عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 02:28 PM
المشاركة 21
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
المتنبّي
بين محاسنه ومباذله

بقلم الأمير شكيب أرسلان

المتنبي أحمد بن الحسين الكندي الجعفي من كبار فحول الكلام الذين لم تنجب الإنسانية أمثالهم في آلاف من السنين. ولو أن المتنبي ترجم ديوانه إلى اللغات الأوروبية بأقلام فصحاء ينتقون اللغتين المترجم منها والمترجم إليها، لعرف الأوروبيون من فصاحة العرب وتحليقهم في سماء الأدب ما هو فوق تصورهم الحالي. هذا برغم ما يكون بين الترجمة والأصل من الفرق العظيم الذي لا تفيد براعة الترجمة شيئًا في تلافيه. فالمتنبي لسان إبداع الأولين ولسان إبداع في الآخرين، وهو شاعر سرمدي لا يختص بعصر ولا بمصر، فأين كانت الإنسانية وأنى كانت، فالمتنبي مثلها الأعلى في الفصاحة والبلاغة. وكل عبقري في العالم قد يعطيه الناس زيادة على حقه، إما لإفراطفي الإعجاب، وإما لأجل التأثير في السامع، فإن الكتاب قد يحسبون حساب المسافة الفاصلة بين الحقيقة في حد ذاتها وبين أفهام السامعين أو القراء، فيتعمدون زيادة القوة الموصلة للحقائق حتى تصل سالمة ولا ينقص منها شيء في الطريق، وأما المتنبي فمهما قيل فيه فإنه قمن، وذلك لأنه ليس هناك شاعر مثله اتسع في فتوحات الكلام، وتساوى في فهم شعره الخاص والعام.
ومما لا مشاقة فيه هو أن أبا تمام الطائي أجزل شعرًا وأمتن لغة وأعلى نفسًا، وأن أبا عبادةالبحتري أطلى نظمًا وأرق نسجًا وأعذب لغة، فليس عند المتنبي قوة أبي تمام في الجزالة ولا ملكة البحتري في السلامة، ولكنه يعلو على الاثنين علوًا كبيرًا في الأمثال والحكم وجوامع الكلم، فإنه لا يوجد معنى تبحث النفس عنه لتجد له قالبا لائقا إلا وجد الإنسان عليه بيتًا من شعر المتنبي. ففي هذا لا يباريه مبار ولايصطلى له بنار ولا تأتي بمثله الأعصار، لا في شعراء العرب ولا في غيرهم. وقد نشرالحاتم يرسالة قابل فيها بين معاني المتنبي المنظومة شعرًا وبين أقوال أرستطاليس، فوجد طائفة متشابهة قال إنها إن كانت من قبيل توارد الخواطر، فذلك مقام كبير لأبي الطيب وهو أن يتفطن لما فطن له شيخ الفلاسفة، وإن كان المتنبي اطلع على أقوال أرسطو ونظمها شعرًا فهو أيضًا فضل عظيم.
ومن قرأ شعر المتنبي من أوله إلى آخره اقتنع بأنه لم يكن يرجع في اختراعاته غير المسبوقة وابتكاراته الناشئة عن محض السليقة إلى أرسطو ولا إلى غيره، وإنما كانت أبياته المشابهة لأقوال أبي الفلاسفة من قبيل توارد الخواطر وتوافق الضمائر. وكم يقع هذا بين العلماء الكبارولا سيما بين العبقريين الذين يتراءى للواحد منهم ما يتراءى للآخر، كأن العبقرية شركة عنان وكأن النبوغ حصة شائعة كما يملكه الواحد الاثنان. وبالاختصار فلا يكاد يمر بالإنسان يوم إلا ويخطر بباله معنى من مناحي الحياة المتعددة يفكر في إيراده فيبيت منظوم، إذا وجد من ذلك واحدًا عند الشعراء كلهم وجد بإزائه خمسة عند المتنبي وحده. فهو ملجأ المتمثلين ومفزع المتأثرين. وكأن المستشهد بشعر المتنبي إذا شكا أوبكى أو حن أو طرب أو هاج أو غضب أو تحرك أو ركب أو أحب أو شرب، وجد في شعر المتنبي الغاية التي يشتفي بها أواره، ويقر عنده قراره. فإذا قيل: إن المتنبي رفيق كل مفكروكهف كل متعمق وشيخ كل واعظ وحلية كل لافظ وعمدة كل خطيب وخزانة كل جوال في المواضيع، وإذا قيل: إن العقل السليم والمنطق السديد لم يألفا في أدمغة أهل الأرض قاطبة ممن أوتي الحكمة شعرًا والبيان سحرًا مثل دماغ أبي الطيب المتنبي، فلا يكون هذا القول مفرطًا، ولا يكون صاحبه مسرفًا.
وقد أجاد المتنبي ككل شاعر كبير في مختلف الموضوعات، فليس باب من أبواب القول إلا وقد جاء فيه بالمعجز. غير أنه ربماباراه سائر الشعراء في كثير من الفنون. وقد فاقه أبو تمام في الرثاء وربما في المديح، وعلا عليه أبوالعتاهية في الزهد وأبونواس في المجون والحاجزي في الغزل والبهاء زهيرفي الرقة وابن سهل الإشبيلي في دماثة العشق، ولكن الحكمة هي المملكة التي أبت أن تعطي لغير أبي الطيب قيادها، فجميع الشعراء هناك سائرون تحت لوائه يقال لكل واحد منهم: أطرق كرى. ويقال ذلك بحق