عرض مشاركة واحدة
قديم 02-17-2016, 11:01 AM
المشاركة 40
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


هكذا كانت البيئة الطبيعية في الريف الفلسطيني في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وهي البيئة التي امضيت فيها طفولتي المبكرة... اراضي، وحقول خضراء يانعة، اشبه بالجنان، أشجار، وثمار، وازهار من مختلف الانواع، ومراعي واسعة وجميلة، مشاهد تسلب لب الناظر اليها وتسحر عيونه، وتثلج صدره وتفرح قلبه...

لكنها كانت بيئة مسكونة بجيوش من الافاعي، والعقارب، والدبابير، والصملات، وهي جميعها مرعبة وسامه ومؤذية وبعضها شديد الخطورة...وجيش من الحيوانات المفترسة...وجيوش أخرى من الكائنات التي لا تؤذي بصورة مباشرة لكنها مرعبة في شكلها وقدرتها على الظهور المفاجئ، فتظل مصدرا للخوف الشديد الذي يكاد يعقد اللسان، ويوقف القلب أحيانا عن النبض، ويمنع الدم في العروق من الجريان...ولكن ذلك ليس نهاية اوديسا مصادر الخوف والأذى التي شهدتها في طفولتي المبكرة في الريف الفلسطيني...فما زال في جعبت ذاكرتي المزيد...

ففي تلك الفترة الزمنية...اذكر أيضا ان حقول فلسطين الخضراء قد تعرضت، في مرة واحدة على الأقل، الى هجوم كاسح، ماحق، ساحق مميت من الجراد...تلك القوارض المهلكة على صغر حجمها...اهلكت الزرع، والنبات، والاشجار، والحقول، وكل ما يمت للحياة الخضراء بصلة...فهي حين تهاجم ارض لا تبقي ولا تذر وتأكل الأخضر واليابس...وكأنها ملائكة موت تسلط على مملكة النبات فتحيلها الى اطلال فتصبح تلك الجنة الخضراء اشبه بهياكل نباتات وكأن الحياة انتزعت منها انتزاعا...

واذكر ان عدد الجرادات التي هاجمت فلسطين في ذلك الهجوم الكاسح، والتي كانت كما قالوا لنا، قادمة من الصحراء الافريقية، كانت بأعداد لا تعد ولا تحصى...منظر مخيف يفوق التصور...وينطبع في اعماق الذاكرة...

واذكر تماما انها حينما حلقت في سماء قريتنا بكثافة وكأنها غيمة مرعبة من حشرات طائرة، حجبت عين الشمس عنها وعنا...فلم نعد نرى سوى الجراد في كل مكان، على الأرض او في السماء...تهبط وتطير وتتقافز هنا وهناك ...وكاد نهار القرية حينها ان يتحول الي ليل مظلم...تلك القرية التي كانت تسمى في الماضي السحيق بنصيب من الشمس لشدة سطوع الشمس على ربوعها...

واذكر انني لم اجرؤ يومها على الخروج من الغرفة...بل اكتفيت باستراق النظر من الباب...وعلى وجل كنت أحدق في السماء فوجدتها، وانا أمعن النظر في كبدها، بأنها لم تعد مثل السماء التي كنت اعرفها واعتدت عليها من قبل...فلقد أصبحت بلون يميل الى البني الغامق واختفت فجأة زرقة السماء في يوم صيفي جيمل، عادة ما يكون صافيا وخالي من اية غيوم...وذلك هو المشهد الوحيد الذي اذكره بتفاصيله المخيفة من هجوم الجراد الشرس المذكور ولا اكاد اذكر سواه...الا ربما منظر الأشجار وقد انتزعت اوراقها...وباتت عارية تماما وكأنها في منتصف الخريف الذي لم يحن اوآنه بعد...

فلكم ان تتخيلوا إذا اعداد ذلك الجيش المحمول جوا...القارض...الشرس...الذي هاجم فلسطين على حين غرة، ودون سابق انذار...ولكم ان تتخيلوا ما فعلت تلك الجرادات ملائكة الموت بأرض فلسطين وحقولها وبساتينها في هجومها الساحق، الماحق المذكور...

لقد اكلت الأخضر واليابس في أيام معدودات، وربما هي ساعات لا تتعدى أصابع اليد...حتى أنك حينما كنت تنظر الى الحقول كنت تجد انها أصبحت جرداء خالية من مظاهر الحياة...وكأن اللون الأخضر مسح في معظمه باستيكة ضخمة بحجم الافق...تلك هي افواه الجرادات...فأصبحت الحقول خاوية على عروشها...ولسان حال الناس يقول كان هنا بساتين وحقول...

ولا بد انهم كانوا يندبون حظهم ويتحسرون على ما اصابهم من مصيبة أضيفت الى معاناة الناس...وكانت تلك الكارثة مشهورة في تلك السنوات، وربما لا يتعداها شهرة الا حادثة سقوط الثلج الكثيف في العام 1952 والذي كسر اغصان الشجر، وحطم بعضها، وتسبب في دمار كبير، فصار الناس يؤرخون الاحداث بالإشارة الي يوم الثلجة الكبيرة لشدة ما اصابهم منها من كرب عظيم وخسائر فادحة...ولو ان الأشجار عادت في العام التالي لتكتسي بخضرة ساحرة، واينعت ثمرا عظيما كما يقولون، وتعلم الناس من الطبيعة بعدها درسا بالغ الاهمية في الهندسة الزراعية...وذلك في غياب للمهندسين والمتخصصين...فقد وجدوا ان في بعض الموت حياة...وان القص والتقنيب رأس سنام الزراعة ...وان التضحية ببعض الاغصان مهم لتظل الشجرة قوية يانعة وقادرة على الاستمرار وانتاج الثمار...فصار الناس يقدمون بجرأة وحزم على تشذيب الشجر بصورة دورية ومستمرة، وعلى رأسها اشجار الزيتون، والحمضيات واللوزيات...ولا يخشون هلاكها ...بل يستبشرون باستفحال نموها واستشراء قوتها، وغزارة ثمرها...

وللمفارقة وجد بعض الناس في هجوم الجراد فرصة للصيد...واذكر ان عجوزا من القرية واسمها حليمية البرغوثي، وهذا الاسم يذكرني بالقمل والبراغيث، والتي لا بد ان نتحدث عنها أيضا فقد كانت تشاركنا السكن، بل بعضها كانت تسكن فينا وفي رؤوسنا، وكانت تلك العجوز تقنص الجرادات، كانت تقنصها، وتسقطها بكل وسيلة ممكنة، وتمسك بها لتجعلها وجبه دسمة لها وربما لمن حولها...تعوضها عن النقص في اللحوم في تلك الأيام المجدبة...والتي لا بد ان هجوم الجرادات زادها بعد ذلك جدبا...ولهذه العجوز قصة مرعبة في محفورة في الذاكرة تجعلني احيانا اوقع اللوم عليها في موت امي...وسوف ارويها لكم حين يكون الوقت مناسبا للحديث عما ارتكبته من فعل خرافي شنيع من ضمن واحدة من طقوس شعوذة وخرافة جنونية يبدو انها كانت سائدة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي...ذلك الفعل الذي اظن انه ساهم بشكل مباشر او غير مباشر في هلاك امي قبل الاون...

ولكن كثير من الناس اختلفوا مع من اكل الجرادات وامتنعوا عن اكلها إما قرفا من شكلها، او لأنهم ظنوا بحرمة اكلها، او عدم لياقته على الاقل...فهي حشرة غريبة، وغير مألوفة في بلادنا، ومن القوارض، ولو انه يوجد في فلسطين من جنسها أصناف عديدة لكنها أصغر حجما منها، واقل شراسة، وتوجد بأعداد قليلة جدا لا تقارن بأعداد ذلك الصنف المخيف من الحشرات القارضة، التي تتكاثر في الصحاري الحارة، وتهاجر الي الأراضي الخضراء في مواسم معينة طمعا في خيراتها فتجعلها بعد هجماتها الكاسحة اثرا بعد عين...

كما ولا تتسبب الأصناف المحلية، وتسمى الجنادب بكل ذلك الأذى، وهذه الجنادب تتواجد في الريف الفلسطيني كواحدة من تنوع حواني نباتي طبيعي عجيب، وتراها تقفز من مكان الى اخر، ولكنها من دون اجنحة كي تطير بها كما تفعل الجرادات...وعليه فهي كائنات تختلف كثيرا عن الجراد في تكاثرها وفي اذاها وطباعها...حتى وان كانت تشبهها كثيرا في الشكل...وربما جاءت في الأصل من جد واحد...

وما لبثت تلك الجرادات ان اختفت من ارض فلسطين بعد ان اهلكت الزرع... ودمرت المحاصيل...صحيح ان بعضها قتل لكن الكثير منها شد الرحال وهاجر من جديد ليهاجم الحياة الخضراء في بلاد أخرى...وربما عاد بعضها الى مسقط راسه في تلك الصحاري الجرداء، التي تتخذ الجرادات منها بيوتا، ودفيئات لوضع البيوض، وفقسه، والتكاثر بأعداد هائلة مستفيدة بذلك من دفء الصحاري... لتنبعث جرادات لا تعد ولا تحصى من أسفل الرمال في دورة حياة جديدة...

ولولا ان الدول تعاونت فيما بينها وتمكنت حديثا وفيما بعد من مكافحة تلك الافة المدمرة وابادت تلك الحشرة في عقر دارها حيث حددت أماكن تكاثرها، ودمرت بيوضها، ثم لاحقتها في كل مكان لتقضى على من كتبت له النجاة منها بالسموم، والمبيدات، فلربما أصبحت تلك الحشرة مع الأيام سيدة الكرة الأرضية، وحاكمتها المطلقة ونافست في ذلك البعوضات مصاصات الدماء...
...

يتبع ...