عرض مشاركة واحدة
قديم 07-15-2019, 12:46 AM
المشاركة 12
تركي خلف
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: O موسوعة القصص القصيرة o
لم يعرف أحدُ الحقيقة / وداد طه


بدا له أنّ ذلك النّهار منحوس منذ طلعتْ شمسُه. زوجتُه لم تكفّ عن النَّقّ. شعر أنّه يودّ خنقَها بيديه؛ فهي تعرف أنّه لا يملك ثمنَ ما تطلبه، إذ لم تعد طلباتُها تقتصر على ما يحتاجه الأولاد. لم يخطرْ في باله يومًا أنّ الأيّام قد تُغيّرها، بعد أن كانت قنوعة.

لم يقُد شاحنتَه منذ ثلاث سنوات، منذ أصيب بطلق ناريّ في ساقه وهو في رحلة صيد مع بعض الأصحاب، فركنها في تلك الزّاوية فوق التّلة التُّرابيّة القريبة من البيت، وتركها للصّدأ يأكلها. في الليل، خلال تلك السّنوات الثّلاث، كان يخرج فيتحسّسها، يمشي حولها، يجلس قربها، لكنّه لم يصعد خلف المقود إلّا في تلك الليلة.

كانت زوجتُه قد عادت من زيارة. وحين سألها عن سبب تأخّرها إلى ذلك الوقت، تجاهلتْ سؤاله وتوجّهتْ إلى الحمّام. لحقَ بها، فأغلقت الباب. طرقَه بإصرار، وحين لم تفتح توجّه إلى الصّالون، فدخّن بعصبيّة. لكنّها لم تخرج. فعاود الطّرْقَ بعصبيّة.

صحا الصّغير، فخرجتْ تلفّ جسمَها بمنشقة. حملتْه وتوجّهتْ به إلى سريره، من دون أنْ تنظر إليه. استفزّه تجاهلُها، فأمسك يدها. أفلتتها وقالت بحدّة: "اتركني نيِّم الصّبي." شعر أنّ كلّ ما فيها يكرهه. عيناها قالتا ذلك. سمع صوتَ مجفّف الشّعر، فعرج نحو الغرفة. قال من دون مقدّمات: "هل تظنّينني غبيًّا؟ زوجتُه عند أهلها في بيروت!"

كان عليه أن يخرجَ من البيت كي لا يقتلها.
بدا الشارعُ مختلفًا. كلُّ شيء اعتاده فيه وأحبَّه من قبلُ بدا باهتًا الآن. لم تكن جميعُ أيّامهما حلوةً، لكنّه عرف معنى حلاوة المرارة معها. يذكر ذلك العهد الذي تعاهداه، ألّا يتنكّرَ أحدُهما لخياره. قالت يومها: "سأكون لك حتّى آخر يوم. لقد اخترتكَ وسأحترم خِياري حتّى النّهاية." إلهي كيف تصبح كلماتُ الحبّ سكاكينَ تحفر القلب؟

ضرب على صدره. لطم المقودَ براحة يده. وقع تمثالُ العذراء. التقطه بعد محاولات عدّة. نفثَ عليه. قبّله. ثبّته مكانه فوق المرآة. نظر إليه وكأنّما يعاتبه: كيف لم يحمِه من هذا الألم؟ ألم تكن العذراءُ شفيعتَه دومًا؟ ألم يتوسّل إليها كي تشفيَه من تلك الرّصاصة، فلبّت توسّلاته ولم يقطعوا ساقه؟

قادت سيّارتها بصمت طوال الطريق. بدا الليل بلا نهاية، والطّريقُ خاويةً إلّا من هسيس دمعها المكتوم. حامت في رأسها أفكارٌ وذكرياتٌ وأسئلة. كانت تقطع الصّمتَ أحيانًا تنهيدةٌ منها أو منه، لكنّ أحدًا منهما لم يقل شيئًا. شعرتْ أنْ لا شيء يهمّ، وأنّ أيّ كلام عن خيانته لها سيخفِّف من وقع جريمته التي قالت له إنّها لا تتمكّن من تخطّيها. أمسك يدها وحاول أن يسترضيَها. أفلتتها وسألته: "هل نظرتَ في عينيها كما كنتَ تنظر في عينيّ؟ هل قبّلتَ شفتيْها كما قبّلتَ شفتيّ؟ كيف لمستَها؟ أين كنتُ وأنت تنساني في حضنها؟"

- أقسمُ لك، لا توجدُ امرأةٌ أخرى.
لم تتركهُ يكمل. كان يحلف برحمة أبيه، وكانت تعرف أنّه يكذب. كيف يمكن أنْ يكذّب رجلٌ قلبَ امرأة عرف الحبَّ؟

أضواءُ الطّريق باهتة. صوتُه يتوسّل. يداه تبحثان عن يديها. موسيقى الرّحابنة تطنّ في أذنيها. النّجوم التي سهرا تحتها. قمر تمّوز العملاق. شجر الصّنوبر الذي ناما تحته. طريق طويل وعتمة هائلة. شجر كثيف مخيف ومعتم. قلبها ينبض بقوّة. بكاء. بنت صغيرة تقطف الوردَ وترميه بعبَث في وجهه. وجهُه يركض خلفها في يومٍ مشمس. هي تمسح العرقَ عن جبينه. هو يستلقي في فيء شجرة صارت بيتًا. بيت وحديقة ومرجوحة. موسيقى وامرأة تعدّ كيكة بالتّفاح والجزر. نسيم عليل وعيناه ومرجوحة يجلسان عليها بصمت. فستانها الأزرق يرفرف في النّسيم ومرجوحتها تتمايل. عيناه، دمعها، وفراغ لانهائيّ يمتصّ الكون.

قال شهود عيان إنّهم رأوْا سائق الشّاحنة يزيح بيده عن وجهه شيئًا ما. بدا الجنون في عينيه وهو يقود، كأنّما هو سكران أو ممسوس. وروى آخرون أنّ سيّارة الرينو توجّهتْ نحو الشّاحنة مباشرةً، وأنّ المرأة كانت تقود بسرعة جنونيّة متوجّهة بطواعية وكأنّها مسحورة أو مخدّرة. لقد تركت السّيارة تنزلق تحت الشّاحنة.

الابتسامة هي قوس قزح الدموع