عرض مشاركة واحدة
قديم 12-28-2013, 08:06 PM
المشاركة 12
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
في ساق البامبو لسعود السنعوسي: نموذج مثالي للتنوّع السيميائي
د. إبراهيم خليل
DECEMBER 27, 2013


تستوعب الرواية على الرغم من هيمنة أسلوب معين على المؤلف تنوعا في اللغة يبلغ حد التنوع في الشخوص.
وهذا ما تقوم عليه الفكرة التي شرحها باختين Bakhtin فيما يعرف بالمبدأ الحواري، أو البيلفونية، فلكل شخصية من شخصيات القصة أو الرواية نهجها الخاص في الكلام، والتحدث، فإن كانت مثقفة فهي تتكلم كلام المثقفين، وإن كانت أدنى ثقافة دل كلامها على هذه الرتبة. أما الأسلوب العام الذي هو أسلوب الكاتب؛ فيظهر ويختفي، ولا يتجلى إلا فيما ينسب للوصف، أو التحليل الذي تستبطن فيه الشخوص، أو في تعقيب الراوي على مواقف الشخصيات من موضع لآخر. لهذا فإن القصة، والرواية، كلتيهما تمثلان طيفا من الأساليب، لا أسلوبا متجانساً واحداً(باختين، شعرية دستويفسكين،ترجمة جميل نصيف التكريتي، ط1، الدار البيضاء: طوبقال للنشر، وبغداد: دار الشئون الثقافية، 1986 ص266- 267).
ولا يغيب عن البال أن المزية اللافتة في الفنون الأدبية السردية من قصة، ورواية، إفراطها في الاعتماد على التخييل الحكائي، بمعنى أنها في المقام الأول تهتم بالمروي، وثانيا: قربها الشديد من فكرة محاكاة الواقع، وهذه المحاكاة تتطلب- فيما تتطلب- أن يكون الأسلوب عاملا مسانداً ومساعداً على جعل المتخيل يبدو في نظر المتلقي مطابقاً للواقع، فإذا كان الشعر يعتمد وفرة المجاز، والاستعارة، والانزياح، والحرص على السلاسة، والوزن، والإيقاع، واللجوء بسبب ذلك للتقديم والتأخير، والحذف والتكرير، والاعتراض، والالتفات، والمطابقة والتجنيس، والمساواة والإطناب، وغير ذلك من أساليب، فإن الرواية، والقصة، لا تتوخى من ذلك إلا القليل في أوضاع مشهدية خاصة تقتضي الجنوح إلى الشاعرية.
يقول أحد شخوص رواية زينب لمحمد حسين هيكل ما يأتي:
- من حق يا خليل، إنت بدّك تجوز حسن؟
فأجابه خليل بصوت هادئ
- والله يا سلامة بدي، لكن مش عارف أجوزه مين. ابني يا خويه ما يحبش البنات اللي كلهم دوشة. ويعملولهم الصبح غارة والمغرب قتلة. ويا معجل ما يغضبوا. وأهي حيرة يا سلامة يا خوية.
فقال له صاحبه بصوت ملآن أدعى ما يكون للثقة والاطمئنان
- يا الله يا خويه بلا كلام. إنت اللي محيّر روحك من غير حيرة. طيب ولما مش عاجبك دول، ما غيرهم كتير. أقول لك على وحدة من اللي فاتوا دول، وحدة ما عليها كلام؟ زينب. زينب مالها؟ أوعَ تقول عليها حاجة. (زينب، ط5، القاهرة: دار المعارف، 1992 ص 160 ) ‘ .
ففي هذا الحوار يحاكي الكاتب أصوات المتحاوريْن، وهما من عامة فلاحي مصر الذين يتكلمون على سجيتهم في هذا الحوار ، ونرى دليل ذلك في العامية التي تتجلى في الاسم الموصول اللي، واسم الإشارة دول، وكسر همزة الضمير أنت، وكلمة بدّي أي: أريد، وهي عامية قد ترجع في أصلها للجذر بدّ، من قولهم لا ‘ بدّ ‘ وأداة النفي مش، وطريقة السؤال: زينب مالها، وإسقاط بعض الأصوات من الكلمات، مثل وَحْدة بدلا من واحِدة. والقلب المكاني في أصوات الكلمة، فكلمة أزوّج تصبح أجوّز مما يذكرنا بقاعدة القلب المكاني.. واستبدال الثاء من التاء في كتير. وأسلوب التحذير ‘إوعَ’ وهو بديل (إياكَ ) التي للتحذير. ومثل هذا الحوار يمثل أسلوباً سائداً في الرواية لكنْ ثمة عبارتان تمثلان أسلوب المؤلف، وهما: فأجابه خليل بصوت هادئ، و’فقال له صاحبه بصوت ملآن أدعى ما يكون للثقة والاطمئنان’. فهو يصفُ الصوت بالمُمْتلئ، وهذا مجاز، لأن الصوت ليس وعاءً يمكن أن يكون فارغا أو مملوءاً ولكنّهُ قصد بذلك القوة التي تنم على الثقة بما يقول، وقد فسر ذلك السياق، عندما أضاف: أدعى ما يكون للثقة، والاطمئنان. فلكل من خليل وسلامة والراوي- الذي هو قناع المؤلف- أسلوب في الكلام يختلف، أو يقترب به- من الآخرين. وإذا فإنّ الأسلوب في الرواية يختلف باختلاف الشخوص، ويتنوع بتنوع المواقف والأغراض.
ساق البامبو
وفي رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي يجد الباحث نموذجاً جيداً يمكنه أن يتخذ منه مادة لدراسة اللغة السردية كاشفا عن قواعد اللعبة الخفية حين يجيد الكاتب ممارستها بدقة. فبطل الرواية (هوزيه) الذي له من الأسماء اثنان، ومن الأوطان اثنان، ومن الأديان اثنان، ومن اللغات ما يشاء: الفلبينية، والإنكليزية، والعربية التي يفترض بها أن تكون لغته، ولغة أبيه راشد الطاروف، يعدّ نفسه جاهلا باللغات. على الرغم من أنه البطل الذي يضطلع مرارا بدور السارد المشارك في الحكاية، وبدور المسرود له المروي عليه مرارا، فهو يسمع عددا من اللغات بعضها يترجمه معانيَ وأفكارا، وبعضها يظل غامضا مبهماً، وإن كان الإحساس بدلالاته لا يخفى. فهو يُصغي لوشوشة الصخور، ولحفيف الأشجار، ولخرير الماء، ويشعر بأن هذه الأشياء كلها تهمس له بشيء يجهل لغته، وهو على يقين من أن لكل شيء روحاً، وأنَّ منْ هذه الروح ما يتفتق عن دلالات، فمشهد النمل الذي يتسلق الجدار هارباً تستدل منه ميرلا عن قرب سقوط الأمطار على الرغم من خلوّ السماء من السحب ‘أسرع . سوف تمطر. انظر كيف اختفت الطيور . وانظر هنا نمل كثير على الجدار . أنت لا تفهم شيئا. (ص115)
لغة الجسد
هذه المسألة تؤرق هوزيه، لأنه يضطرّ في كثير من الأحيان لاستبدال لغة الأشياء من جسد، ومن كائنات، ومن أزياء، ومن موسيقى، باللغة الطبيعية، فلبينية كانت أم إنجليزية، أم عربية، يفترض أنها لغة أبيه. فعندما روت له أمه حكاية الزواج المَمنوع الذي ربط بينها وبين أبيه راشد بشهادة غسان ووليد، أشارت له بسبابتها على موضع في أسفل الورقة، قائلة: هذا توقيع غسان. ثم تنقل إصبعها إلى الإمضاء الثاني مشيرة ‘إمضاؤه مجنون. كم يُشبهه؟! حدقتُ في الإمْضاء الثاني، وسألت: إمضاءُ من ماما؟ ابتسمتْ، وهي تطوي الورقة : وليد ‘ (ص46)
فهو، إذاً، يعاني ما يعانيه الأخرس في تواصله مع اللغة، فلا يجري هذا التواصل، لا بالقراءة، ولا بالاستماع، وإنما بالإشارة.
وقد اتسمت حياته اللغوية باعتماد الإشارات عوضاً عن الأصوات، والإبماءات عوضاً عن الكلمات، أداةً للتلقي، وأداةً للتعبير. فعندما توفي جده مندوزا كانت الأدوات اللغوية التي عبر بها عن هذا المشهد بعض الإشارات مثل عواء الكلب وايتي، وصياح الدّيَكَة. والشموع التي تشي رائحتها بانطفائها من وقت قصير. وبتوقف التيار الكهربائي. وبهيئة مندوزا المستلقي على أحد جانبيه بوضعيّة جنين، ووجهه بين كفيه كمنْ يتقي مواجهة منظر. (ص167) فعباراته هذه، مثلما يتضح، إيماءاتٌ يعوزها التحديد بكلمات ذات مدلول معجمي. والإيماء في هذه الرواية يتسع ليستوعب ما يعرف بلغة الجسد، فهي شائعة فيها شيوعاً ملحوظا، فعندما قابل عددا من الكويتيين في منتج بوراكاي، واحتسى معهم كأسا من الرد- هورس red horse وأخبرهم في ذروة النشوة بأنه كويتي، وأنه سيذهب يوما ما للكويت، وإنْ طالَ الزمن، وجَّه له أحدهم تهديداً بإيماءَة، وهي الضغط بقدمه على الأرض، كأنه يسحق عقب سيجارة، وفهم من تحريك سبابته، وهو يهز رأسه من وراء زجاج السيارة، أن تلك الإشارة بمعنى ‘إياك أن تفعل’ (ص163). وفي السياق نفسه يترجم ما يراه من حركات الشبان الكويتيّين وهم يرقصون ويصفقون على وفق إيقاع معين، ومن حركة الأجساد، وملامح الوجوه، ومن تمايل الراقص على الجانبين، والاندفاع بصدره للأمام وكأنه يسحب حبلا خفياً، تتشكل لديه هويَّة مميزة للكويتيّين ‘أصبحتُ أميِّزُ الكويتيين، ثيابهم، قبعاتهم، نظارتهم الشمْسيّة ..’ (ص151)
ولبطل هذه الرواية قاموسُه الخاص الذي يحرر لغة الجسد من محتواها الانطباعي الوصفي إلى دلالات، فملامح الوجه، واحمرار العينين، لهما معنىً حين يقدم لخالته آيدا مبلغا من المال، ويرجوها أن تعده بألا تنفق ذلك المبلغ في تدخين الماريجوانا، فتعدهُ، معلقا على ذلك ‘كيف لي أنْ أصدق وعيناها الحمراوان، وملامحها الجامدة، تشهد بأنها في عالم آخر لحظة الوَعْد الذي قطعته لي؟’ ص (145) أما نظرة الشخصية الروائية للساعة، فتعني انتهاء وقت الزيارة ‘ نظرت للساعة في يدي لتفْهم أمّي بأنَّ وقت زيارتي قد انتهى’ ص 145 ووضع السبابة على الشفتين تعني التزام الهدوء (ص 234) وبهزة من الرأس، بصورة معيّنة، يُقدم البطل رداً إيجابياً على سُؤال ‘تحدثتْ مع غسان بالعربية. ثم التفتتْ إليّ تقول بوَجْه ملؤُهُ السعادة:
- أنت عيسى؟
ابتسمتُ لها، هازاً رأسي إيجاباً
- تفضلا.. ‘ (ص 217)
فالساردُ يكتفي بتلك الحركة من رأسه، ولا يتكلم، كأنّ هزة الرأس تنوب مناب الكلمات في التعبير. أما رفعُ الحاجبين إلى أعلى في أثناء الحديث بالعربية، التي لا يفهمها بَعْدُ، فتعني لديه الدهشة ‘هزت رأسها بشيء يشبه الابتسامة. تحدثا وغسان بالعربية، في حين كنتُ أراقب تعبيرات وَجْهها الحادّة .. حاجباها مرفوعان للأعلى.. حين كانت تتحدث إلى غسان. ترمقني بنظرة خاطفة. وتعيد تثبيت نظارتها الطبية، ثم تعاود الحديث مع غسان. كنت أنقّل نظري بينهما كأنني أشاهد فيلماً بلغة أجهلها من غير ترجمة. رحْتُ أترجم ما سمعته من حديثهما مثلما أشتهي’ سوف نُعدُّ له غرفة خاصّة ليعيش هنا معنا. نحن سعداءُ جدّا بعودته إلى بلادهِ، وأهله ‘ (ص 218) وتذكّرهُ حركة اللسان في فم المرأة الكويتية مطلقة بعض الأغاريد بطريقة الهنود الحمر في الهتاف’ قطَعَ تأملاتي شيءٌ غريبٌ، امرأة تضع كفها بالقرب من فمها، تحرك لسانها بسرعة، فتصدر صوتا يشبه ذلك الذي يصاحب هتافات، وأهازيج، الهنود الحمر ‘. (ص 205) ولو أن الصوت- ها هنا – يمتزج بحركة اللسان، وراحة اليد، إلا أن الحركة تستدعي أيضاً الرقصَ الذي يقوم به الهنود الحمر تعبيراً عن الابتهاج، أو التحدي. أما تحول الوجه من لون لآخر؛ الأحمر مثلا ، فيعبر عن الخجل تارة، وعن الغضب طورا، فعندما دفع للشرطي في المطار بجوازه الكويتي الأزرق – على الرغم من أنه يتمتع بملامح فلبيني – تحول وجه الشرطي بسبب الغضب للون الأحمر’ زرقة جوازي أحالتْ لون وجههِ إلى الأحْمَر. التفت إليَّ زميله، والابتسامة على وجهه، مشيرا بقبْضة يده رافعاً إبهامه ‘ (ص186) وتلك إشارة باليد، والإصبع، للدلالة على أنه يؤيده، زراية بزميله الذي انصاع أخيراً، وختم الجواز مرغماً لا حرّا، ولا مختاراً. موقفٌ يبلغ حدَّ الشماتة بالشرطي الذي رفض بادئ الأمر ختم جواز عيسى كونه يظنه فلبينياً، ويصطفّ ضمن رعايا الخليج. وتبدو بعض الوجوه خالية من الملامح، صامتة، بلا تعابير، وهذا إنْ كان يعني شيئا في لغة الجسد، فإنه يعني الحزن. يقولُ البطل: لو سئلت يوما كيف يبدو الحزن؟ لأجبتُ ‘وجه غسان’. (ص187) فهو لا يفتأ يرى في الوجوه، وفي الأيدي، وفي الأعين، علاماتٍ، وهذه العلاماتُ تنم على معان شأن الكلمات، والعبارات، في دلالتها على المعاني.
لغة الأشياء
فاللغة وحدها لا تكفي، بدليل ما يجري بينه وبين غسّان، فقد طلب منه ذات مرّة أن يقرأ له شيئا مما يكتبُ، فوافق هذا الأخيرُ، على أن يقوم- أولا – بترجمة القصيدة للغة الإنجليزية، لأنَّ عيسى (هوزيه) لا يعرف العربية. وبعد أن أخذ ورقة وقلماً، وترجم ما يعتزم قراءته، لم يلبث طويلا حتى أشعل سيجارة كدأبه كلما شرع في الحديث، وبدأ يُلقي الأبيات ‘ بالإنجليزية، بصوت جميل ينخفض تارة، ويعلو تارة أخرى. يحرك ذراعه بطريقة تمثيلية مدهشة. وعلى وجهه إيحاءاتٌ تعبيريَّة مؤثرة. تأثرتُ كثيراً بأداء غسان التعبيري، حتى أوشكتْ الدُموع تفرّ من عينيّ ‘ ص195- 196 فهو يقع تحت تأثير الأصوات، على الرغم من أنه لم يفهم شيئا ممّا سمع، فقد تملكه الخجلُ عندما سألهُ غسانُ: ما رأيك؟ فقال متردّداً لمْ افهم شيئا. ذلك أنّ كلمات غسان إنجليزية بالفعل غير أنها جميعاً لا تشكلُ جملة مفيدة واحدة. وواقع الحال أنَّ هذا السارد الذي يعاني من الحيرة على المستوى اللغويّ، لا يفتأ يعزّزُ اعتقادنا بأنه يستعيضُ عن الكلمات بالأصْوات، والألوان، والأشياء.
فمن الأشياء التي تنبئُ عن سلسلة من المعاني المُضمرة في لغة السارد الصخور مثلما مرَّ، والأمواج. ففي المشهد الذي حاول فيه الصلاة قرب تمثال السيدة مريم العذراء، يستقي الخشوع من أصوات الأمواج المتكسّرة حوله على صخور الشاطئ، فهي ‘تبثّ في داخلي شيئاً من الهدوء. ترتطم الأمواج بالصخرة. ترشّ قطراتها المالحة على وجهي. أمسحُها بظاهر كفي: أنا لا أبكي يا أمنا مريم. قطرات من مياه البحر، لا تقلقي. سمعت صوتا يخالط أصوات الأمواج كأنه صوت الغوزهينغ. ‘ (ص153) والغوزهينغ آلة موسيقية لا يفتأ صديقه تشانغ يعزف عليها كل ليلة لحنا قبل أن يذهب للنوم. وقد لاحظ هوزيه أنّ هذه الآلة تقول بموسيقاها ما لا تقوله الكلمات، وتعبّر عما لا تعبر عنه العبارات. فعندما سمع من تشانغ مقطوعة بعنوان ‘ عطرُ زهْر الياسَمين ‘ وتأثر بها تأثر شديداً، وانقلب تشانغ على أحد جانبيه متجهاً للنوم، سألهُ عما تقوله تلك القطعة، فأجابه: كل ما لدي عنها قلته في الموسيقى. ثم يتساءَلُ هوزيه ‘أن تصدر تلك الآلة نغمات موسيقية، فهذا بديهيّ، لكن أنْ تنثَّ الأوتار عطر الياسمين، فهذا ما لا أجدُ له تفسيراً’. (ص139)
ومما يلفت النظر، في تتبع هوزيه- عيسى لمُعاناته مع اللغات، اكتشافه المتكرر للموسيقى سواءٌ تلك التي تصدر عن الآلة مثل الغوزهينغ، أو عن اللسان مثل الأغاريد، أو عن الأيدي مثل التصفيق الإيقاعي، وقد اضطرّ توضيحاً لهذا إلى مُحاكاة الأصوات كتابة بالحروف، فهو يقول بالإنجليزية لركاب القارب ‘أنتم أي الكويتيون- تصفقون هكذا.. تك. تك. تك. بهذا الإيقاع. ويلتفت إلى الركاب عن يساره. وأنتم تصفقون بهذا الإيقاع.. تك. تك. تك. تك… هل هذا واضح؟ ‘ ص 161. وبما أن الأزياء والملابس تمثل نظاما من العلامات في مجتمع ما يميزه عن نظم أخرى في مجتمع آخر، فقد رأى هوزيه- عيسى، عندما عاد إلى الكويت، ما يخالف مدلول العلامة في الفلبّين، من ذلك أن الراية الوطنية مثبتة في أسفل السارية لا في أعلاها ‘ قلت (لغسان) طريقتنا مختلفة في رفع الأعلام، في الفلبين تكون الأعلام في أعلى السارية. هزَّ غسان رأسه، وقال بالإنجليزية، وفي الكويت، وفي كل مكان، ولكن الدولة في حالة حداد.
- حِداد؟
- الأعلام منكَّسة، مات أمير البلاد فجر اليوم.(ص187- 188)
هذه هي الصدمة الأولى التي يتلقاها عيسى- هوزية عند وصوله لما يفترض أنه بلده، غير أن هذه الصدمة تمثل له اكتشافا جديداً، وهو طريقة التعبير عن الحزن على من يُتوفى، لا سيما إذا كان أميراً . وبذلك تنفتح له طريق لرَصْد المختلف والمؤتلف من العلامات. فعندما تجوَّلَ في المدينة تبدَّدتِ الصورة التي ترسخت في ذهنه عن الكويتيين، فمن الملابس يستدل على التنوع الهائل للسكان في الكويت، بعد أن كان يظنهم من لون واحد ‘البعض يرتدي ثيابا تحاكي آخر صيحات الموضة والبعض بالثياب التقليدية (الدشاديش) أناس بالشورت والتي شيرت.. وآخرون يرتدون الجينز. ثياب ضيقة رغم نحافة مرتديها.. آخرون يعتمرون قبّعات والبعض بغطاء الرأس؛ أبيض؛ أو أحمر . ملابس جذابة.. تنانير قصيرة وأخرى طويلة.. ألوان زاهية.. وجلابيب سود داكنة. وأخريات يغطّينَ رؤوسَهُنّ بالأحْجبة’ (ص204) فمثل هذا المونولوج يتضمّن الكثير من الدلالات التي عبرت بها تلك الأشياء من ملابس وأزياء عن مستويات متباعدة منَ المعنى. فقد اضطر لتغيير الفكرة التي ترسخت لديه عندما قابل الشبان السائحين في منتجع بوراكاي. علاوة على هذا يتواتر في الرواية التعبير بالصور المؤطرة المعلقة على جدران غرفة راشد، وتلك التي يحتفظ بها في ألبوم كبير، فواحدة من تلك الصور تمثل الكاتب الشهير ليو تولستوي.. وأخرى تمثل شاعراً كويتيا معروفاً وهو فهد العسكر.. وأخرى تمثل الشيخ عبدالله السالم الصباح، فالصور تشف عن المستوى الثقافي للأب من جهة، وعن هويته الوطنية من ناحية أخرى. وهو في تأمله للصور.. وبحديثه عنها، يسبر غور الحياة الثقافية لموطنه الجديد إذا ساغ التعبير، فقد توقفَ طويلا إزاء الملابس، والذقون، والشوارب، وغطاء الرأس (العترة) والعقال، الذي سماه الحلقة السوداء المُثبّته، وأدهشه أنها لم تكن حلقة في صورة الشخ عبد الهه السالم، بل هي ‘مربعات سوداء متصلة بخيوط صفراء عريضة تربط بينها وتبدو في شكلها كالتاج’ (ص 236) فهو لا يفتأ يعبّر بمثل هذه الأشياء عن اكتناهه لواقع الحياة في بيئته الجديدة بعيداً عن استخدامه الكلمات.
الاختلاف اللغوي
والحقّ أن سؤال التواصل بين عيسى- هوزيه والآخرين في الرواية لا يقتصر على لغة الجسَد، ولغة الأشياء، والتعامل بإشارة الإصبع، أو بصوت الموسيقى، وخشخشة الأشواك، ووشوشة الصخور، وما في الصور من خطوط وظلال، وإنما لا يفتأ يحاول التغلب على عقدة الاختلاف اللغوي. لكن هذا السارد، وهو بطل الرواية، يظلُّ يعاني من ازدواجية المدلول، فعلى سبيل المثال يستخدم كل من هوزيه وغسان كلمة صغيرة بمعنىً مُختلفٍ، لكن هذا الاختلاف ليس نابعاً من جهل المتلقي بمحتوى اللفظة، وإنما من السياق المقامي الذي يشتقّ منه المعنى. فإذْ يعجب هوزيه من خشية عائلة الطاروف بسبب انضمامه إليهم، وأثر ذلك على زواج بناتهم، يقول له غسّان: حكايتك هي حكاية عائلة الطاروف، الكلُّ سيعلم بالأمر؛ فالكويتُ صغيرة. قاصداً بكلمة ‘صغيرة’ سرعة ذيوع الإشاعة، وانتشارها الانتشار الشامل الذي لا يدع صغيرا ولا كبيرا إلا ويعرف بحكاية هوزيه، لكن هوزيه يعلق في نفسه مؤكداً: نعم، صغيرة حتى أنها ضاقت بي.(ص211) فالسياق- ها هنا- يوحي بازدواجية المدلول مع وحدة الدال. والموقف ذاته يتكرّر في الحوار الذي يدور بين نوريّة، عمّة عيسى، وشقيقتها عواطف ‘الكويت صغيرة، والكلام ينتشر بسرعة. لو علم فيصل زوجي- وأهله بأمر هذا الولد ستهتزُّ صورتي أمامَه، وأصبح أضحوكة لأخواته، وزوجات إخْوته..’ (ص 223) وفي مثال آخر نكتشف موقفا معاكساً، فالتجانسُ الصوتي بين كلمة (تعالَ) العربية التي خاطبه بها الخادم الهندي( بابو)، وكلمة (تا- آل) وهي اسْم بركان شهير في باتانغاس يفجّر في ذهنه تساؤلات عن البركان، فيبقى واقفاً إلى أن يشير له الخادم بيده فيفهم أن معنى الكلمة come فيتجه خلف (بابو) إلى المَطبخ. (ص239)
والثنائية هاجسٌ يتخلل نسيج الرواية، فكم من موقف اضطرّ فيه الكاتب لاستخدام كلمات بالأصوات اللاتينية، مكتوبة أو غير مكتوبة، فقد قرأ هوزيه على صناديق الموز المُصَدَّر من الفلبين اسم كويت Kuwait فما كان منه إلا أن انتبه لذلك الاسم، فلاحظ عليه التاجر ذلك قائلا أين تقعُ هذه البلد؟ وبلهجة العارف المتأكد من دقة الجواب، قال هوزيه: قريبة من السعودية. فيعلق التاجر: ‘هم لا يزرعون المَوْزَ هناك، ولهذا يستوردونه من هنا. لو كنتَ موزةً لتمكَّنتَ من الذهاب إلى بلدك’. (ص134- 135) فمثل هذه الإشارة Kuwait استدعت عددا من الإشارات التي تحمل هي الأخرى إشاراتٍ تنم عن توق السارد للذهاب إلى موطن أبيه. والساردُ حائر، وهو يروي الحوادث بلغة فلبينية ينشدُ ترجمتها للعربية، فحين يذكر اسم مكان مُعيّن يكتبه تارة بالأحرف اللاتينية، وتارة بالأحرف العربية، تصريحاً دَوْرا، وتمويهاً وتلميحاً طوراً آخر. فهو بعد أن تحدث مطولا عن معبد سان غوان ذكره بالحروف اللاتينية Sang Guan Temple (ص136) وكثيرا ما تتحول تعبيراتُه لخليط من اللغتين العربية والإنجليزية دون أنْ ننسى العقد المبرم بيننا وبين الكاتب، وهو أن الرواية كتبتْ أصلا بالإنجليزية، ثم جرت ترجمتها للعربية. فعلى سبيل المثال يروي لنا لقاءَه الأول بالشبان الكويتيين عند صخرة ويلز، فيذكر اسم الصخرة بالإنجليزية: ويليز- روك، ثم يلقي التحيّة عليهم بالعربية ‘السلام عليكم’ وهي تحية علمته أمه النطق بها من غير أن يكون على دراية بمعناها، فجوبه بإجابة بصوْتٍ واحد: وعليكم السلام. (ص155) ولكنه ما يلبث إلا قليلا حتى يتحول إلى.. stop.. stop.. قلتُ لهم، سأكشفُ لكم سراً. أنا كُوَيْتيّ. انفجروا ضاحكين. نعم أنت على حقّ، كويتيّ، ولكن made in Philippines (158- 159). ومثل هذا الموقف يتكرَّرُ في أثناء وجوده في الكويت عندما تتصل أخته خولة بغسان، وتخبره بأنّ ماما (غنيمة) وافقت على إقامته معهم في البيت ، فما كاد يسمع حتى اندفع صائحا بتهوّر yes..yesôyes (ص226). وهذا الخليط اللغوي ظاهرةٌ تواجه القارئ من البداية. فعنوان الرواية المؤلَّفُ من كلمتين اثنتين إحداهما عربية، والأخرى (بامبو) ليست عربية bamboo ومن هنا نجد السارد مضطرا ليذكرَ ما الذي يطلقه الفلبينيون على البامبو: كاويان، وفي كثير من البلاد العربية، ومنها الكويت، يسمونه خيزران(ص18). وهذه الإشارة نستطيع أنْ نعدَّها مفتاحاً للمسألة اللغوية والتواصلية في هذه الرواية المحكمة. فالثنائية اللغوية تلوحُ منَ الأسْماء، لا التي اختارها في مرْوياته حَسْبُ، بل من وضع يصفه بكلمة لا تخلو من دلالة، وهي ‘شتاتُ الأسْماء’ (ص 241): جوزفين، وآيدا، وميرلا، وبيدرو، والبومباي، وهم هنود يقيمون في الفلبين ويتعاطون الربا (ص27) ومندوزا، وهو الاسم الأخير لجدّه (ص55) وتشيلنغ ولقبها المقدم على اسمها إينانغ، وألبرتو الذي اقترنت به جوزافين بعد طلاقها من راشد (ص77) وأدريان، وخوزيه ريزال، أحد أبطال الفلبين القوميين(ص114). ومن الأسماء الأعجمية بينياPinya وهو اسم شخصية أسطورية منها اشتق اسم الأناناس Pineapple تضاف لهذا اسم ماريا، وهي صديقة ميرلا، والوشم على ذراع ميرلا mm ويستخدم أوصافا أعجمية في نعته للنساء، مثل المستيزا Mestiza (ص108). وهذه الكلمة ظهرت في الرواية غير مرة بالعربية، والإنجليزية. والصحيح كتابتها بحركة أخيرة ضيقة mistizo وهو لقب يطلق على الشخص الناتج من تزاوج رجل أوروبي بأخرى آسيوية، أو هندو- أمريكية.
والبطل السارد نفسه له أسماءٌ بعدد اللغات التي لها حضورها في الرواية، فهو في الفلبينية هوزيه، وفي الإسبانية خوسيه، وفي الإنجليزية Isa ، وفي العربية عيسى، وهو اسمُ جدّهِ لأبيه، واسم المسيح(يسوع)، ولكنه، مع غناه الفائض بالأسماء، لا يذكر إلا أنّهم ينادونه: أرابوArabo .(ص18)
ولعل هذا ما يدفع به دفعاً للتصريح، من حين لآخر، بأنه يتعذب نتيجة لهذا الوضع التواصلي الذي عانت منه أمّه طويلا قبل أن تكتسب عادة التكلم ببعض الكلمات العربية، مثل: سلام عليكم، وشاي. قهوة. وواحد. اثنان. ثلاثة (ص29) قبل أن يعاني منه هو. مصداق ذلك ما يذكره المؤلف على لسان جوزافين من أنها حين سألت راشداً عما دار بينه وبين غُنَيْمة والدة راشد- فور قدومه للبيت، وعلى يديه طفله حديث الولادة عيسى، فقالت لهوزيه تروي ما كان: ‘ كان أي راشد- يعيد تمثيل المشهد أمامي مترجماً ما دار فيه من حوار كيْ أفهم. بكيت. بكيت كثيرا على والدك يا هوزيه’ (ص44) والموقف نفسه يتكرر مع الابن، فعندما دلف إلى المسجد للمرة الأولى قيل له أن يفعل مثل الذي يفعله الإمام، ولكنه ندم على ذلك لاحقا، وتمنّى أن يكون كويتياً حقا، وأن يذهب مثلما يذهبون للجامع، ويستمع للإمام الذي يقف في المنصة، ويفهم ما يقوله، بدلا ‘من رفع كفيّ مقلداً الرجال من حولي مردّداً كالبَبّغاء آآآآآآمين . آآآآآآآمين ‘ (ص64) ويتكرّر الموقف ذاته مرة أخرى، عندما يعودُ بصحبة غسّان للكويت، ويزوران البيت الكبير للمرّة الأولى، ويتقابل هوزيه- عيسى وعمّته، وأخته خولة، وجدته غنيمة. فهو يراقب أحاديثهم- بعضهم مع بعض بالعربية، فينتبه لتعابير الوُجوه، والأيدي، والحواجب، وحركة السبابة تثبت النظارة على أرنبة الأنف، مشبِّهاً نفسه بمن يشاهد فيلماً بلغة يجهلها، ومن غير ترجمة (218). والطريف في الأمر هو أن هوزيه يتمنى التكلم بالعربية بدلا من الإنجليزية، أو بدلا من لغته الأم الفلبينية، في حين أن الآخرين يحاصرونه، ولا يسمحون له بتجاوز حاجزه اللغوي، فأخته خولة لا تكلمه بالعربية على الرغم من أنه اكتسب الدراية ببعض العبارات والكلمات، وعندما سألها: لمَ تفضّل التحدث بالإنجليزية، أجابتْ: ‘أحبها في المُحادثة أكثر من العربية’ عنئذ قال لها ‘الذي لا يُحبّ لغته الأم أسوأ من سمكة نتنة ‘(ص258). والسمكة النتنة الواحدة تفسد السمك كله في رأي خوسيه ريزال. وحين يتوجّه لبيت جدته (غنيمة) لتهنئتها بعيد الأضحى، وقد تدرب طويلا على النطق بعبارة عيد مبارك يا ماما غنيمة، ساءه أن تدعوهُ إليها بكلمة come .. come وبعد أن دسَّتْ في يده ورقة من فئة عشرين ديناراً قالت له بإشارة من يدها goôgo .. وعندما قرر ترك البيت العائلي، والإقامة وحدَهُ في شقة مستأجرة، طلبت (غنيمة) من خولة أن تترجم لهُ ما تقوله، وهو رفع حظه من الجراية الشهرية مائتي دينار ليصبح مجموع ما يتلقاه كل شهر أربعمائة دينار لا مئتين. فالترْجَمَة تعني أنَّ من حوله يرفضون له أن يتأقلم مع محيطه اللغوي، ويذكّرونه دائماً بأنه غريبُ الوجه واليد واللسان. وعندما قابل الفلبيني إبراهيم سلام، وتعارفا، وتحدثا معاً بالفلبينية، سرعان ما يزل لسان إبراهيم – ظنا منه أنه لا يعرف معنى الكلمة – فيشرح له بطريقة عفوية أنّ سلام تعني peace وهذا هو معنى التحية السلام عليكم.(ص 304)
العبارة المجزأة
ومن الملاحظ أنّ هذا التضايُفَ اللغوي، والتراكُم اللساني، لم يحل دون ظهور الطابع المُحكم للغة السرد، لا سيما غلبة النسق اللغوي الذي تنماز به لغة القصة القصيرة أكثر من الرواية. فهو يجنح إلى العبارة المجزأة التي تُعْرفُ بها كتابة القصة، فها هو يصفُ مشهد غرق أدريان’ هنا. هنا. تصرخ زوجة خالي بيدرو. صراخ ميلا يتبع الـ هنا .. نواح خالتي آيدا. أضواءُ المصابيح اليديوية تتجه نحو مكانٍ واحدٍ.. الكلُّ يجري.. بين بيتنا وبيت جدي.. تبعتهم.. قفز خالي بيدرو في مجرى الماء.. يحمل شيئا. يضعه على حافة المجرى. بريق يضيءُ المكان.. تفرق الجميع. وجه أدرْيان بين كفّيْ خالي.. أزرق. داكن.. سائل أسود كثيف يسيلُ من فمهِ ومنْخَريْه. خالي بيدرو يضغط على صدره .. يضغط. يضغط. يضغط. (ص84-85) فمثل هذه العبارات المجزأة تشي بأنّ الكاتب يروي الحدث على لسان السارد في هيئة لقطاتٍ مُسْتخدماً ما يعرف بتقنية الكاميرا. وهذا النسَق لا يفتأ يتكرر في الحوار الثنائي الذي يدور بين جوزافين وبيدرو الذي أعلمها بتوصيل بضاعة لشركة يملكها رجل أعمال كويتي، نظرت أمي باهتمام إلى وجهه، بعينين نصف مغمضتين، واصل.
- تعود ملكيتها لرجل أعمال كويتي
فتحتْ عينيها على اتساعهما
- أكملْ ، وماذا بعد؟
لم يبعد عينيه عن وجهها، قال
- يقول أحد الموظفين أنه رجلٌ معروفٌ في الكويت
تفرَّستْ أمي وجه خالي، أتمَّ حديثه
- كاتب روائي، أو شيءٌ من هذا القبيل.
انتصبت أمي واقفة قبل أن تقول:
- هل تعتقد..
فبالعبارة الأخيرة، غير المكتملة، عباراتٌ مضمرة، كأنما تقول له هل تعتقد أن لهذا الرجل علاقة براشد، أو يعرف عنه شيئا يمكن أن يفيدنا؟ هيا بنا لمقابلته بسرعة. وهذا كله استغنى عنه الكاتب بالبياض الذي انتهت به العبارة ‘هل تعتقد؟…. ‘ وفي الحوار الذي يجري بين إسماعيل وجوزافين عبارات مجزأة:
- اسمي إسماعيل.
أجابته أمي
- أنا جوزافين سيدي. وهذا عيسى ابن..
واضحٌ أن العبارة لا تكتمل لأنَّ الابن يقاطعُ:
- هوزيه.
صحَّحَتْ والدتي:
- هوزيه، ابني (ص97)
وهذا الاجتزاءُ في العبارة يخفي نوايا جوزافين التي كانت تودُّ لو تقول: ابن راشد الطاروف. ثم استعاضت عن ذلك بعبارة تخفي ذلك الذي كانت تود التصريح به، حين قالت: ابني. ففي الحوار تتجلى العبارة المقتضبة، الموجزة، والناقصة، التي يجنح إليها أكثر كاتبي القصص القصيرة لما تتسم به من تكثيف، وتركيز، يؤثرون معه مثل هذه العبارة. وفي مقام آخر تعاود جوزافين الحوار، مع إسماعيل الكويتي، فتسأله إن كان يعرف كويتيا باسم راشد، فيجيب:
- آلاف في الكويت يحملون هذا الاسم.
- راشد الطاروف سيدي
ارتفعَ حاجبا الرجل إلى الأعْلى ، واصلتْ أمي:
- كاتبٌ، يسكن في ..
- قرطبة؟
فوجئت والدتي
- نعم. نعم سيدي!
- هل تعرفه؟
هز الرجل رأسَه إيجاباً، سألته أمّي
- معرفة شخصية؟
واصل الرجل هزَّ رأسه (ص98)
واضحٌ أنَّ الكاتب يقوم باختزال الحوار عن طريق العبارات الناقصة المُجْتزأة. يسكن في … قرطبة.. ثم الاكتفاء بهز الرأس مرتين، وهي تعني ردا إيجابيا على السؤال المتكرر: معرفة، ومعرفة شخصية. أما الإشارة لكومة الأوراق على المكتب، وادعاء الكويتي أنَّ راشداً موجودٌ فيها، فتلك عبارة أيضاً مجتزأة تفي بمتطلبات الكلام الكثير عن أنه يكتبُ روايةً راشدٌ أحدُ أبطالها، وأن الرواية على وشكِ أنْ تنتهي، لأنَّ بطلها وقع أسيراً في أيدي العراقيين. على أنَّ جوزافين، التي لم تفهم ذلك في أول الأمر، ظنت في الرجل أنَّه مجنون، فالتفتت لابنها هوزيه وقالت له بالفلبينية: تباً لبيدرو. يبدو أن هذا الرجل مجنون. فقاطعها إسماعيل قائلا: لستُ مجنوناً(ص99) ثم أوضح لها ما عناهُ حين أشار للأوراق قائلا راشدٌ موجودٌ هنا.
واستخدام العبارة المُجزّأة في كتابة الرواية هي آخر التقاليع في السرد، والكتابة السردية، وقد لجأ إليها محمود الريماوي في ‘حلم حقيقي’. وها هو سعود السنعوسي لا يفتأ يستخدم هذه الطريقة في السرد تارة، وفي الحوار تارة ، يشهد على ذلك الحوار التالي بين ميرلا وهوزية:
- بماذا تفكّر؟
وكمنْ يُدافعُ عنْ تهمة
- لا شيء
- لا تظنّ أنني لا أفهمك. منذ فترة. نظراتك. تصرفاتك. مستحيل ما تفكر فيه.. هوزيه.
- نعم . نعم مستحيل
- أين تكمن الاستحالة؟
- ابنة خالتي أنتِ
- سببٌ تافه. لن يحول بيني وبين رغبتي، لو رغبت. سبب آخر يمنعني. لو لم تكن رجلا’. ( ص117)
واضح جداً أن ما ذهبنا إليه في الحديث عن تأثر الكاتب بلغة القصة القصيرة، ولا سيما الجنوح للعبارة المجتزأة، يُضفي على الرواية- بصِفةٍ عامّة- طابع التجانس الشكلي، على الرغم من كثرة ما فيها من تراكم لغوي، ومن وسائل تعبير متعدّدة، منها لغة الجسد، ولغة الأشياء، ولغة الموسيقى، والألوان، والمَلابس، والأزياء، والحركات التي تتجلى في الرقص تارة، وفي التعبير عن الحزن تارة، وإمارت الوجه، والعينين، والحاجبين، واليدين، واللغة التي تفسر على غير وجه، وتترجم على احتمالات عدة. مما يؤكد الفكرة التي يذهب إليها بعض الدراسين السرديّين- كميخائيل باختين- من أن الرواية تمثل، بحكم ما فيها من نظام سيميائي، عدداً غير قليل من مُسْتويات اللسان، وأوْضاع الكلام، وتحرّرُ الدوالَّ من مدلولاتها العُرْفيّة الاصْطلاحيّة لأخْرى سياقيّة أوْ ذاتيّة.

*ناقد وأكاديمي من الأردن