عرض مشاركة واحدة
قديم 02-15-2016, 02:33 PM
المشاركة 33
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...سنوات من الميلاد الي ما قبل المدرسة:


لم، ولا تكاد تنتهي بعد تلك الاحداث شبه الأسطورية التي تسرد قصة الحشرات السامة والمخيفة في الريف الفلسطيني، فما يزال هناك كائن مرعب أخر، ولو انه اقل اذى، ومن طباعه للمفارقة ما ينفع الانسان...بل ويستبشر بوجوده ويتفاءل...لكن بعض اصنافه سام مميت بكل تأكيد...

ذلك هو العنكبوت، والذي يأتي في عدة احجام واشكال، واصناف، وحتى ألوان ...

فالعنكبوت الأبيض مفترس النحل ما هو الا واحد من بين ملايين العناكب التي تستوطن في الريف الفلسطيني، واظن بحق ان عددها يفوق عدد البشر، والحجر، والشجر مجتمعه بمرات، ومرات او هكذا يبدو عليه الامر...فلا تكاد تقلب حجرا الا وجدت اسفله عنكبوتا، او اسرة عناكب...وفي كل جحر، وزاوية، وركن، وحتى على الشجر، وفي داخل البيوت، وخارجها...بعضها صغير جدا لا يكاد يُرى بالعين المجردة، لكن بعضها يكبر حجمه ليصبح بحجم قبضة اليد... واظن ان هذا الصنف يوجد في الكهوف والمغارات في الأراضي الوعرة والجبلية البعيدة عن البيوت...على الرغم ان الكثير من أصناف العنكبوت بيتوتية مثل النحلة الصفراء (الصملة) وتعيش على مسافة قريبة من الناس..

ومنها دقيق الجسم طويل الارجل خفيف الوزن، ولهذا الصنف اسم دلع محلي منسوب الي بيوتها وهو(الشبكة) ويعتقد الناس على الصعيد الشعبي ان هذا الصنف فال خير، فاذا صدف وان وجد شخص على ثيابه واحدة من هذا الصنف تفاءل بقرب استلامه لهندام جديد...وترتبط العنكبوته الشبكة في الذاكرة الشعبية بدورها في انقاذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه إذ كانا في الغار حيث بنت بيتها الواهن على باب الغار فساهمت في عمى ابصار الكفار...حتى ان البعض يُحرم قتل هذا الصنف من العناكب، ويحاول ان لا يتسبب لها بأذى فلا يهدم بيوتها الواهنة ابدا...

وأحيانا ترى بعض العناكب وكأنها معلقه بين السماء والارض، او بين جدارين او شجرتين ، وتعرف بوجودها من خلال خيوطها الواهنة، الواهية التي ترتطم في الوجه دون ان تراها، فهي شفافة، ودقيقة للغاية، فتعرف ان عنكبوتا مر من هناك، فهي تستخدم الخيوط في الهبوط والصعود والحركة في كل الاتجاهات، وكأن العالم غابتها وهي طرزانها...

كما انها تنصب اشركاها وتستهدف بها صيدها...وبعض هذا الصيد ان لم يكن كله يجعلها للمفارقة نافعة جدا للإنسان وخادمة له، فالعناكب مسلطة على مصاصات الدماء...اي البعوض... والتي لو ظلت تتكاثر دون ان يكون في البيئة ما يهلكها لربما تمكنت من امتصاص دماء البشر كلهم اجمعون، ذلك إذا لم تقتلهم أصلا بما تحمله، وتنقله من امراض...تلك الكائنات الصغيرة في حجمها لكنها الأشد اذى وفتكا للإنسان حتما، ويكفي انها تختصر الطريق وتأتي الي جسد الانسان مباشرة، فتتغذى بفضل خرطومها ذي القوة السحرية الفتاكة على دمه...والذي يشقى الانسان من اجل ان يحافظ على نسبته في جسده...حتى انها تقوم على تخدير مكان الحفر، ولا يكاد يشعر الانسان بوجودها الا بعد ان تنجز مهمتها في امتصاص حاجتها من دمه...وقد صدق الشاعر في وصف البعوضة اذ قال "لا تحقرن صغيرا في مخاصمة...ان البعوضة تدمي مقلة الأسد"...والافضل يعود في انتصار الانسان على البعوض وفي جزء كبير منه الى العناكب...التي تشن عليها حرب ابادة جماعية...مستخدمة في ذلك اشراك بسيطة لكنها شديدة الفعالية فما ان ترتطم البعوضة في شرك العنكبوت حتى تعلق هناك وتصبح فريسة لا خلاص لها...مصيرها الموت المحتم...

وتتعدد ألوان العناكب في الريف الفلسطيني...فمنها الأسود، والبني، والاحمر، والمزركش...اضافة الي الابيض آكل نحلات العسل ...ولا اعرف صراحة إذا كان اللون يحدد درجة سمية هذه الكائنات أيضا كما هو الحال في العقارب... والتي يعتبر اللون الأصفر فيها أشدها سمية وفتكا...

وكنت في طفولتي أجد الناس تُهون من خطر العناكب ولا تكاد تعير وجودها أهمية...ولا تحاربها كما تحارب العقارب...بل تتغاضى عنها وكأنها غير موجودة...ربما لما تقدمه هذه العناكب من خدمات جليلة معروفة للإنسان...فحينما يقترب الانسان من بيت العنكبوت يجده وقد علق فيه اعداد هائلة من البعوض مصاصات الدماء... وهذه خدمة جليلة تقدمها العناكب ندر مثيلها...

لكن الصورة تغيرت في يوم من الأيام وكان ذلك في نهاية الستينات من القرن الماضي...حيث مات فجأة أحد شباب البلدة الاشداء...وكان جنديا يخدم في الجيش الأردني، وقد تناها الى الناس خبر انه مات بسم لدغة عنكبوت اسود، قاتل، صغير، لا يكاد يبين...من يومها اظن ان نظرة الناس في قريتنا الى العناكب قد تغيرت بصورة جذرية، وصارخة، ولو على سبيل الحذر والاحتياط...وصار العنكبوت منبوذ مثله مثل العقرب...وصارت الناس في قريتنا تشن عليها حربا لا تقل ضراوة من الحرب على العقارب...

كما ولا اعرف صراحة إذا كان العنكبوت الأبيض، هو ابيض في الأصل؟! ام ان لديه خاصية التحول في اللون بحسب المكان الذي يتواجد فيه، كما تفعل الحرباء التي توجد بكثرة في فلسطين أيضا، وهي كائن أقرب الى الحرذون آكل النحل...وهذه الحرباء مسالمة في طبعها لكنها تسبب رعبا لا يقل في شدته عن رعب العناكب بل اشد ربما، والمشكلة فيها انها تأخذ لون المحيط الذي تتواجد فيه وتتلون به...وغالبا ما يتفاجأ الانسان بها، وبوجودها أصلا...

فما ان يمد يده لقطف حبات الكرز او التوت مثلا حتى يجد نفسه على وشك ان يرتطم بها ويمسك بواحدة من هذه الكائنات المتسلقة للأشجار، وتأكل أوراق الشجر والثمر...وربما ان من بعض طباعها اكل بعض الكائنات الطائرة التي تقترب منها مثل الذباب والبعوض...ولطالما تسببت الحرباء لي بالخوف الشديد في طفولتي بل وعلى مدى حياتي فذلك ما حصل معي قبل أيام وتسبب لي برعب شديد...حينما وجدتها فجأة تتحرك بين أوراق شجرة الكرز.. وكانت تسعى نحو يدي...فصحت من شدة الخوف ودون شعور يا اماه...

صحيح ان الحرباء غير مؤذية لكن قدرتها على التلون إضافة الى ذلك الشيء البراق في عيونها الواسعة...وقدرتها الدائمة على التخفي ومفاجئة ضحيتها يجعلها مصدرا شديدا للرعب والخوف...لا يقل في حدته عن باقي الزاحف خاصة الافعى...

وربما ان جزءا من ذلك الخوف ناتج عن كونها من صنف الزواحف، وما يرتبط بها من خوف...فحتى يدرك الدماغ ان هذا الكائن ليس افعى مميته وانما حرباء مسالمة بقدرة اعجازية عجيبة وفورية على التلون...فهو يحتاج الى بعض ثواني، لكن تلك الثواني، تكون كافية لأصابه الانسان بالرعب والخوف الشديد...

وربما انه لا يوجد كائن له القدرة على مفاجئة الانسان والتسبب له بالرعب مثل الحرباء الا السلحفاة... وسبب الرعب الناتج عنها ربما يعود على شكل راسها الذي يشبه كثيرا رأس الافعى... لكن السلاحف كائنات مسالمة لا تؤذي بشرا ولا حجرا... وكثيرا من الناس يقتنيها كحيوان اليف او على الاقل يسمح لها بالتواجد في مكان قريب ليتسلى بها الاطفال...وكثيرا ما يتعثر بها الناس وهي تزحف بصبر وبطء شديد لكنها تصل دائما الى مبتغاها على ما يبدو...وهي تتخفى بلون قوقعتها الصلبة... واذا ماتت احتفظوا بقوقعتها التي يعتقد بعض الناس انها جالبة للخير مثل الشبكة العنكبوته...

اما الكائن الاخر المخيف في شكله لكنه لا يتسبب بأي أذى للانسان فهو كائن شبيه بالحية، وبعضها يصل طوله الى نفس طول الحية... وما يميز هذا الكائن عن الحية اضافة الى انه لا يلدغ وليس له انياب وغير سام ان له اربع واربعون رجلا، ولذلك تسمى اثناه على الاقل بأم اربعة واربعون...وهو لا شك يخيف من يتفاجأ به ويظل يرتجف من يصطدم به حتى يستوعب دماغه انه بصدد كائن آخر عجيب جعل الله له كل تلك الارجل ليسير عليها لكنه يسير بتثاقل وببطء شديد، بينما تزحف الحية وتسعى على بطنها، وتتلوى بحركة لولبية رشيقة ومرنة فتقطع في ثوان مسافات طويلة وشاسعة لا تكاد تصدقها العين...



يتبع...سنوات الطفولة المبكرة:::