عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
5

المشاهدات
4246
 
زكية نجم
كـاتبـة وقاصّـة سعـوديـة

زكية نجم is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
181

+التقييم
0.04

تاريخ التسجيل
May 2010

الاقامة

رقم العضوية
9241
03-02-2011, 12:02 PM
المشاركة 1
03-02-2011, 12:02 PM
المشاركة 1
افتراضي الصمت والأسئلة الناتئة
الصمت والأسئلة الناتئة

" قصة قصيرة "

المجموعة القصصية

الآخرون ما زالوا يمرّون




يوم يمر: ...



هاماتٌ طويلةُ ترتفع فوق رأسي.. تنحني تارةً ثم تعود إلى الارتفاع..
الشفاه تتحرك.. ولكن لا صوت يصل إلى أذني ،
بعض الأيدي تمسكُ بأنابيب رفيعة بلون الماء بداياتها مزروعة بجسدي
ونهاياتها تمتد وتمتد..
لا أدرك إلى أين..
ضجيجٌ يعلو في رأسي.. يعبث بالمعالم الملامسة لحدود رؤيتي..
يجعل الهامات تبدو أكثر استطالة ورعباً.. وعيي عاجز..
ولكن ثمة أسئلة مسحوقة تدب تحت امتداد جسدي الساكن.


يوم آخر: ..



يتحدثون طويلاً ، أطرافهم هادئة ساكنة ،
وعيي يستقبل بعض الهمهمات لكن ذهولاً ما يجهض كل محاولاتي للإصغاء ،
يدٌ تمتد نحوي.. تقبض على طرف ملعقة..
في مقدمتها سائل شديد اللزوجة.. لونه يشبه بيوت الطين في قريتي..
عندما ابتلعه يعتري حلقي جفاف شديد..
اليوم كان حلقي جافاً قبل أن أبتلعه.. إنهم يجهلون وجعي الآخر..
وجع لا ينطلق.. لا تترجمه الصرخات..
وجع لا يحتاج منهم هذا الدواء!".


يوم ثالث: ...



جسدي يطفو فوق صفحاتهم الشفافة السوداء هيكلاً موسوماً بثقوب غائرة،
صامتة مثلي،
لا فرق بيننا سوى أنها بين حين وآخر تتفجر بسيل من الآلام يحيل سكوتي إلى عاصفة من الضجيج.
أتنبه إلى وجود عينين تقتحمان سكوني..
وجه سحنته تذكرني لفح الشمس لبيوت الطين العتيقة بقريتي لكن حديثه لا يشبه أبداً حديث القرويين..
آه يا قرية ليت لهذه الجدران بعضاً من دفئك .
أسنانه تتضح.. " هل تستطيعين إخبارنا ماذا حدث ؟
" انتظاره يطول.. أرقبه..
ماذا ينتظر ؟
لماذا يسألني ؟
ألا يعلم أن صوتي لا يصل لأبعد من ذرّات الهواء السابحة قرب فمي ؟
يكبر سؤالي .. لكنه أيضاً لا يلامس الهواء.. يستأنف هو حديثه..
أخبرينا إذاً لماذا ؟
لا بد أنك تضمرين سبباً لما حدث !"
شحنة قوية من الرفض تستعر بأعماقي، صوتي يحاول الخروج من شرنقة الخرس..
أنفاسي تحاول القفز خارج رئتي بحرف ما ،
زمنية الدقائق تتصاعد.. تستفز سكوني.. أطرافي ترتجف..
أفتح فمي ، يوشك حرف ما أن يكتمل..
لكنه يموت قبل أن يولد ، صور الأشياء من حولي تتهاوي ..
أغفو على سؤال ناتيء :
لماذا يغتالون يومي قبل أن ينتهي؟".


يوم رابع: ...



" سأطلق عليك اسم ساهرة .. لأن ليلك لا يعرف السكون
ربما تنطقين .. تقولين لنا من أنت ؟
ما اسمك الحقيقي؟"
غريبون.. يمعنون في الأسئلة.. يسكبونها قطرةً قطرة ..
يبحثون عن جواب.. يريدونني أن أخرج من خيمة صمتي بكلمة ما..
أطالع أقلامهم.. صفحاتهم .. لا تزال متحفزة ، لا تزال بيضاء..
" حاولي مساعدتنا كي نساعدك.. "
مشاعر الخواء تحتويني..
كيف سأنطق وكلماتي مشنوقة في سجن حنجرتي..
ليتهم سألوا ملامحي عنه فهي تعرفه حد الالتصاق .
وميض ٌ غريبٌ يخترق مساحة ذاكرتي المقفرة ..
يدفعني قسراً نحو تلك اللحظة المريعة المغمورة بالسواد ..
كنت أشعر حينها أنني أهوي لأبعد من التراب الساكن تحت قدميّ..
أغادر جسدي المثقوب باتجاه الرئة.. أغادر الظلام الممتد بلا حدود..
ماذا حدث بعد ذلك .. سؤال لم أعش تفاصيل جوابه..
علامات الاستفهام تتعملق في أفقي الصامت..
" كيف جئت إلى هنا ؟ .. وممن ؟
وأين هو ذلك الوجه القميء الذي يثير مكامن فزعي
حالما يطفو على صفحة فكري فاغراً فاه كالذئاب السود ؟
أسئلة ليتها تكف عن الدوران والصراخ.


يوم خامس: ...


" آه يا وجهك الذي أحب أين أنتِ ؟..
يحتويني الانكسار قبل أن تحتوي ملامحكِ الدافئة مكامن ألمي..
وجهكِ أمي حكاية طويلة.. سيدها الشقاء..
كل حرف فيها قتلٌ للمشاعر.. أطالعكِ بين ثقوب نافذة الخشب حينما يتسامر نساء القرية ..
سيدة منعمةٌ أنتِ.. بكل العيون إلا عيني يا أمي..
نقابكِ الأحمر المرصع بحبات اللؤلؤ مسدلٌ على فمكِ..
كأنه يلجم زفرات الهم الصامت بالأعماق ،
رداؤك الأسود الجميل الذي طالما تمنته عيون القرويات.. يحوي جسداً أدمن الجلد والركل..
أدمن السوط والعصا وأعقاب السجائر..
كنت أخافه ذلك المأفون في طفولتي..
أرى بوجهه إعصاراً من الجبروت يعصف بأركان بيتنا..
حتى الجدران تصبح قميئة باردة حينما يبدأ صوته في التحول إلى زئير..
وحينما كبرتُ .. كبرتْ كل المناظر المفزعة من حولي..
أصبحت حقيقة تصفعني صباح مساء .. وذات يوم امتد سُعار الامتلاك لديه إلي صِباي..
أراد أن يبيعه ليد معروقة لا تتقن بصماتها سوى أبجدية المال..
" ستتزوجينه شئتِ أم أبيتِ يا مريم.."
كان رفضي عنيفاً لأني لم أرضَ أن تحتويني دائرة عذاب أخرى كالتي تختنق بها أمي..
كان صوتي يزداد حدة يقترب حدّ التوحش كلما زادت وحشية الآلام بجسدي..
ولم يكن بوسع ذراعي أمي الناحلتين أن تدفعا عني سيل الصفحات..
حتى قالها يوماً " إما ذاك الرجل يا مريم أو حدّ السكين !"
وهدأت عاصفة الكلام ككل يوم.. ككل ليلة.. ساد الهدوء.. لكني لم أصدق أنه كان يقصدها..
أنه سيذبح عمراً ما تجاوز السادسة عشرة.
من أحشاء الظلام انسلّت سكينٌ سوداء..
أحسستُ حافتها تصعد وتهبط في سعير محموم داخل صدري..
لم تعرف حنجرتي طريقاً الصراخ.. بحثت في عمق الظلام عن كفّ أمي..
عن صوتها كي يصرخ.. لم يكن المكان بيتنا.. لم تكن الشوارع شوارعنا..
كل شيء كان بعيداً مغموراً في السواد..
استرجع لحظة كان يدي خلالها تقبض على ذرات الرمل المتجمعة حول دمي المنسكب وتحاول الارتفاع نحو الأعلى..
أتذكر دعاءً كانت أمي تردده فتهدأ آلامها. تحاول شفتاي أن تلفظانه..
" يا رب مريم أغثني".


يوم أخير:...



أحد الوجوه المعنونة بالسؤال يخترق سكوني فجأة..
" ساهرة.. لسنا بحاجة بعد لأن نخاطبك بهذا الاسم.. اليوم هو يوم صمتك الأخير يا مريم!"..
" مريم" فمن أفواههم لها رائحة الموت..
تشعل في أطرافي حرارة البلل الأحمر.. " هناك من أتى لرؤيتك.. من تتوقعين ؟
" باغتني السؤال.. وقع خطوات تقترب.. صداها محفور في عمق فزعي..
أقرؤه بين اختلاط الخطى.. هو ذاته الحذاء القاسي..
هي ذاتها الأصابع المتكلَّسة تصفع بصري المسدل على الأرض الممتدة..
حمم الرفض تتصاعد.. تتدافع من فوهة الصمت الرابض كالجبل الأشم فوق أضلعي..
تحرق ملامحي بسعيرها المحموم.. ينتابني اللهاث..
" أخرج من بئرك المدفون يا صوت مريم.. قل لهم أخرجوا أوراقكم..
صفحاتكم البيضاء ، أقلامكم المترعة حبراً وأسئلة..
ها قد جاء الجواب ولكن بلا سؤال "
نظراتي تتسلق قامته.. يمتطيها ذلٌ وانكسار.. يريعني ما أرى..
جسده غارق في لفافات بيضاء ثقيلة. اللون الأحمر يبصق رذاذه المريع في عمق البياض.
كأن أجزاء مثقوبة بجسده تنبض دماءً إلى الخارج..
يصعد بصري نحو وجهه.. متحجرة ملامحه..
لا أستطيع قراءتها.. ربما لأن بصري لم يجرؤ يوماً أن يعلو حتى وجهه.
سحابةٌ من القتامة تغزو سحنته.. يحاول أن يقول شيئاً ..
تظل نظراتي مشدودة نحوه..
" مريم"
خرجتْ من شفتيه هادئة دون زئير .. حممٌ الرفض الراكضة في ملامحي تتكلّس..
يحتويها الذهول ، فجأة.. تنهار قامته.. تطوقه الهامات الطويلة..
تحجز بصري عن رؤية وجهه.. يزرعون في جسده أنابيب رفيعة كثيرة لا أعرف إلى أين تمتد..
أطرافهم تتحرك في تحفز.. أصواتهم تختلط..
أغمض عيني.. تنكمش أطرافي تحت الغطاء ..
أغفو من جديد وبأعماقي تتقاطر آلاف من الأسئلة الناتئة.