عرض مشاركة واحدة
قديم 10-07-2010, 10:53 AM
المشاركة 9
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
اليومية الثالثة

سؤالك خاطئ ؟!


رحم الله الإمام ..
كان من أنبغ ما تعلمت منه كيفية السؤال وأهميته لطالب العلم .. فالذى يتجاهله الكثيرون أن طالب العلم إذا هَم ببدء طريقه فلن يكون هذا بالجلوس فى حلقة درس أو مطالعة كتاب بل يلزم له أولا أن يتخذ المؤهلات الكافية ليكتسب فقط صفة تلميذ وهو الأمر الذى هان الآن فهان العلم على الناس كما هانت عليهم العلماء
وكمثال يحضرنى يوضح المعنى ما قاله المصارع الشهير ممدوح فرج عندما سألوه كيف خرج مصارعا فحكى تجربته فى هذا المجال الرياضي العنيف بادئا بقوله " إننى قضيت عدة سنوات مضنية .. فقط لأتعلم كيفية السقوط السليم على الحلبة "
ومن أوليات المبادئ التى يجب على طالب العلم أن تتوافر فيه كيفية إلقاء السؤال وانتقاء موضعه بدقة لأنه من الحماقة أن يكثر سؤالك فيما تستطيع أن تدركه بشيئ من التركيز وطالب العلم الحقيقي ليس المعيار فيه كثرة سؤاله بل المعيار الحقيقي الجدية مع الكثرة وهى التى قصدها صاحب القول المأثور " بلغت العلم بلسان سؤول وقلب عقول "
ودونما شك أن انتقاء موضع السؤال بعد التفكير فيه يكفل تمهيد الطريق أمام اكتساب العلم من بابه الذهبي فيخرج الطالب من حلبته عالما .. أما من دخل باب العلم دونما إجادة لتلك المزية فسيخرج كالحمار يحمل أسفارا ..
ولست أعنى بالعلم هنا المؤهلات الجامعية أو غيرها
بل أعنى العلم فى المطلق لأن الجامعات الآن بسائر بلاد العرب أصبحت طريقا يدخل منه الأميون ليخرجوا جهلاء
والفارق واضح طبعا فالأمية هى عدم المعرفة أما الجهل فليس كما يظنه البعض بمعنى عدم العلم بل هو المعرفة الخاطئة ..
والمقصود بإجادة فن السؤال ألا تنفرج شفتاك بالسؤال فى أمر ــ بالذات لمعلمك ــ ما لم تكن قد بذلت جهدك للوصول إلى إجابته وهذا يجلب لطالب العلم فائدتين عظيمتين ..
أولهما ..
أن الطالب سيكون كله أذنا وبصرا أثناء إلقاء الدرس من معلمه حتى لا يفوته بإهماله نقطة يسأل عنها فيما بعد ويكون المدرس قد شرحها قبلا .. أما السؤال ممن هم خارج إطار حلقة الدروس وأعنى بهم الأشخاص العادية التى يعن لها الاستفهام عن أمور اشتبهت عليها فلا يجب أن يسارع بالسؤال أيضا بل يحاول الوصول إليه ما استطاع بطريق المطالعة وسؤال الأقران فهذا إن لم يجلب له إجابة سيعطيه إحاطة عامة بموضوع السؤال مما يجعل سؤاله أكثر دقة وتركيزا عندما يتقدم به إلى عالم متخصص أو ذو شأن
ثانيهما ..
تفادى الحرج الناجم عن خفة العقل وذلك عندما يكون المرء متخيلا أن سؤاله هذا معضلة .. فيتضح له فيما بعد أن هذه المسألة أثيرت من قبل ألف مرة وكررها العلماء عشرات المرات وكانت الإجابات فى متناول يده فلم يبحث عنها .. وبالتالى سيكون من خفة العقل أن تضيع وقت عالم فى سبيل مسألة يستطيع أى شخص مثقف أو مطالع نقلها إليك وفى هذه الحالة تدخر سؤال العالم لما هو أثقل
وتلك المسألة هى التى نراها بأعيننا عشرات المرات فى البرامج التى تستضيف العلماء فى مختلف التخصصات فتجد أسئلة المشاهدين أو حتى المذيعين بالغة السطحية على نحو يثير الحسرة على الفرص الضائعة باستضافة علماء لم نحسن استثمارهم مثلا ما كان يحدث فى برنامج فتاوى وأحكام الذى كان يذيعه التليفزيون المصري ويستضيف فيه الشيخ الدكتور عطية صقر رحمه الله فتجد مداخلات الأسئلة من المشاهدين كلها من الغث دون السمين حتى أننا اعتدنا أن نسمع من الشيخ عبارة يكررها دوما عندما إجابته على أى سؤال " قلنا ألف مرة من قبل ... "
وكانت العبارة المأثورة للشيخ الشعراوى رحمه الله تلك التى كان يبدأ بها الرد على أسئلة المستشرقين والعلمانيين ومن شاكلهم فيقول فى بداية إجابته
" سؤالك خاطئ فى تركيبه ومعناه ... ثم يوضح له الشبهة والرد عليها "
وكانت معظم الشبهات التى تثيرها هذه الجهات طعنا وتشكيكا فى الدين الإسلامى تأتى من عدم خبرة المستشرقين بكوامن وأسرار اللغة العربية التى يتسع رداؤها لمحيطات لا نهاية لها من المعانى والمقاصد ..
وهذا على الرغم من دراستهم التامة والطويلة للفقه الإسلامى واللغة العربية وآدابها طبقا لمذهب المستشرقين وهو ضرب الإسلام من داخله عن طريق إثارة شبهات فى القرآن والسنة يتم اكتشافها عن طريق دراستهما دراسة وافية
وبالفعل درس المستشرقون الحضارة الإسلامية تشريعا ولغة عبر قرون وأجاد علماؤهم تلك الدراسة من الناحية الأكاديمية لكن ما فاتهم أن اللغة العربية ساحرة بشكل لم تتخيله عقولهم وما كانت لغة القرآن الكريم لتكون مرتعا سهلا لكل عابث .. ففشلت سائر شبهاتهم فشلا ذريعا بل ومهينا بالغ الإهانة .. وذلك عندما كشفها العلماء المسلمون وعلى رأسهم الشعراوى وإذا بهم يكشفون مدى غباء الأسئلة والشبهات التى أثاروها ومعظمها أتى عن جهل بمدارك اللغة بالرغم من دراستهم المستفيضة وهذا يعود من باب أولى إلى أن تشرب اللغة العربية والقدرة على إدراك كوامنها يأتى بشرطين متلازمين لا غنى عن أحدهما بالآخر .. وهما ..
الأول ..
أن تبدأ بدراسة اللغة من خلال المتون كما كانت تتم دراستها قديما فى الأزهر الشريف وبعض البلاد العربية وهذا النداء هو الذى ينادى به الآن العالم العراقي الجليل الأستاذ الدكتور أحمد الكبيسي الذي فضح أسلوب تدريس اللغة العربية فى المدارس الآن وأنه أسلوب من المستحيل أن يخرج متحدثا عاديا بها فما بالنا بالعلماء إذا !
الثانى ..
موهبة فطرية وهى منحة من الله عز وجل لا يمكن أن تتأتى لصاحب نية سيئة ــ حتى لو كان مسلما ــ ألا وهى التذوق الجمالى للبديع العربي وهذا أمر لا علاقة له بالدراسة وإن استفاضت .. وإنما هى موهبة تجلب آهات الإعجاب من قلب المتذوق للغة العربية انبهارا وتأثرا .. بل أزعم أن هذا التذوق الجمالى يتوافر بالفعل لدى من ليس لهم علم باللغة ومع ذلك يسبب نفس المؤثر مما يدفع المتذوق للسؤال عن المعنى واللهاث خلفه ..
وهناك من النابهين من تحققت فيه معجزة الحديث الفصيح السليم نطقا وكتابة دون أن يعرف شيئا من قواعد النحو والصرف بل يتحدث بها بطلاقة مقتدرة تحت تأثير القراءة والتدبر فحسب
ولست بحاجة لبيان مدى أهمية إتقان اللغة لكل مسلم إلى الحد الذى دفع الدكتور الكبيسي للقول الصريح بأن الإسلام لا يتم إلا بها فمن المستحيل إدراك الفقه الصحيح للدين دون إتقانها وضرب مثلا من آلاف الأمثلة لمدى ما تفعله الدلالات اللغوية بالأحكام فى قوله تعالى [وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] .. فلو أن الله تعالى قال بالأبوين وليس بالوالدين لاختلف الحكم الفقهى اختلافا تاما لأن الفارق بين الأب والوالد فارق متسع فصفة الوالد تكتسب بمجرد الإنجاب بينما صفة الأب لا تقال إلا لمن تولى التربية والتأهيل .. وبهذا الأمر فلو أن لفظ الأبوين كان هو المستخدم فى الآية لما أصبح عقوق الوالدين كبيرة من أكبر الكبائر إلا بشرط كفالة الأولاد وإحسان تربيتهم أولا .. وكان هذا كفيلا بإسقاط التكليف من أساسه
أيضا من أقواله ــ بارك الله بعمره وعلمه ــ فى تفسيره اللغوى للقرآن وإيضاحه لأهمية الدلالات اللغوية قوله فى الآية الكريمة
[يَعِظُكُمَ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {النور:17}
وهى الآية الكريمة التى نزلت لتنهى المؤمنين عن ذكر أمر حديث الإفك والخوض فيه ويقول عنها الكبيسي ..
أن كلمة أبدا الواردة بقلب الآية لم تأت ـ وما كان لها أن تأتى ـ زائدة أو مجرد توكيد عادى وهذا يعود إلى طبيعة معنى كلمة أبدا والتى تعنى زمنا مطلقا متصلا لا انقطاع فيه ..
ووجود هذه الكلمة فى الآية يغير الحكم تماما عما لو كانت غير موجودة بها فلو أنها كانت غير موجودة لكان أمر النهى عن حديث الإفك والعودة له مقصور على زمن النبي عليه الصلاة والسلام وزمن من حضر الحادثة فقط فلو كان أحد من حضور الحادثة عاد إلى هذا الحديث يخرج بمقتضي تلك العودة من الإسلام عملا بالآية الكريمة أما لو عاد للحديث من أتى بعد هذا العصر فليس عليه شيئ
أما الآية بصورتها التى نزلت بها محتوية كلمة أبدا فقد حكمت بالخروج من الإسلام على أى مسلم يعود باتهام للسيدة عائشة رضي الله عنها من أى نوع إلى يوم القيامة ..


شبهات لغوية


ونعود إلى حديثنا عن الإمام الشعراوى رحمه الله ومعاركه مع أصحاب الشبهات لنلتقي اليوم مع تفسيرين بديعين لشبهتين من أشد الشبهات التى أتى بها المستشرقون على القرآن زاعمين فيه التناقض فما وجدوا عند الشيخ غير السخرية من حماقة الأسئلة وذلك بعد أن وضحها إيضاحا كاملا
الشبهة الأولى ..
كيف يقول الله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى] {النَّجم:3} وهذا معناه أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأتى بشيئ من عنده بل كل ما يأتى به من عند الله عز وجل .. ومع ذلك فقد عاتب الله عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام عدة مرات وعدل له أحكاما قد اتخذها مما يعنى أن منطوق الآية يخالف واقع الحدث
فقال الشيخ ـ جزاه الله عنا خير الجزاء ـ
{ هذا فهم خاطئ لآيات الكتاب العزيز .. لأن السائلين غفلوا عن منطوق الآية الكريمة والتى استخدمت كلمة الهوى
فما هو معنى كلمة الهوى ..
الهوى هو الميل و الإختيار .. فلو عدنا للمسائل التى عدل فيها الله عز وجل أحكام رسول الله عليه الصلاة والسلام وكلها معروفة حصرا أنها وقائع نزل حكم الله تعالى فيها تاليا على حدوث الحدث .. فكانت الواقعة تحدث أولا فلا يكون فيها حكم من الله عز وجل فيجتهد رسول الله عليه الصلاة والسلام .. وما دام حكم الله لم يكن موجودا بالمسألة حال حدوثها فهذا ينفي قطعيا ورود الهوى على رسول الله عليه الصلاة والسلام لأن الهوى يكون بين أمرين وحكمين قائمين فتميل لأحدهما وتترك الآخر أما فى صدد مسائل العتاب فلم يكن هناك من الأصل حكم حتى يميل عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام لغيره
}


الشبهة الثانية


يقول الله عز وجل فى كتابه العزيز [إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {القصص:56}
ويقول فى موضع آخر [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {الشُّورى:52}
فكيف يتم نفي الفعل مرة وإثباته مرة على فاعل واحد .. ومعنى السؤال كيف ينفي الله عز وجل عن الرسول عليه الصلاة والسلام فعل الهداية مرة ثم يثبته مرة أخرى ..
فقال الشيخ معقبا ومجيبا
{ هذا جهل آخر باللغة العربية ودلالاتها .. لأن الهداية نوعان
هداية مطلقة وهداية دلالة .. ولإيضاح الفارق فأنت عندما ترشد شخصا غريبا إلى مكان معين فتصف له الطريق الصحيح .. هنا تكون هدايتك هداية دلالة أى تدله على الطريق الصحيح لكن لا سلطان لك فى سلوك هذا الطريق من عدمه فمن الممكن أن يستجيب لك فيسلكه ومن الممكن ألا يهتدى فلا يسلكه
ولذلك قال عز وجل
[وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذَابِ الهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {فصِّلت:17}
ومعنى الآية أن الله تعالى أرشدهم للطريق الصحيح فاستحبوا الطريق الضال على هداية الله عز وجل للطريق الصحيح فلو كانت الهداية بمعنى واحد وهى الهداية المطلقة لما عقبت الآية الكريمة بقوله عز وجل فاستحبوا العمى
أما الهداية المطلقة فهى إن عدنا للمثال السابق ستكون الإرشاد مع المعونة وهذا إن اصطحبت السائل عن الطريق لطريقه بعد أن دللته عليه فأوصلته مأربه
فإذا عدنا للآيات الكريمة موضع السؤال سنجد أن الله عز وجل استخدم الهداية المطلقة فى الآية الأولى فخفف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام عبء شعوره بالمسئولية لكفر الكافرين فقال إنك لا تهدى من أحببت
فالهداية هنا هى الدخول الفعلى لطريق الهداية والصواب وهذا مرجعه لله عز وجل وحده ..
أما الآية الثانية والتى اقترن فيها لفظ الهداية بلفظ الصراط فهى هداية دلالة ومعنى الآية أنك يا محمد ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ تهدى وترشد الناس لطريق ربهم لكن ليس معنى هذا أنك مسئول عن ولوجهم هذا الطريق
وهداية الدلالة هى التى يختص بها الله عز وجل رسله وعباده الصالحين لأنها هداية التبليغ والإرشاد والتبيان فقط
}

فرحم الله هذا العالم الجليل

،،