عرض مشاركة واحدة
قديم 01-17-2011, 12:09 AM
المشاركة 11
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي



الكاتب جون ليمان، الذي كان يعمل في تلك الآونة لدى آل وولف في دار نشر هوجارث، كان رآها قبل أسابيع من موتها وتلقّى أحدَ آخر رسائلها. كان قد طُلب منه أن يقرأ البروفة النهائية من "بين فصول العرض" وكانت في تلك الآونة موقنةً أن هذا العمل لا يساوي شيئاً. في هذا الصدد يتذكر ليمان حالتها العقلية في مارس 1941 قائلاً: "أصبحتُ مدركاً تماماً أن فرجينيا بدت متوترةً وعصبيةً للغاية وتشارف الانهيار، كانت يداها ترتعشان بين الحين والآخر، بالرغم من أن حديثها ظلَّ رصينا وواضحا على نحو تام. "كانت قد أعطتني الرواية بثقة غير أنها فجأة بدت متشككة وقالت إنها رديئةٌ جداً، لا يمكن أن تُطبع ولا تستحق سوى التمزيق. وبكل رقّة ولكن على نحوٍ حاسم خالفها ليونارد رأيها."


قي الأيام التالية شرع ليمان في قراءة المخطوطة: "أول ما لفت انتباهي كان طريقة الكتابة – خط يدها – كانت الحروف غير منمقة ولا ينتظمها السطر، وهو مخالف لكل ما سبق من المخطوطات التي قرأتها لها من قبل. كلُّ صفحة كانت زاخرةً بالشطب والتصليحات، فطرأ على بالي أن اليد التي كتبت هذا الكلام قد مسّها تيار كهربائي عالي الفولت."


بعد هذا وصله خطابٌ من فرجينيا تخبره أن الكتابَ سخيفٌ ومبتذلٌ وتافه، ولا ينبغي أن يُطبع، وكانت الرسالة مغلّفة برسالة أخرى لليونارد يقول فيها أنها على تخوم الانهيار. كلا الرسالتيْن كتبتا قبل يوم واحد من الانتحار. يقول ليمان:" حين وصلتني الرسالتان كان الوقت قد فات، فقد كنت موقناً من تيار الحزن الذي يسري بقوة تحت الكلمات في روايتها الأخيرة "بين فصول العرض"، الاكتئاب الحاد، الخوف الهائل، برغم الانطباع الأساسي والظاهري في الرواية، الذي كان أشبه بضحكةٍ مدويّة وثورة."


الشاهدُ الآخر كان طبيبتها الخاصة "أوكتافيا ويلبرفورس" وهي من سلالة "وليم ويلبرفورس". وكانت في تلك الآونة تدير مزرعةً لمنتجات الألبان في منطقة قريبة في الجوار، وكانت تمدُّ آل وولف بمؤنٍ من الزبد والقشدة والألبان في تلك الشهور العجاف بسبب الحرب. كانت تزور منزل فرجينيا الريفيّ بانتظام منذ يناير 1941، لكن الزيارة الرسمية بصفتها المهنيّة كطبيبة لم تبدأ إلا منذ 17 مارس. قبل ذلك بثلاث أيام كانت فرجينيا تناقش إحدى قصصها القصيرة مع د. أوكتافيا وقالت لها إن تلك القصة قد تركتها محبطةً ويائسةً إلى أقصى العمق.


د. ويلبرفورس عملت بعد ذلك كطبيب منتدب في مصحّة "جرايلينج ويل"، لكن معلوماتها في الطب النفسي كانت، مثل كلِّ الأطباء آنذاك، أوليّة برغم أنها قرأت كثيراً في فرويد. وبناءً على طلب ليونارد فحصتِ الطبيبةُ فرجينيا يوم 27 مارس، أي في اليوم السابق على انتحارها. كانت الطبيبة مريضة بالأنفلونزا وغادرت فراشها خصيصاً من أجل هذا الفحص. وبادرتها فرجينيا بأن زيارتها لم تكن ضرورية على الإطلاق، ولم تجب على أسئلتها بصدق. كانت عنيدةً ومقاومةً للغاية وطلبت وعداً بأنها لن تُجبر على الراحة في الفراش – وهو الشرط الأول لدخول المصحّات الرسمية – قبل أن تخضع للاختبار النفسي.


بدا من رسائل أوكتافيا التالية أنها بوغتت وصُدمت من حادثة الانتحار. وهاتفت طبيباً صديقاً لهما كي تتأكد من الواقعة. في 28 مارس كتبت: "أنا مسكونةٌ بشبحِ فرجينيا ومسكونةٌ بفشلي في مساعدتها". وزارت ليونارد الذي أخبرها أنه حين تزوجها لم يكن على علم بطبيعة مرضها. وبأن من طبيعة هذا المرض المعاودة كل فترة بعد الشفاء، وأخبرها كذلك عن كل الآراء التي قيلت لهم خلال فترة زواجهما من قِبَل الأطباء والمحللين. وفي يوم 29 مارس زارته ثانيةً، وأخبرها ليونارد أن فرجينيا بدت سعيدةً ومختلفةً جداً، بل مرحة أيضاً بعد زيارتها الأخيرة لهما. على إنها كانت قبل ذلك محبطةً طوال الوقت. ليس فقط في فترة العشرة أيام التي كثّف فيها ليونارد ملاحظته عليها. جاء في يومياتها ليوم 8 مارس: "أعمل علامةً على جملة "هنري جيمس": [لا تتوقفْ عن المراقبة.]، فأراقبُ العمرَ الذي يتقدم. أراقبُ الجشعَ. أراقبُ نوباتِ الكآبةِ والقنوطِ التي تنتابني، بهذه الوسيلة سوف يمكنني توظيفُ المراقبة."


بدأ ليونارد يشدد الاهتمامَ بها منذ 17 من مارس. وكانت بارعةً في المداراة وإخفاء المرض. حتى بعد هذا التاريخ كانت تكتب خطاباتٍ مبتهجةً ومتماسكةً وواضحةً لعدد من أصدقائها. ربما كانت تروم إخفاءَ حالة الاكتئاب والأفكار الانتحارية عن زوجها وطبيبتها.


بعض النقاد والمحللين عوّلوا كثيرا على الحرب وحال التهديد والخوف من الغزو كأسباب مباشرة لانتحارِها. ليونارد و د.أوكتافيا ويلبرفورس فكرّا –بعد موتها مباشرةً– أن الحرب الثانية ربما أعادت إلى فرجينيا ذكرى مرضها أثناء الحرب العالمية الأولى. وأن الأحداث الجارية قد تكون حوّلت عقلها وأفكارها صوب الموت، لكن ليس صوب الانتحار.


قبل موتها بستة أشهر فقط، أي في 2 أكتوبر 1940، كتبت فرجينيا وولف بنفسها افتتاحية جريدتها، أثناء الغارات الجوية، متخيلةً كيف يمكن للمرء أن يموتَ في إحداها ببساطة، وقالت: "سوف أفكر –أوه– كلا أحتاج عشر سنوات أخرى – ليس هذه المرة....."


سجلّت فرجينيا آراءها حول عملية الانتحار، بينما كانت في الثلاثينات من عمرها وقد كانت في حال صحية جيدة آنذاك، خلال إحدى رسائلها مع المؤلفة الموسيقية "إيثيل سميث"، وكانت واحدة من صديقاتها القليلات اللواتي أسرّت لهن فرجينيا بمرضها القديم. فكتبت في 30 أكتوبر عام 1930: "... بالمناسبة، ما هي الحُجج التي يمكن أن تُقام ضد الانتحار؟ هل تعلمين ما هي "مشنقة فليبيرتي" التي أعاني منها؟ حسناً: يباغتني، مع صفق الرعد، فجأة شعورٌ حادٌ بعدم الجدوى التام لحياتي. هذا شيء يشبه الركض برأسك صوب حائط في نهاية حارة مسدودة. والآن ما هو التصرف حيال هذا الشعور؟ أليس من الأفضل إنهاؤه؟ لستُ بحاجة لأن أقول إنْ ليس لدي أية نوايا نحو أية خطوة في هذا الصدد: غير أني ببساطة أودُّ أن أعرف ما هي الحجج ضد إنهاء الحياة؟"


بعدها بستة أشهر في 29 من مارس 1931، عادت فرجينيا إلى الموضوع ثانيةً: "لماذا شعرتُ بالانفعال بعد المحفل؟ سيكون أمراً مثيراً أن تعتمدي على بصيرتِك الداخلية لتري إلى أي حدٍّ يمكنكِ الكتابة عن حالات العقل المختلفة التي تقودكِ إلى أن تقولي لليونارد حين تعودين إلى البيت: "لو لم تكن هناك، لكنتُ قتلتُ نفسي! "آهٍ، كم أعاني!."


بعدها بعدة أيام سمعت "بياتريس ويب" تتحدث عن الانتحار، وفي 8 أبريل كتبت لها: "وددتُ أن أخبرك، لكنني كنت خجلةً جداً، كم كنتُ سعيدة بآرائك حول مشروعية البحث عن تبريراتٍ ومسوغات للانتحار. وبما أنني أقدمت على المحاولة بالفعل أقول إن من أهم الدوافع، كما فكرت، ألا أكون عبئاً على زوجي، غير أن الاتهام التقليدي بالجبن والخطيئة دائما ما يحتّل الصدارة في آراء الناس."



كان الانتحار هو الحديث دائم الحضور لدى وولف، وكان بوسعها تناوله بهدوء كمادة حديث في أوقات صحتّها العقلية، رغم يقينها أن محاولاتِها السابقة كان لها ما يبررها وكانت من قبيل الإيثار والغيرية. ولأن فترات صباها ومراهقتها كانت متخمةً بحوادث موت الأبوين والأشقاء، فقد ظل الموت حاضراً أمامها طيلةَ حياتها. وكان حضور الموتى لديها على نفس قوة حضور الأحياء، إلى درجة أن إحساسَها بالواقع أحياناً ما كان يتشوّش بقوة حضور وحيوية الماضي.


من خلال كل الاعتبارات السالفة، يمكن أن نستخلصَ تشخيصاً دقيقاً لمرضها الأخير. من خلال رسالتها الأخيرة الذي تركتها قبيل انتحارها. أكد المحللون النفسيون في تقاريرهم أن التشخيص هو "حالة اكتئاب حاد". هي تقول إنها لم تكن مكتئبةً وحسب، بل ماضية نحو الجنون ثانيةً، وأظهرت لوناً من جلد الذات نتيجة إيمانها أنها تفسد حياة زوجها. تملّكها اليأسُ من أن تستطيع مواجهة هجمة المرض الأخيرة ولذا آمنت أن الحل الوحيد يكمن في إنهاء الحياة. جاء في تقرير ليمان أن تعليقها حول روايتها الأخيرة لم يكن مفهوماً، سيما وقد كانت قبل شهور فخورة وفرِحةً بها. وكانت محاولات إقناعها بجمال الرواية أو بإمكانية الشفاء تبوء بالفشل ولا طائل من ورائها. رفضت فرجينيا في البداية أن تُطلعَ الطبيبة، حين فحصتها في اليوم السابق للحادثة، على الأعراض التي تنتابها، ولم تخبرها أن ثمة خللا في الأمر. وبعدها أكد الأطباء أن الأعراض جميعها تتطابق مع "الاكتئاب الحاد".


حين كتبت فرجينيا أنها ذاهبة إلى الجنون "ثانية"، كانت صادقة وتكلمت من خلال خبرتها المزمنة مع الانهيار العقلي. حدث لها الانهيار الأول في عمر الثالثة عشر، والثاني في الثانية والعشرين من عمرها، ثم الثامنة والعشرين، ثم الثلاثين من عمرها. ثم أمضت الفترة بين الواحد والثلاثين والثالثة والثلاثين (1913-1933) كاملة، يتناوبها المرض لفترات طويلة ومتواترة حتى خشي الأطباء من إطباق الجنون التام والدائم عليها. كانت هذه الضربات حادة، وكانت تتطلب أسابيعَ طويلةً من العلاج الطبيّ والخلود للراحةِ في الفراش. وخلال فترة حياتها التالية كان مزاجها متقلبًا معظم الوقت. فسَّرَ انتحارُها تلك السمةَ التي صبغت أعمالها من الغموض والتركيب. وأعيد قراءة كتاباتها من جديد على ضوء انتحارها كمحاولةِ استكشافٍ وتحليلٍ للمأساة التي عاشتها وولف.



* * *


يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)