عرض مشاركة واحدة
قديم 10-19-2019, 07:42 PM
المشاركة 14
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: ابتسامة مُبكيـــَـــة !
التوأمان: الشَّرقُ وَالغربُ

شرق بصير وغرب مبصر
تفرَّدت اللغةُ العربية بكمالاتٍ كثيرة، ولاسيما في معالجة النفس البشرية وما انطوتْ عليه من قوى ومشاعر ونزعات. وفي ذاك دليل على أن بُناة هذه اللغة الكريمة قد سبروا في النفس أغوارًا سحيقة؛ وإلا لما خلقوا لغة تمكِّنُهم من تصوير دفائن النفس في أدقِّ معانيها، وأشفِّ ألوانها، وألطف ظلالها. فما كانت اللغة يومًا أكثر من أداة للإفصاح عن حاجة في النفس أو حاجة في الجسد. فعلى قدر ما تتسع تلك الحاجات وتتنوَّع طواياها تتَّسع اللغةُ وتتنوَّع أساليبُها. وشعبٌ غزير الحسِّ، مرن الفكر، وثَّاب الخيال، لا بدَّ من أن يخلق لغة غزيرة الألوان، مرنة المفاصل، وثَّابة البيان.

من أكمل كمالات العربية وأسماها تمييزُها ما بين "البصيرة" و"البصر" وجعلُها الكلمتين فرعين من أرومة واحدة، بل توأمين من بطن واحد. ولكن ذاك الفرع غير هذا؛ ولكن هذا التوأم غير ذاك. فكأنَّهما واحد وليسا بواحد. فالعين، إذ تمرُّ بهما، تحسُّ ما بينهما من تجانس، ولكنها تحسُّ مع التجانس تباينًا. والأذن، إذ تلتقطهما، تستأنس في الاثنين برنَّة تكاد تكون واحدة، ولكنها غير واحدة. فهما أبدًا متلاصقان متباعدان، ومتشابهان متناقضان. أما التلاصق والتشابه ففي المصدر؛ وأمَّا التناقض والتباعد ففي الطريق والواسطة.

فالبصر – ومركزُه العين – يحصر كلَّ همِّه في التقاط أشكال الأشياء وألوانها؛ ومن أشكالها وألوانها يحاول أن ينفذ إلى كنهها. حين أن البصيرة – ومركزُها القلب أو الوجدان – همُّها الوصول إلى بواطن الأشياء دون التلهِّي بظواهرها. فالاثنان يدأبان وراء المعرفة؛ لكن سبيل الواحد غير سبيل الآخر. أما أيُّ السبيلين أفضل وأكفل بالوصول إلى المعرفة فأمرٌ لكلٍّ منكم الحقُّ أن يبتَّ فيه بحسب هواه.

أما أنا فقد قلت من زمان – وما أزال أقول – بأسبقية البصيرة على البصر في بلوغ الغاية المنشودة التي هي الفهم الأقصى المؤدي إلى الحرية القصوى.

لن يبلغ البصرُ قلبَ الحقيقة قبل أن يبلغ حدودَه ويدرك عجزَه وقصورَه، ويلوذ بالبصيرة فينقلب بصيرة. أما البصيرة فلا حدود لها، مثلما لا حدود للحقيقة التي تتوخَّاها. فهي، وإن توكَّأتْ على البصر، لا تسير في نوره. فالمحدود لا يسع سوى المحدود؛ وما كان بغير حدود لا يسعُه إلا ما كان بغير حدود.

والآن، إذا ما قلت لكم إن الشرق هو بصيرة العالم وإن الغرب هو بصره، فما أخالكم تسيئون فهم ما أقول، فتحسبون أن الشرق كلَّه بصيرة ولا بصر، وأن الغرب كلَّه بصر ولا بصيرة. ذاك يعني تجريدَكم الشرق عن كلِّ حسٍّ خارجي، وتجريدَكم الغرب عن كلِّ شعور باطني؛ وهو غير الواقع وغير المعقول. وجل ما أرمي إليه هو القول بأن زبدة الشرق في بصيرته وزبدة الغرب في بصره، وأن الاثنين توأمان متلاصقان يبدوان كأنهما واحد ولكنهما غير واحد.


*** *** ***