الموضوع: ثائران
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
7

المشاهدات
3056
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
03-02-2014, 05:05 AM
المشاركة 1
03-02-2014, 05:05 AM
المشاركة 1
افتراضي ثائران
بلدة ثائرة على مثيلاتها من المدائن الغارقة في لجة الفوضى ، تعانق صبحا دفء شمس ذهبية ، تشع من خلال زجاج نوافذها الملونة و جدرانها المصقولة ، زرقة بحيرتها السماوية تطبع على أفقها المتكئ على جبل مخضر قبلة قوس قزح . هي سر هذا الشعور الدافق حلاوة ، زرعت في بيداء مشاعره شتائل تفتحت زهورها ، فاتسعت دائرة حدائقه وامتدت لتطال حياتها . منذ أن طوق الخاتمان بنصريهما ، اشتعلت لذة المتعة في نفسه التي كادت تنطفيء في سراديبها كل شموع الأمل .
تشكل يداه المبدعتان الجمال الخلاب ، منذ كان صغيرا يستهويه النحت ، كان حفيد صياغ تقليدي ينقش الفضة ، جده مرح المجلس ، باسم الملامح ، كلما هم بالفضة لانت و انصاعت لرغباته ، وهو يكلمها بدلال : "تزيني و تجملي فأنت رمز للجمال ." يحاور الأحجار المرمرية التي يصطادها عند قدم الجبل وعلى أطراف البحيرة ماسحا على وجهها الأملس ، وقد تراءت له تحفا فنية تتباهى في حلي تموجات خطوط نورانية تزين وجهها المصقول كثوب حيك بخيط حريري رفيع .
رأى صديقه صدفة في المدينة ، توقف برهة قبل أن تتقدم خطواته نحوه و البسمة تعلو ملامحه ، تعانق الصديقان بحرارة ، و تقدمت بهما الخطوات إلى مقهى شاطئي ، تتأمل عيناهما الأسد المرمري الجاثم في الركن الأيسر للمقهى ، يمد صديقه يديه نحو المرمدة الصخرية محدقا في نقوشها الساحرة ، تلعثم بكلمات إعجاب لهذه الصنعة الضاربة في عمق التاريخ ، رمش النحات بعينيه و هو يقرأ حركات زميل المدرسة و رفيق الدرب ، يستحضر تلك السنوات التي تبدو بعيدة بعد المشرق عن المغرب ، يوقد صديقه سيجراته ، ترقرقت دمعة تحاول الانفلات من عينه اليسرى قبل أن يلفظها بطرفة جفنيه معاندا رقتها في مواجهة الدخان ، بينما النحات يفرغ كوب الماء في جوفه مطاردا مرارة رشفته الأولى من فنجان القهوة السوداء التي مزقت حلقه اللين المتعود على عذوبة النغم و رقة الكلام و لذيذ الشراب و رطوبة الهواء . يتذكران أيام الشباب الأولى كانا يطاردان الطرائد بمهارة نادرة قبل أن تصطادهما شباك الثورة ، فطفقا يناضلان و يحاضران و يخططان و بنفدان ببراعة عز نظيرها ، يتقاسمان نشوة الانتصارات و يتجرعان آلام الهزائم بقوة التحدي ، لا تنال الخيبة من عزمهما على الصمود والظفر بذلك الحلم الجميل ، يطاردان وحشة الأقبية والزنازن المظلمة بما يخبئه المستقبل الباسم الوضاء .
منذ أن رأى صديقه و نفسه كارهة للضحك فيتكلف تكشرا لعله يسترجع نزقه و حيويته التي ذبلت مع طعم القهوة المر و لونها القاتم ونظرة صديقه الماكرة الذي فاجأه : " نحن بحاجة إليك صديقي ، أنت تعلم أننا قاب قوسين أو أدنى ." حنحن مفرغا قهوته برشفة واحدة في جوفه فطقطق لسانه لذة و قد انبلجت قسوته من طلاء الوداعة ، يتأمل صديقه المستطرد في الكلام : " نحتاج إلى خبرتك ، نريدك أن تعلم الشباب ، أنت قدوة ، تشجع يا صديقي ، ماعهدتك يوما جبانا .." انفجر صوته الجهوري و قد التحم حاجباه : " كم يوما قضيت في السجن ؟" قال كلامه وهو يستحضر السنين الطوال ، و تهكمات المجرمين ، وعجرفة الحراس ، وجفاء الأحبة ، كان سلاحه الوحيد الذي أبقاه حيا هو قلمه الذي لا يتوقف مداده وهو يخط آلاف الصفحات ، ارتعدت فرائص صديقه و هو يستحضر غلظة رفيقه و قسوة بطشه و جبروت آرائه ، و صعوبة ثورته ، نظر النحات إلى جليسه ونظرته تحمل شرارة حنق فتلته السنين و هو يتذكر آخر عملية سينفدانها ، كان رفيقه من يعرف دقائقها ، تذكر اعتذاره في اللحظة الأخيرة مشتكيا من مرض ألم به ، تذكر رفاقه الذين اشتروا براءتهم بالشهادة ضده . فانطلق لسانه ويده معقودة على فنجان القهوة الفارغ الذي تحاول أجزاؤه المفككة التنصل من قبضته : " منذ متى و أنتم تراقبونني ؟" و لما صمت صاحبه و شفتاه ترتعشان رهبة من يد بطاشة ، أكمل : " أنا نحات أحادث الأحجار و لها من الوفاء ما لا يبخس جمال روحي "