.. العامل المشترك الأكبر
تعدّ قصة “قناع الموت الأحمر” من القصص المخيفة المنظّرة لقدوم الموت، كزائر في مهمة لن يعود إلا بصحبة من وُكّل به.

تدور الأحداث في مدينة أصابها طاعون الموت الأحمر؛ حيث ينزف الجسد ويهلك، ويقوم الأمير “بروسبرو” بجمع مائة من محبّيه وخاصته، وينقلهم لقصره المنيع، الذي يتميز بقاعاته السبع الفخمة؛ وبينما كانوا يتمتعون ويرقصون، كان الموت لا يزال يحصد الناس بالخارج، وفجأة لاحظوا ذلك الرجل الذي يرتدي قناعاً لوجه رجل ميت، مشدود وكأنه جمجمة، ويرتدي أيضاً ما يُشبه الكفن، ويسير بين الضيوف بكل جرأة، وعندما يُعلن الأمير ضيقه، ويأمر حرسه بإمساك هذا الوقح يتساقطون موتى، ويُدرك الأمير -متأخراً- أن زائره الغامض هو الموت نفسه، والذي لم يفشل في مهمة قط.

الموت نفسه يظهر بعدة صور مختلفة، ومتدرجة؛ ففي قصة “القط الأسود” (أشهر ما كَتَبه “بو”) نرى رجلاً متقلب الحال، مدمناً، مضطرب النفس -هل كان يُشبّه “بو” نفسه به يا تُرى؟- يقوم بالقضاء على القط الأسود، وشنقه بوحشية، كمحاولة منه للتكفير يقوم بجلب قط جديد للمنزل.

الكارثة هنا أن القط يُعيد حركات القط القديم بحذافيرها، ويتصاعد ذُعر الرجل عندما يُدرك أن هناك رسماً لما يشبه المشنقة على القط الجديد؛ بل هو يمتلك نفس العين العوراء!

وفي لحظة من لحظات غضبه العارمة -بسبب القط- يقوم بقتل زوجته، ودفنها في جدار القبو، وعندما أتت الشرطة، ظنّ بأنه قد أفلت من العقاب؛ لكنه أدرك -متأخراً أيضاً- أن القط قد دُفن حياً مع جثة زوجته، وهكذا انكشف أمره!

الموت يظهر بشكل مختلف تماماً في القصة الغريبة “موريلا”، الأم والابنة؛ حيث نرى بطل القصة يحكي عن زوجته الفذّة، التي تُخيفه بهدوئها وغموضها؛ حتى إنه تمنى الخلاص منها ليشعر بالراحة، وقبل أن تموت “موريلا”، تُخبره بأنها ستعود مرة أخرى.. وتترك له ابنة يرفض تسميتها، وتصبح قُرة عينه، وعندما يقوم بتعميدها، يختار لها -دون وعي- اسم “موريلا”، وهنا يُفاجئنا “بو” بالنهاية المخيفة، التي تليق بقصة رعب من الطراز الأول، دون أن يشرح أو يفسر ما حدث.

فقط حالة من الخوف الغامض، والإحساس بعدم الأمان، وهو نفس الأمر الذي نجده في قصة “ليجيا” في ذات المجموعة، والتي تُعطي نفس الانطباع الموقظ لهواجس النفس ومخاوفها!

وفي قصته “انهيار منزل أوشر” يتحدث عن كابوس الدفن حياً؛ حيث البشر يتحركون بطريقة مضطربة تعتريها البرودة والفناء بشكل يُشعرك بأن الجو نفسه بارد وكئيب، والانهيار هنا نفسي وحقيقي؛ وكأن له سطوة جبارة لا يقف أمامها شيء.

أما القصة الرهيبة “برميل أمونتيلادو الخشبي”؛ فهي عن رجل ينوي الانتقام -لسبب غامض لا نعرفه- ممن آذاه، وتكون النهاية المرتقبة، والمخيفة في قبو الخمور!

ومن الحب ما قتل
في قصة “سر الغرفة الثالثة” نرى رجلاً يحب زوجته؛ لدرجة أنه يصمم على اصطحاب جثتها المدفونة في الملح عبر رحلة بحرية، تنتهي نهاية سيئة بالرجل العاشق.

وفي قصة “النظرة الأولى” نلمح موهبة “بو” الساخرة، وهو يتحدث عن رجل يعيش في قصور من الخيال المرهف، والذي تنتظره خدعة محترمة، توقظه من أوهامه، عندما يقع في غرام امرأة شمطاء تكبُره سناً.

رائد الأدب البوليسي
من يقرأ قصة “البقة الذهبية” يُفاجأ بعقلية “بو” الممنطقة؛ فنحن نرى رجلاً يبحث عن كنز دفنه أحد القراصنة القدماء، وقد ترك خلفه طريقة مُعقّدة تدلّ عليه.

لكن الإنجاز الأكبر يتمثل لنا في شخصية “أوجست دوبان” الرجل العبقري، الذي يظهر لنا في قصتَيْ “جرائم شارع مورج” و”الرسالة المختلسة” بغليونه المميز، وعقليته الجبارة؛ حيث ليس الاهتمام فقط بمرتكب الجريمة؛ ولكن بدوافعها ومسبباتها، والتأكيد أن لكل مجرم نمطاً محدداً ينبع من شخصيته المنفردة، قد يدلّ عليه.

والكثير من النقاد يعتبرون “بو” هو مؤسس الأدب البوليسي، الذي يعتمد على التحليل والاستدلال المنطقي، وهو بهذا قد وضع لَبِنة هامة لمن جاء بعده، أمثال آرثر كونان دويل في ابتكاره لشخصية شرلوك هولمز، وأجاثا كريستي، وشخصيتها الشهيرة هركيول بوارو.

ومن الصعب الحديث عن كل قصص المجموعة؛ لكننا سنجد فيها بقية من أمتع قصصه، مثل: (القلب الواشي، الحفرة ورقّاص الساعة، بلاد الظلال) وغيرها.

وهي مجموعة ستُحفّزك من أجل البحث عن بقية أعمالها، وقراءتها، والاستمتاع بها.