عرض مشاركة واحدة
قديم 10-19-2010, 09:59 PM
المشاركة 8
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: كنت عند دعبل بن علي أنا والعمروي سنة خمسٍ وثلاثين بعد قدومه من الشام، فذكرنا أبا تمامٍ، فجعل يثلبه ويزعم أنه يسرق الشعر، ثم قال لغلامه: يا نفنف، هات تلك المخلاة، فجاء بمخلاةٍ فيها دفاتر، فجعل يمرها على يده حتى أخرج منها دفتراً، فقال: اقرءوا هذا، فنظرنا فإذا في الدفتر: قال مكنف أبو سلمى من ولد زهير بن أبي سلمى، وكان هجا ذفافة العبسي بأبياتٍ منها:

إن الضُّرَاطَ به تَصاعَد جَدُّكم ... فَتعاظموا ضَرِطاً بَِني القَعْقَاعِ

قال: ثم رثاه بعد ذلك فقال:

أَبَعْدَ أبي العباسِ يُسْتَعْذَبُ الدَّهرُ ... ومَا بعْدَهُ للدَّهرِ حُسْنٌ ولا عُذْرُ

ألاَ أَيُّهَا النَّاعِي ذُفَافَةَ وَالنَّدَى ... تَعِسْتَ وشُلَّتْ مِنْ أَنامِلكَ العَشْرُ

أَتَنْعَى لنا منْ قَيْسِ عَيْلاَنَ صَخْرةً ... تَفَلَّقَ عنها مِن جبالِ العِدَى الصَّخرُ

إذا ما أَبو العبَّاسِ خَلَّى مَكانَهُ ... فلا حَمَلَتْ أُنثَى ولا نالهَا طُهْرُ

ولا أَمطَرَتْ أَرْضاً سَماءٌ ولا جَرَتْ ... نُجومٌ ولا لَذَّتْ لِشَارِبِها الخَمْرُ

كأَنَّ بني القَعْقَاعِ يومَ وَفاتِه ... نُجُومُ سَماءٍ خَرَّ مِن بَينَهَا البَدْرُ

تُوُفِّيَتِ الآمَالُ بعدَ وَفاتِهِ ... وَأَصْبحَ في شُغْلٍ عَنِ السَّفَرِ السَّفْرُ

ثم قال: سرق أبو تمام أكثر هذه القصيدة، فأدخلها في شعره. وحدثني محمد بن موسى بهذا الحديث مرةً أخرى ثم قال: فحدثت الحسن بن وهبٍ بذلك، فقال لي: أما قصيدة مكنفٍ هذه فأنا أعرفها، وشعر هذا الرجل عندي، وقد كان أبو تمام ينشدنيه، وما في قصيدته شيءٌ مما في قصيدة أبي تمام، ولكن دعبلاً خلط القصيدتين، إذ كانتا في وزنٍ واحدٍ، وكانتا مرثيتين، ليكذب على أبي تمام.
حدثنا عبد الله بن الحسين قال، حدثني وهب بن سعيد قال: جاء دعبل إلى أبي علي الحسن بن وهبٍ في حاجةٍ بعد ما مات أبو تمام، فقال له رجل: يا أبا علي، أنت الذي تطعن على من يقول:

شَهِدْتُ لقَدْ أَقَوَتْ مَغَانيكُمُ بَعْدِي ... وَمَحَّتْ كما مَحَّتْ وشائِعُ مِن بُرْدِ

وَأَنْجَدْتُمُ مِنْ بَعْدِ إِتْهَامِ دَارِكم ... فيا دَمْعُ أَنْجِدْني عَلَى سَاكِني نَجْدِ

فصاح دعبل: أحسن والله، وجعل يردد: فيا دَمْعُ أنجِدْني على ساكني نَجْدِ
ثم قال: رحمه الله، لو ترك لي شيئاً من شعره لقلت إنه أشعر الناس.
ولهذا الشعر خبر: حدثني عبد الله بن المعتز قال، جاءني محمد بن يزيد النحوي فاحتبسته، فأقام عندي، فجرى ذكر أبي تمام، فلم يوفه حقه؛ وكان في المجلس رجل من الكتاب نعماني، ما رأيت أحداً أحفظ لشعر أبي تمام منه، فقال له: يا أبا العباس، ضع في نفسك من شئت من الشعراء، ثم انظر، أيحسن أن يقول مثل ما قاله أبو تمام لأبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافقي يعتذر إليه:

شَهِدْتُ لقَدْ أَقَوَتْ مَغَانيكُمُ بَعْدِي ... وَمَحَّتْ كما مَحَّتْ وشائِعُ مِن بُرْدِ

وَأَنْجَدْتُمُ مِنْ بَعْدِ إِتْهَامِ دَارِكم ... فيا دَمْعُ أَنْجِدْني عَلَى سَاكِني نَجْدِ

ثم مر فيها حتى بلغ إلى قوله في الاعتذار:

أَتانِي مَعَ الرُّكْبانِ ظَنٌّ ظَنَنْتُهُ ... لَفَفْتُ لَهْ رَأسي حَيَاءً مِنَ المَجْدِ

لقَدْ نَكَبَ الغَدْرُ الوفَاءَ بساحَتيِ ... إِذَنْ، وسَرَحْتُ الذَّمَّ في مَسْرَحِ الحمدِ

جَحَدْتُ إذَنْ كم مِن يدٍ لَكَ شَاكلتْ ... يدَ القُرْبِ أَعْدَتْ مُستَهَاماً عَلَى البُعْدِ

وَمِن زَمَنٍ أَلبسْتَنيهِ كأَنهُ ... إذَا ذُكِرَتْ أَيامُهُ زَمَنُ الوَرْدِ

وكيفَ وَمَا أَخْلَلتُ بعدَك بالحِجَي ... وأنتَ فلم تُخْلِلْ بمَكْرمُةٍ بَعْدِي

أُسَرْبِلُ هُجْرَ القَوْلِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إِذَنْ لهجانِي عنهُ معروُفُه عِنْدي؟

كَريمٌ متى أَمدحْهُ أَمدَحْهُ وَالْوَرَى ... معي، ومتَى مَا لُمْتُهُ لُمْتُهُ وَحْدِي

فإِنْ يكُ جُرْمٌ عَنَّ أَوْ تَكُ هَفْوَةٌ ... عَلَى خَطإٍ مِنِّي فَعُذْرِي عَلَى عَمْدِ

فقال أبو العباس محمد ين يزيد: ما سمعت أحسن من هذا قط، ما يهضم هذا الرجل حقه إلا أحد رجلين: إما جاهل بعلم الشعر ومعرفة الكلام، وإما عالم لم يتبحر شعره ولم يسمعه. قال أبو العباس عبد الله بن المعتز: وما مات إلا وهو منتقل عن جميع ما كان يقوله، مقر بفضل أبي تمامٍ وإحسانه. أما قوله:

أَأُلبِسُ هُجْرَ القَوْلِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إِذَنْ لَهَجَانِي عَنْهُ معروفُه عِندي

فهو منقول من شعرٍ حسنٍ لا يفضله شعر.

حدثني محمد بن زكريا الغلابي قال، حدثني عبيد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عديٍ عن عوانة قال: أتى الحجاج بجماعةٍ من الخوارج من أصحاب قطريٍ، وفيهم رجلٌ كان له صديقاً، فأمر بقتلهم، وعفا عن ذلك الرجل ووصله وخلى سبيله، فمضى إلى قطري فقال له قطري: عاود قتال عدو الله الحجاج، فقال: هيهات! غل يداً مطلقها، واسترق رقبةً معتقها، ثم قال:

أَأُقَاتِلُ الحجَّاحَ عَنْ سُلْطَانِهِ ... بِيَدٍ تُقِرُّ بأَنَّهَا مَوْلاَتُهُ

إِنِّي إِذَنْ لأَخُو الدَّناءَةِ والذي ... عَفَّتْ عَلَى إحْسَانِهِ جَهَلاَته

مَاذَا أَقُولُ إذَا وَقفْتُ إزَاءَهُ ... في الصَّفِّ واحْتَجّتْ لَهُ فَعَلاَتُهُ؟

أَأَقُولُ جَارَ عَلَىَّ؟ لا، إِنِّي إِذَنْ ... لأَحَقُّ مَنْ جَارَتْ عَليْهِ وُلاَتُهُ

ويُحَدِّثُ الأَقْوامُ أَنّ صَنِيعَةً ... غُرِسَتْ لَدَىَّ فَحَنْظَلَتْ نَخَلاَتُهُ؟

هَذَا وَما طِبِّي بجُبْنٍ إِنَّني ... فيكُمْ لِمطْرَقُ مَشْهَدٍ وَعَلاَتُهُ

وجدت بخط أحمد بن إسماعيل بن الخصيب أن محمد بن عبد الملك أوصل إلى الواثق قصيدةً لأبي تمامٍ يمدحه بها أولها:

وَأَبِى المَنازِلِ إِنَّهَا لَشُجُونُ ... وَعَلَى الْعُجُومَةِ إِنّهَا لَتُبِينُ

فقرئت عليه، فلما بلغ إلى قوله:

جَاءَتْكَ من نظْمِ الِّلسانِ قِلاَدةٌ ... سِمْطاَنِ فيهَا الُّلؤلُؤ المكْنُونُ

حُذَيِتْ حِذَاءَ الحَضْرَمِيَّةِ أُرْهِفَتْ ... وأَجابَها التَّخْصِيرُ وَالتّلْسِينُ

إنْسِيَّةٌ وَحْشِيَّة كَثُرَتْ بَها ... حَرَكاتُ أَهْلِ الأرضِ وَهْيَ سَكون

أمَّا المعانيِ فهْيَ أَبْكارٌ إِذَا ... نُصَّتْ وَلَكنَّ الْقَوَافِيَ عُونُ

أَحْذَاكَهَا صَنَعُ الضّمِيرِ يَمُدُّهُ ... جَفْرٌ إذَا نَضَبَ الكلاَمُ مَعِينُ

وَيُسِئُ بَالإحسَانِ ظَنّاً لا كَمَنْ ... هُوَ بِابْنِهِ وبِشِعْرِهِ مَفْتُون

يَرْمِى بهِمِتَّهِ إلَيْكَ وَهَمِّهِ ... أَمَلٌ لهُ أَبداً عَلَيْكَ حَرُون

وَلَعلَّ مَا يَرْجُوهُ مِمَّا لمْ يَكنْ ... بِكَ عَاجِلاً أَوْ آجِلاً سَيَكونُ

فقال: ادفع إليه مائتي دينارٍ، فقال محمد: إنه قوى الأمل واسع الشكر، قال: فأضعفها له. وقد روينا من غير هذه الجهة أنه أمر له بمائة ألف درهمٍ. وأنشدني محمد بن داود لأبي تمامٍ في آل وهبٍ ما أستحسنه:

كلُّ شِعْبٍ كنتُمْ به آلَ وَهْبٍ ... فَهْوَ شِعْبي وَشِعْبُ كلِّ أَدِيبِ

إِنَّ قَلْبي لكُمْ لكَاْلكَبِدِ الحَرَّ ... ى وقَلْبي لِغَيْركمُ كالقُلوبِ

ولو كان هذا البيت الثاني في مدح آل الرسول -عليهم السلام- والتفجع لما نالهم يوم كربلاء وبعده، لكان فيه أشعر الناس. وقد روى مسعود بن عيسى قال، حدثني صالح غلام أبي تمام، المنشد كان لشعر أبي تمام، وكان حسن الوجه، قال: دخل أبو تمامٍ على الحسن بن وهبٍ، وأنا معه، وعلى رأسه جاريةٌ ظريفةٌ فأومأ إليها الحسن يغريها بأبي تمامٍ، فقالت:

يَا ابْنَ أَوْسٍ أَشْبَهْتَ في الفِسْقِ أَوْسَا... وَاتَّخَذْتَ الغُلاَمَ إِلْفاً وَعِرْسَا

فقال أبو تمام:

أَبَرَقْتِ ليِ إذ لَيْسَ لِي بَرْقُ ... فتَزَحْزَحِي مَا عِنْدَنَا عِشق

مَا كُنْتُ أَفْسُقُ وَالشَّبَابُ أَخِي ... أَفَحِينَ شِبْتُ يَجْوزُ لِي الفِسْقُ؟

لِي هِمَّةٌ عَنْ ذَاكَ تَرْدَعْنِي ... وَمُرَكَّبٌ مَا خَانَهُ عِرْقُ


أخبار أبي تمام مع آل طاهر بن الحسين
حدثنا محمد بن إسحاق النحوي قال، حدثنا أبو العيناء عن علي بن محمد الجرجاني قال: اجتمعنا بباب عبد الله بن طاهر من بين شاعر وزائرٍ، ومعنا أبو تمام، فحجبنا أياماً، فكتب إليه أبو تمام:

أَيَّهذا العزيزُ قد مَسَّنَا الضُّرُّ ... جميعاً وَأهْلُناَ أشْتَاتُ

ولنَا في الرِّحَال شيخٌ كبيرٌ... وَلَدَيْنا بِضَاعَةٌ مُزْجَاةُ

قَلَّ طُلاَّبُهَا فأَضْحَتْ خَسَاراً ... فَتِجَارَاتُنا بهَا تُرَّهَاتُ

فاحْتَسِبْ أَجْرَنَا وَأَوْفِ لنَا الكَيْلَ ... وَصَدِّقْ فإِنَّنا أَمْوَاتْ

فضحك عبد الله لما قرأ الشعر، وقال: قولوا لأبي تمام لا تعاود مثل هذا الشعر، فإن القرآن أجل من أن يستعار شيء من ألفاظه للشعر، قال: ووجد عليه.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن موسى الرازي قال، حدثني محمد بن إسحاق الختلي، وكان يتوكل لعبد الله بن طاهر، قال: لما قدم أبو تمامٍ على عبد الله بن طاهر أمر له بشيءٍ لم يرضه ففرقه، فغضب عليه لاستقلاله ما أعطاه، وتفريقه إياه، فشكا أبو تمام ذلك إلى أبي العميثل شاعر آل طاهر، وأخص الناس بهم، فدخل على عبد الله بن طاهر فقال له: أيها الأمير، أتغضب على من حمل إليك أمله من العراق، وكد فيك جسمه وفكره، ومن يقول فيك:

يقُولُ في قُومَسٍ صَحْبي وَقدْ أَخَذَتْ ... مِنَّا السُّرَى وخُطَى المَهْرِيَّةِ القُودِ

أَمَطْلِعَ الشّمْسِ تَنْوِي أَنْ تَؤُمَّ بنَا؟ ... فَقُلتُ: كلاّ، ولكنْ مَطْلِعَ الجُودِ

قال: فدعا به ونادمه يومه ذلك، وخلع عليه، ووهب له ألف دينار وخاتما كان في يده له قدر. حدثني أبو عبد الله محمد بن طاهر قال: لما دخل أبو تمامٍ أبرشهر، هوى بها مغنيةً كانت تغنى بالفارسية، وكانت حاذقةً طيبة الصوت، فكان عبد الله كلما سأل عنه أخبر أنه عندها، فنقص عنده، قال: وفيها يقول أبو تمام:

أَيَا سَهَرِي بَليْلةِ أَبْرَشَهْرٍ ... ذَمَمْتَ إليَّ يَوْماً في سِوَاهَا

شَكَرْتكِ لَيْلةً حسْنَتْ وَطَابَتْ ... أَقَامَ سُرُورُهَا ومَضَى كَراهَا

إذَا وَهَدَاتُ أَرْضٍ كانَ فِيهَا ... رِضَاكِ فَلاَ تَحِنَّ إلَى رُباهَا

سَمِعْتُ بهَا غِنَاءً كانَ أَحْرَى ... بِأَنْ يَقْتَادَ نَفْسِي مِنْ غِنَاهَا

ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمْعَ حُسْناً ... وَلَمْ تُصْمِمْهُ لاَ يُصَمْم صَداهَا

مَرَتْ أَوْتَارَهَا فَشَجَتْ وَشَاقَتْ ... فَلَوْ يَسْطيعُ سَامِعُهَا فَدَاهَا

وَلَمْ أَفْهَمْ مَعَايِنَهَا وَلكِنْ ... وَرَت كَبِدِي فَلمْ أَجْهَلْ شَجَاهَا

فَبِتُّ كأنَّنِي أَعْمَى مُعَنًّى ... يُحِبُّ الغَانِيَاتِ وَمَا يَرَاهَا

وقد أحسن أبو تمام في هذه الأبيات، على أن الحسين بن الضحاك قد قال، ورواه قوم لأبي نواس ولا أعلمه له، ولكن أبا جعفرٍ المهلبي أنشدنيه للحسين، وقد سمع فارسياً يغني:

وصَوْتٍ لبني الأحْرَا ... رِ أهلِ السِّيرَةِ الحُسْنَى

شَجِىٍ يأكُلُ الأَوْتَا ... رَ حَتَّى كُلُّها يَفْنَى

فما أَدْرِي اليَدُ اليُسْرَى ... بِهِ أَشْقَى أَمِ اليُمْنَى؟

وما أَفْهِمُ ما يَعْني ... مُغَنِّينَا إِذَا غَنَّى

سِوَى أَنِّىَ مِنْ حُبِّى ... له أَسْتَحْسِنُ المعْنَى

ويروى: -أنِّىَ من عُجْبي به-

وأول من نطق بهذا المعنى وزعم أن أعجمياً شاقه وشجاه حميد بن ثور، إلا أنه وصف صوت حمامةٍ:

عجبْتُ لها أَنَّي يكونُ غِناؤُهَا ... فَصِيحاً ولم تَفْغَرْ بمنطِقِهَا فَمَا!

ولمْ أَرَ مَحْقُوراً لهُ مثلُ صَوْتِهَا... أَحَنَّ وَ أجْوَى للحزيِنِ وأَكْلَمَا

ولَمْ أَرَ مِثْلِي هَاجَهُ اليَوْمَ مِثْلهُا ... ولاَ عَرَبِياًّ شَاقَهُ صَوْتُ أعْجَمَا

وأما قوله: ........ ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمعَ حُسْناً .. فهو من قولهم: الغناء غذاء الاسماع، كما أن الطعام غذاء الأبدان.

حدثني محمد بن سعيد وغيره عن حماد بن إسحاق قال: كان مروان بن أبي حفصة يجيء إلى جدي إبراهيم، فإذا تغدى قال: قد أطعمتمونا طيباً، فأطعموا آذاننا حسناً. وقال ابن أبي طاهر: قلت لأبي تمام: أعنيت بقولك أحداً:

فبتُّ كأنّنِي أَعْمَى مُعَنًّى ... يُحِبُّ الغانياتِ وما يَرَاها

فقال: نعم، عنيت بشار بن برد الضرير، قال: وأنا أحسبه أراد قوله:

يا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الحيِّ عَاشِقَةٌ ... والأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانا

قَالُوا: بِمَنْ لاَ تَرَى تَهْذِي؟ فَقُلتُ لَهُمْ: ... الأُذْنُ كاَلْعَيْنِ تُوفي القَلبَ مَا كانَا

حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال: مات ابنان صغيران لعبد الله بن طاهر في يومٍ واحد، فدخل عليه أبو تمامٍ فأنشده:

ما زَالَتِ الأيَّامُ تُخبرُ سَائِلاَ ... أَنْ سَوْفَ تَفْجَعُ مُسْهِلاً أو عَاقِلاَ

فلما بلغ إلى قوله:

مجدٌ تأَوَّبَ طَارِقاً حتَّى إذَا ... قُلنَا أَقَامَ الدهْرَ أصبحَ راحِلاَ

نَجْمانِ شاءَ اللهُ أَلاَّ يَطْلُعَا ... إلاَّ ارْتِدَادَ الطَّرْفِ حتَّى يأْفِلاَ

إِنّ الفجيعَةَ بالرِّياضِ نَوَاضِراً ... لأَجَلُّ مِنْها بالرِّيَاضِ ذَوَابِلاَ

لَوْ يَنْشَآنِ لكانَ هذا غارباً ... لِلْمَكْرُمَاتِ وكانَ هذا كاهِلاَ

كذا أنشده، وكذا ينشده الناس، والذي أقرأنيه أبو مالك عون بن محمد الكندي، وقال: قرأته على أبي تمام -لو يُنْسآنِ-أي: لو يؤخران، وهو الأجود عندي.

لَهْفَى عَلَى تِلْكَ المخَائِلِ فيِهمَا ... لو أُمْهِلَتْ حتَّى تكونَ شَمائِلاَ

لَغَدَا سُكُونُهمُاَ حِجًى وَصِبَاهُما ... كَرَماً وتِلْكَ الأرْيحيَّةُ نائِلاَ

إن الهِلاَلَ إذَا رأيتَ نُمُوَّهُ ... أَيْقَنتَ أَنْ سَيَصيرُ بدْراً كامِلاَ

كذا أنشد والصحيح -وصباهما حلما- وهو أجود من جهات، واحدةٍ: لأن -نائلاً- قد ناب عن الكرم، فيجئُ بالحلم ليجمع أصناف المدح. والأخرى: أن الحلم أحسن جواراً للحجي وهو العقل من الكرم. والأخرى: أنه جعل سكونهما حجيً أي عقلاً، وأريحيتهما نائلاً، فيجب أن يكون الصبا حلماً، حتى لا يكون تلك الفعلة إلا الحلم. وإن أنصف من يقرأ هذا وأشباهه من تفسيرنا، علم أن أحداً لم يستقل بمثله، ولا علم حقيقة الكلام كما علمناه، إلا أن يتعلمه من هذه الجهة متعلم ذكي فهم فيبلغ فيه. وهذا دليل على حذق أبي تمام، وجهل الناس في الرواية، وهذا داءٌ قديمٌ. قال جرير لبعض الرواة: أسألك بالله من أشعر عندك: أنا أو الفرزدق؟ فقال: والله لأصدقك، أما عند خواص الناس وعلمائهم فهو أشعر منك، وأما عند عامة الناس ودهمائهم فإنك أشعر. فقال: غلبته ورب الكعبة وتقدمته، متى يقع الخاص من العام؟. قال: فلما سمع هذا عبد الله، وكان يتعنته كثيراً، قال: قد أحسنت ولكنك تؤسفني وليس تعزيني، فلما قال:

قُل للأميِر وإنْ لَقيتَ مُوَقَّراً ... مِنْه برَيْبِ الحادِثاتِ حُلاَحِلاَ

إنْ تُرْزَ فيِ طَرَفَيْ نَهَارٍ واحدٍ ... رُزْءَيْنِ هاجَا لَوْعَةً وَبَلاَبِلاَ

فالثَّقْلُ لَيْسَ مُضَاعَفاً لِمطيَّةٍ ... إِلاّ إذا مَا كانَ وَهْماً بازِلاَ

شَمَخَتْ خِلاَلُكَ أَنْ يُؤَسِّيَكَ امْرُؤٌ ... أَوْ أَنْ تُذَكَّرَ نَاسِياً أَوْ غَافِلاَ

إلاَّ مَوَاعِظَ قَادَهَا لَكَ سَمْحَةً ... إِسْجَاحُ لُبِّكَ سَامِعاً أَوْ قاَئِلاَ

قال: الآن عزيت، وأمر فكتبت القصيدة ووصله. وهذا فإنما احتذى به أبو تمام قول الفرزدق، وقد ماتت له جارية نفساء، فوجد في بطنها صبي ميت:

وَجفْنِ سِلاَحٍ قد رُزِئْتُ فلمْ أَنُحْ ... عَليِه ولم أبْعَثْ عليهِ البَواكِيا

وفي جَوْفهِ من دَارِمٍ ذُو حفيِظةٍ ... لَو أنّ المنَايا أَنْسَأَتهُ لَياليَا!

وليس كلام أحسن من قوله: -وجفن سلاح قد رزئت- وتشبيهه هذا.

حدثني أبو بكر عبد الرحمن بن أحمد قال: سمعت أبا علي الحسين يقول: ما كان أحد أشعف بشعر أبي تمام من إسحاق بن إبراهيم المصعبي، وكان يعطيه عطاءً كثيراً. حدثنا أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال، حدثني أبي قال: دخل أبو تمام على إسحاق بن إبراهيم، فأنشده مدحاً له وجاء إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى إسحاق مسلما عليه، فلما استؤذن له، قال له أبو تمام: حاجتي أيها الأمير أن تأمر إسحاق أن يستمع بعض قصائدي فيك، فلما دخل قال له ذلك، فجلس وأنشده عدة قصائد، فأقبل إسحاق على أبي تمام فقال: أنت شاعر مجيد محسن كثير الاتكاءِ على نفسك، يريد أنه يعمل المعاني. وكان إسحاق شديد العصبية للأوائل، كثير الاتباع لهم. ويروي أن عبد الله بن طاهر حجبه فكتب إليه:

صَبْراً عَلَى المَطْلِ مَالَم يَتْلُهُ الكَذِبُ ... ولِلْخُطُوبِ إِذا سَامَحْتَها عُقَبُ

عَلَى المقادِيرِ لَوْمٌ إِنْ رُمِيتَ بهَا ... مِنْ قَادرٍ وَعَلي السَّعيُ وَالطَّلَبُ

يَأَيُّهَا المِلكُ النَّائِي برُؤْيَتهِ ... وَجوُدُهُ لمُرَاعِي جودِهِ كَثَبُ

لَيْسَ الحجَابُ بِمُقْصٍ عنْكَ لي أَمَلاً ... إِن السَّماءَ تُرَجَّى حِينَ تَحْتَجِب

ويروى أنه كتب بها إلى أبي دلف، وقيل إلى ابن أبي دؤاد، وقيل في إسحاق. حدثني أحمد بن محمد البصري قال، حدثني فضل اليزيدي قال: لما صار أبو تمام إلى خراسان لمدح عبد الله بن طاهر كرهها، وأقبل الشتاء، فاشتد عليه أمر البرد، فقال يذم الشتاء ويمدح الصيف:

لم يَبْقَ للصيَّفِ لا رَسْمٌ ولا طَلَلُ ... وَلاَ قَشِيبٌ فيُسَكْسَى وَلاَ سَمَلُ

عَدْلاً مِنَ الدَّمْعِ أنْ يَبْكي المَصِيفَ كما ... يُبْكَي الشَّبَابُ ويُبْكَي الَّلهْوُ وَالغَزَلُ

يُمْنَى الزَّمَانِ طَوَتْ مَعْرُوفَهَا وَغَدَتْ ... يُسْرَاهُ وَهْيَ لَنا مِنْ بَعْدِهِ بَدَلُ

وهي قصيدة سنذكرها في شعره، فبلغ شعره عبد الله بن طاهر، فعجل جائزته وصرفه. حدثني أحمد بن إسماعيل بن الخصيب قال، حدثني عبد الله بن أحمد النيسابوري، وكان أديباً شاعراً، قال: استبطأ أبو تمامٍ صلة عبد الله بن طاهر، فكتب إلى أبي العميثل شاعر عبد الله، وكان دفع إليه رقعةً ليوصلها إلى عبد الله:

لَيْتَ الظِّبَاءَ أَبَا العَمَيْثَلِ خَبَّرَتْ ... خَبَراً يُرَوِّى صَادِيَاتِ الْهَامِ

إِنّ الأَمِيَر إذا الحَوَادِثُ أَظْلَمَتْ ... نُورُ الزَّمَانِ وَحِليَةُ الإِسْلاَمِ

واللهِ مَا يَدْرِي بِأَيَّةِ حَالَةٍ ... يُثْنِي مُجَاوِرُهُ عَلَى الأَيَّامِ

ألِمَا يُجَامِعُهُ لَدَيْهِ مِنَ الْغِنَى ... أَمْ مَا يُفَارِقُهُ مِنَ الإِعْدَامِ؟

وَأَرَى الصَّحِيفَةَ قَدْ عَلَتْهَا فَتْرَةٌ ... فَتَرَتْ لَهَا الأَرْوَاحُ في الأَجْسَامِ

إنَّ الجِيَاد إذا عَلَتْهَا صَنْعَةٌ ... رَاقَتْ ذَوِي الآدَابِ وَالأَفْهَامِ

لِتَزَيُّدِ الأَبصَارِ فِيهَا فُسْحَةٌ ... وَتَأَمُّلٌ بإشَارَةِ القُوَّامِ

لَوْلاَ الأَمِيرُ وَأَنَّ حَاكِمَ رَأيِهِ ... في الشِّعْرِ أَصْبَحَ أَعْدَلَ الحُكّامِ

لَثَكِلْتُ آمَالِي لَدَيْهِ بأَسْرهَا ... ولكَانَ إِنْشَادِي خَفِير كلاَمي

وَلَخِفْتُ في تَفَرِيِقِهِ مَا بَيْنَنَا ... مَا قِيلَ في عَمْروٍ وفيِ الصَّمْصَامِ

فكتب إليه أبو العميثل:

أَفْهَمْتَنَا فَنَقَعْتَ باِلإفْهامِ ... فَاسْمَعْ جَوَابَكَ يَا أَبَا تَمامِ

إنّ الظِّبَاءَ سَنِيحُهَا كبَرِيِحهَا ... في جَهْلِهَا بِتَصَرُّفِ الأقوَامِ

جَفَّتْ بِأَيَّامِ الفَتَى وَبِرِزْقِهِ ... في اللَّوْحِ قَبْلُ سَوَابِقُ الأقْلاَمِ

قَدْ كُنْتُ حَاضِرَ كُلِّ مَا حَبَّرْتَهُ ... مِنْ مَنْطِقٍ مُسْتَحْكَمِ الإِبْرَامِ

فِيهِ لَطَائِفُ مِنْ قَريِضٍ مُونِقٍ ... نَطَقَتْ بِذَلِكَ أَلْسُنُ الْحُكَّامِ

مُلْسُ المتُونِ لَدى السَّماعِ كأنَّهَا ... لَمْساً ومَنْظَرَةً مُتُونُ سِلاَمِ

وَشَهِدْتُ مَا قَالَ الأميرُ بِعَقْبِهِ ... مِنْ أَنَّهُ عَسَلٌ بِمَاءِ غَمَامِ

وشَهِدْتُ أَجْمَلَ محضَرٍ من مَعْشَرٍ ... مَنَحُوا كريمَ القَوْلِ نَجْلَ كِرَامِ

فَعَلَيْكَ مَحْمُودَ الأَنَاءَةِ، إِنَّهَا ... وَالنُّجْحَ في قَرَنٍ على الأيَّامِ

وَذَكرْتَ عَمْراً قبْلَنَا وَفِرَاقَهُ ... صَمْصَامةَ النَّجَدَاتِ وَالإِقْدَامِ

وَاللهُ يَنْظِمُنَا بِعِزَّ أَميرِنَا ... وَطَوَالِ مُدَّتِهِ أَتَمَّ نِظَامِ

وله في مقامه بخرسان وتكرهه إياها أشعاراً سنذكرها في شعره إن شاء الله.



المصدر: الموسوعة الشعرية- ديوان العرب

يتبع
.
.
.

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)