عرض مشاركة واحدة
قديم 06-12-2017, 12:57 AM
المشاركة 2
ماجد جابر
مشرف منابر علوم اللغة العربية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي التكملة
دائم بين الخير والشر. وهذا الصراع في حقيقة الأمر هو جوهر كل فن عظيم. " (11)
وينظر: أثر التراث الشعبي في تشكيل القصيدة العربية المعاصرة،(قراءة في المكونات والأصول)، د. كاملي بلحج، ص 40، من منشورات اتحاد الكتاب العرب،دمشق – 2004.
وشاعرتنا قصدت من استخدامها للأسطورة محاولة إعطاء القصيدة العمق الأوسع من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري، لتقودنا الشاعرة إلى عالم الدراما الشعرية باستغلال شخصية "هيرا" الأسطورية..
وتقول في المقطع الخامس:
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ
يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ
يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا
عَلَى
قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ
وَعَلَى
اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
"إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ" : كناية على أن الغرب يقود الشرق إلى مستنقع مجهول بائس ومستقبل كئيب حزين.
"يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ" :كناية عن سعي الغرب بكل جهده وقوته للسيطرة والاستغلال، والخطاب موجه للأسطورة "هيرا" ممثلة الغرب عندنا هنا نحن العرب والمشرقيين.
"يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ": وهنا تتجلّى الاستعارة التنافرية، وهي صورة بلاغية تقوم على الجمع بين متنافرين لا علاقة جامعة بينهما؛ لخلق منظومة شعرية ذات دلالة ومغزى يحقق الملائمة الإسنادية للموصوفات، كأن تسند الألوان أو الصفات إلى موصوفاتها، فالشِّعر لا لون له، لكن الشاعرة جمعت بين شِعْرها واللون الخروبي، خروب بلادنا؛ ليتحقق التنافر المطلوب والابتداع الشعري التخيلي البحت، وهذه المفارقة هي من صنعت من هذه الجملة، الشعرية المطلوبة.
"أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا"/ عَلَى"/ "قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ"/ "وَعَلَى"/"اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ" :
فالغرب بسطوته وغرور وزهوه بقوته يحرق، هو يزهو ويختال كما كانت تختال "هيرا" في أسطورتها بريشها الطاووسي، والعرب والشرق يكتوي ويدفع الثمن.
والجدير بالذ كر أن طائر الطاووس رمز للأسطورة "هيرا" ،وقيل في أحد الأساطير أن العملاق ذو المائة عين كان يتبعها ولما قُتل نثرت عيونه المائة على ريش الطاووس.
وتستمر الشاعرة في قصيدتها:
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ
تَنْفُشينَهَا
تَفْرُشينَهَا
بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ
وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
"كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ"/ "تَنْفُشينَهَا"/ "تَفْرُشينَهَا" :
كناية عن الموت الزؤام الذي يلحقه الغرب بالشرق، ويمهد لعدوانه فيدعي أنه محب للعدل والديمقراطية ورفاهية الشعوب ولا أطماع له فيها يقدمها وينشرفكره بطريقة تبدو أول الأمر جمالية لكن يعقبها الهلاك والخراب والدمار، ففي العراق وعد الغرب العراقيين بالديمقراطية وحياة الرغد، وعندما احتلوه أحرقوا الأخضر واليابس وبثوا ونفشوا وفرشوا سجاد الطائفية والتجزئة والدمار والفقر والخراب، و"كم" الخبرية جاءت هنا للتكثير، وتقول:
"تَنْفُشينَهَا"/ "تَفْرُشينَهَا" : وهنا تتلاعب الشاعرة في تكرار حروف بعينها لتوليد إيقاع موسيقي ينساب في ثنايا النص، وهما فعلان مضارعان يفيدان الاستمرار في التعذيب وتجسيد الواقع المرّ، والفعلان يدلا على المعنى تماما كما ينفش ويفرش الغرب الويلات في أرض العرب والمشرق عندما يحتلها..
"بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي" ، ونقول يشَعْشَعَ عَلَى أَعْدَائِهِ القَنَابِلَ : يغير بِهَا عَلَيْهِمْ، و"هيرا" بسيفها المشاغب تغير على الشاعرة، كما طائرات الغرب تلقي بحممها وبقنابلها وبما يسمى أم القنابل على المشرق والعرب، وهنا انزياح في التركيب، فقد قدّمت الشاعرة شبه الجملة "بِسَيْفِ شَغَبٍ" وحقّها التأخير على كل من الفعل والفاعل والمفعول به "يشعْشِعُنِي" وحقُّ كل التقديم، وهناك أيضاً انزياح إضافي في قولها: "بِسَيْفِ شَغَبٍ". وتنتقل الشاعرة إلى الأسلوب الإنشائي قائلة: "كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ" :والاستفهام يفيد التعجب أو إن شئت التعجيز، فالشاعرة أو الشرق لا يستطيعان ردّ سيوف الشغب بعدما تمكّن الغرب من السيطرة على منابع النفط وأرضه، فبنيران الغرب الجهنمية ضاع حذر الشرق ولم يعد ينفع :"وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟" وفي السطر كناية عن سطوة الغرب، وفي عبارة:"وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ" انزياح إضافي يولد الإثارة في نفس المتلقي.
"وعلى أية حال، فإن القول بجوهرية الأسطورة، في شعر الحداثة، غالباً ما ينهض من اعتبارها شكلاً من أشكال الوعي، وشكلاً من أشكال التصوير الفني. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن ثمة نوعاً من التوحيد بين الوعي الشعري الحداثي والوعي الأسطوري، وبين الصورة الفنية والأسطورة، فإن ذلك يعني أن شعر الحداثة لا يمكن عزله عن الأسطورة، حتى في تناوله للواقع. إذ إن الواقع ينبغي، بحسب ذلك، أن يبدو مؤسطراً في الشعر. والحقيقة أن شعر الحداثة كثيراً ما رأى في الأسطورة حاملاً موضوعياً لتجاربه وتصوراته الشعرية، غير أن القول بذلك شيء، والقول بجوهرية الأسطورة شيء آخر تماماً.‏ "(12)
وفي المقطع السادس، تقول الشاعرة:
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ
لَّ
قْ
تُ
كِ
نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
"بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ": عرفت "هيرا" بالمشاغبة والغيرة على زوجها زيوس مُتعدد العلاقات النسائية، وبلغ من مشاغبتها حداً جعل "زيوس" يُعلقها من معصميها بقيد ذهبي بين الأرض والسماء.
"بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيم":ِ "الأديم" و"السديم":كناية في كل منهما عن صراع الشرق والغرب، فقد علّق "زيوس" كبير الآله زوجته "هيرا" لتكون عيناً وعوناً للغرب على الشرق، وتكرار حروف بعينها في هذين الاسمين يولد إيقاعا في ثنايا النص.
"مِنْ مِعْصَمَيْكِ" و"/ عَ/ لَّ / قْ/ تُ/ كِ" : والمعروف أن "هيرا" قد عٌلِّقت من معصميها بقيد ذهبي بين السماء والأرض لمشاغباتها.
"نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ": علِّقت "هيرا" بين السماء والأرض كما النجمة في السماء المتلألئة تتباهى؛ لتكون أسطورة ينظر إليها بلوعة والتياع.
"وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ": وفي عبارة "وعَرَائِسُ الصُّدُورِ" انزياح إضافي.
"تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ" ولقد تكرر كل من صوتي التاء والثاء في كلمة "تثرثرك" لتوليد إيقاع في النص، وهذان الصوتان يدلان على المعنى، معنى الثرثرة والحديث.
"جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!": وثرثرة "هيرا" وهي عين وعون للغرب على الشرق فيها التحدي لزوجها بسبب غيرتها المفرطة، وفيها التحدي أيضا للعرب والمشرق، وفي عبارة"جُمُوحَ تَحَدٍّ" انزياح إضافي، فاستخدمت الشاعرة أُسلوبَ "الاتّساع" أو الاختراق أو الانزياح، وهو واحدٌ مِنَ الأساليبِ التّحويليّةِ، الّتي تطرأُ على العباراتِ والتّراكيبِ النّحويّةِ..كما وظّفت الأسطورة، "ويرى يوسف اليوسف أن الأسطورة لم تدخل إلى الشعر، لكي تكون "بمثابة عتلة رافعة للقصيدة. وإنما جاءت بوصفها الرؤيا الشعرية نفسها، وبوصفها جوهر التركيب البنيوي للقصيدة عينها"(13). ويؤكد ذلك بتعداده للمزايا، الفنية التي وفّرتها الأسطورة للشعر، وهي: تعميق الكيف الدرامي للقصيدة، وإعطاء المفاهيم والتصورات بعداً شخصياً، وإعطاء المضمون بعداً كونياً، والتخلص من الزمن أو تعطيله، والتعبير عن رغبة الشاعر في التطهر والتجدد.(14).‏ ‏
و"الأسطورة والشعر شيء واحد لا انفصال بينهما، والبعض يرى أن الاستعارة بنائياً هي الميدان المشترك بين الأسطورة والأدب، على الرغم من أنهما يختلفان من حيث التكوين. فهل الاستعارة أسطورة مكثفة، أم أن الأسطورة استعارة موسعة؟.(15)
وتقول في المقطع السابع:
أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟
أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا
يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
"أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟": وتنتقل هنا الشاعرة لأسلوب الإنشائي، فالنداء يفيد الاستهزاء ب"هيرا" وقد حذفت الشاعرة حرف النداء من "حبيبتي" ليتشكل لدينا انزياح بالحذف و"يعد الحذف من أبرز الوسائل الشعرية التي يستند إليها المبدع من أجل إثراء نصه أدبياً "وتتأتى القيمة الفنية لآلية الحذف من أن بعض العناصر اللغوية يبرز دورها الأسلوبي بغيابها أكثر من حضورها" بالإضافة إلى قدرتها على تنشيط خيال المتلقي، حيث إنها تشكل "عنصرا حافزا –له- لكي يحضر في الخطاب ويسهم في استدراج المحذوف وتقديره والدخول في وصفه منتجاً له ومساهماً في تشييده"(16)
"أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا": والاستفهام هنا يفيد التهويل.
"يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟": وتسخر الشاعرة من "هيرا" الجميلة والتي لم يعد جمالها يثير الشاعرة، المعلقة بين السماء والأرض بسبب غيرتها ومشاكساتها ولم يخلصها من قيدها سوى ابنها الوحيد القبيح هِيفَايْسْتْيُوس الذي كانت تخجل منه لعاهته
وتنتقل الشاعرة في نصهل للمقطع السابع:
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ
يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي
يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ
عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
"قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ": وهنا إشارة لطبع "هيرا" المجبول على الغيرة، وكأني بالشاعرة تريد أن تقول بأن الغرب لا يقبل ولن يقبل ازدهارا أو تقدما للشرق بسبب أحقاده وغيرته وطبعه الغشوم.
"يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي": كناية على رفض الشاعرة لأفعال "هيرا" في الشرق ورفضها لكل ممارسات الغرب الجائرة بحق الشرق والعرب خاصة. وفي السطر انزياحان، فقد أسندت الشاعرة الاختلاس للؤلؤ، وجعلت لخفق الشاعرة لؤلؤأً.
"آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي": وقد جانست الشاعرة بين كل من"لَيْلِي" و "وَيْلِي" جناس غير تام؛ لتوليد الإيقاع في ثنايا النص. والليل كناية عن الظلام والدمار الذي يحدثه الغرب في الشرق بحروبه وإلقاء حممه واحتلالاته وقهره للشعوب المغلوب على أمرها، وكل ذالك مصدر لويل الشاعرة.
"يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ": وهنا أيضا ثلاثة انزياحات متتالية، الأول في قولها: " ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ" وهو انزياح إضافي، فالمتلقي عندما يسمع كلمة "ذَاكِرَةَ" يتوقع مضافاً إليه مناسباً ككلمة "الشخص" مثلا لكنه يتفاجأ بمضاف إليه "أَنْفَاسِكِ" وهذا الانزياح يولد الإثارة في نفسه، وهو من جماليات الانزياح.. وذلك بخلخلة بنية التوّقعات ولإحداث فجوة، تعمّق حسّ الشعريّة في نفس المتلّقي، ممّا يكسب النص توتّراً وعمقاً دلالياً خاصاً، فقد تفجّر المُركَّب بالشعرية باعتباره نقطة التحوّل ومنبع الإمتاع. والثاني في قولها: "أَنْفَاسِكِ" مجاز مرسل علاقته الجزئية، فالأنفاس جزء من الشخص، والثالث قولها:" أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ" فالمتلقي عندما يسمع كلمة "أنفاسكِ" يتوقع مضافاً إليه مناسباً ككلمة "المتسارعة" مثلا لكنه يتفاجأ بمضاف إليه "الْمَبْذُورَةِ" وهذا كناية عن عيون "الغرب المبثوثة في كل نواحي الشرق للسيطرة والاستغلال وهذا يمثله "هيرا" وعيونها.
"عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي! ": كناية على أن أفعال الغرب المهينة والمدمرة حولت آمال الشرق المتمثل في الشاعرة إلى رماد، استعارة تصريحية.

وفي المقطع الثامن تقول الشاعرة:
أيْنَ مِنِّي "حَبِيبِي"
نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا
مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
"أيْنَ مِنِّي "حَبِيبِي": استفهام يفيد التشويق، تتشوق الشاعرة إلى الحبيب عيسى بن مريم والى الخير والحق وعدالة الرسالة في أتون ما يحيقه الغرب بالشرق من ويلات. وتكرر الشاعرة هذه البداية الاستهلالية في مقاطعها، و"يعد التكرار في نظر النقاد والدارسين تقنية أسـلوبية تحـدث علـى مـستوى الـنص، فتشيع فيه حركة ملحوظة تمتاز بالعذوبة والاسـتحباب، وهـذا مـا يجعلـه يمتـاز بالفنيـة والجمالية المطلقة إذ يتجاوز بنيته اللفظية إلى إنتاج فوائـد ومرامـي جديـدة داخـل أتـون العمل الفنـي، في حـدث فيـه جلبـة وموسـيقى بواسـطة اسـتحداث عناصـر متماثلـة ومواضـع مختلفة من العمل الفني، كما يعد التكرار مرتكز الإيقـاع بجميـع صـوره ويعمـل بـصوره على توطيده وتمكينه من معمارها، فنجده ماثلا في الموسيقى يدعم تواترهـا وحركتهـا الانسابية، كما تعتمد عليه نظرية القافية بشكل أساسي في الشعر وسر نجـاح الكثيـر من المحسنات البديعية، ويظهر ذلك جليا في العكس والتفريق والجمـع مـع التفريـق ورد العجز على الصدر في علم البديع العربي" (17)
"نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي": وهنا انزياح بالحذف، والخبر محذوف تقديره "هذا" أو هذه"،وهذا الحذف يثير ذهن القارئ ويشوقه للحصول على الجواب.
فقد انزاحت الشاعرة بالنص حيث حذفت المبتدأ. والانزياح هو انحراف الكلام عن نسقه المألوف، وهو تقنية يستخدمها الشعراء للتعبير عـن
تجربتهم الشعورية، وظاهرة الانزياح في شعر آمال رضوان قد أدت إلي تقوية لغتها الشعرية وابتعادها عن الكـلام العادي والمألوف، كما أدت إلي لفت انتباه المتلقي وإثارة ذهنه وإيصاله إلى اللذّة.
"كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا": كم التكثيرية؛ كناية عن كثرة ما انصاع الشرق عامة والعرب خاصة إلى سموم الغرب وما يبثونه من سموم يضعونها في الدسم لاصطيادنا.
"مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟":
وكثيرا ما لحق العرب والشرق واتبعوا أوامر الغرب وممثلتهم "هيرا" حتى الهلاك.
وتقول الشاعرة في المقطع التاسع:
أَيْنَ مِنّي "حَبِيبِي"
كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ
ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
أَيْنَ مِنّي "حَبِيبِي": وتكرر الشاعرة هذا السطر في بدية بعض مقاطعها،
"ومما لاشك فيه أن التكرار الاستهلالي يزود النص الشعري بـزخم ممتـع مـن الـدفق الغنائي تصنعها الحركات الإيقاعية المتعاقبة في الـسياق بهـدف إبـراز النبـرة الخطابيـة وكشف عواطف وأحاسـيس الـشاعر التـي ود نقلهـا للمتلقـي محافظـة علـى وهجهـا وشـعلتها الدلالية المؤثرة، كما «يكشف عن فاعلية قادرة على منح النص الشعري بنيـة متـسقة، إذ كان كل تكرار من هذا النوع قادرا على تجسيد الإحساس بالتسلـسل والتتـابع، وهـذا التتابع الشكلي يعين في إثارة التوقع لدى السامع، وهذا التوقع من شـأنه أن يجعـل الـسامع أكثــر تحــضرا لــ سماع الــشاعر والانتبــاه إليــه" (18)
و"للتكرار من مزايا فنية ولمسات جمالية عديد ة سواء من حيث تأثيره في المعنى أم من حيث تأثيره في الموسيقى الشعرية فضلا عن الدلالة النفسية التي يستطيع أن يضيفها على القصيدة وله إلى أثره في تقوية النغم ،فالشاعر المعاصر يبتعد ما أمكن عن الوزن والقافية التقليديتين، متجها نحو التكرار وسيلة لأغناها والتجديد فيها ، فالإيقاع الصوتي الذي يخلقه تكرار جرس الحروف والكلمات ، تظهر القيمة الفكرية والنفسية التي يعبر عنها من خلال العناية بتكرار لفظة معينة أو مقطع معين " (19)
ومما لا شك فيه أنَّ التكرار الاستهلاليّ يسهم بما يوفّره من دفق غنائيّ في تقوية النبرة الخطابية، وتمكين الحركات الإيقاعية، من الوصول إلى مراحل الانفراج، بعد لحظات التوتّر القصوى.
وهكذا جاءت الأبيات مشحونة بطاقة دلالية، تعبّر عن حالة الصراع الأزليّ بين "الشر/ والخير"، الشرّ المتمَثِّل في مطامع الإنسان الغربي ونوازعه وغرائزه، والخير المتمثِّل في براءة الرسالات السماوية السمحة وطهرها وموطنها الشرق. ومن هنا ولّد التكرار قدرة فائقة على رسم حركة تتابعية، ترصد حالة الصراع وتتجاوزها زمنياً، للوصول إلى المشاعر النبيلة. وما هذا التكرار المتتابع لصيغ النداء، إلا تجسيد عن حالة توق شديدة أو رغبة عارمة في البقاء تحت ظل سنديانة الرسالات، رمز الخير والحب والعدل والسلام.
"كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي": كناية عن لجوء الشاعرة إلى الرسالات السماوية، حيث الحق والعدل والخير، بعيدا عن مكر الغرب وظلمه وتظلمه وويله وويلاته، وذكرت الشاعرة "المغارة" وأرادت من كان فيها، مريم العذراء والسيد المسيح، مجاز مرسل علاقته المكانية.
"يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ":كناية ألا منقذ من ويلات الغرب "وهيرا" إلى النور السماوي.
"ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟": والمغارة هنا، مغارة المهد التي ولد فيها نبي الله السيد المسيح، وقد ذكرت الشاعرة "المغارة" وقد أسندت الشاعرة التنجية للمغارة.
وتنتقل الشاعرة إلى المقطع العاشر قائلة:
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ
دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ
تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ
فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
"يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ" و"دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ": وتستهل الشاعرة سطرها هذا بالأسلوب الإنشائي، والنداء يفيد التعجب، والمنادى هو "هيرا" أي الغرب، وتقول الشاعرة بأن هدف الغرب السيطرة على الشرق والنفط العربي.
"تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ": كناية عما يلحقه الغرب بالشرق عامة والعرب خاصة من حروب وقتل ودمار وتشريد وتشتيت وضياع وتفتيت وفوضى. وهنا تشبه الشاعرة الجحيم بشيء يسكب، استعارة تصريحية أو إن شئت فهي انزياح دلالي، وهناك انزياح إضافي في قولها "فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ"
"وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ": وتتوالى الانزياحات في هذا لسطر، فقد أسندت الشاعرة القوارير لهجرها، كم أسندت هجرها للدغل، وهو من يتصف بالشر فيبطنه مظهرا الخير.
"فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!":كناية عن أن الغرب يفرح ويسعد بتعاسة العرب والشرق.
وتستمر الشاعرة في شدوها:
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً
يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
"إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً": والاستفهام يفيد التعجب، تتعجب الشاعرة من استمرارية الشرق في الخضوع لنزوات الغرب الشيطاني.
"يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟": وتتعجب الشاعرة من تصديق العرب والشرق للكلام الغربي المعسول الذي يعقبه القتل والتدمير والتفتيت والسيطرة.
وتقول:
ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
"ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ"/"تُزَيِّنُكِ"/"فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة! ":
وقد كررت الشاعرة "ها" التي للتنبيه مرات كثيرة وهي تخاطب "هيرا" أو الغرب، والتكرار لا يقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في السياق، وإنما ما تتركه هذه اللفظة من اثر انفعالي في نفس المتلقي، بالإضافة إلى كونه ظاهرة موسيقية ومعنوية، ولإغناء دلالة الألفاظ، وإكسابها قوة تأثيرية، مما يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعادا تكشف عن حالة الشاعر النفسية. وترى الشاعرة أن كل شيء غير سليم في الشرق يروق لنهم الغرب الأناني بطبعه، وقد أسندت الشاعرة الشهوة للشرائط، كا أسندت الأجراس للنرجسية، وفي هذه السطور تتوالى الانزياحات الإضافية.
وتقول الشاعرة في ختام نصها:
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ
"هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي": وتكرر الشاعرة "ها" منبهة الغرب ولافتة نظره أن في ياسمينه احتراق، وأن قوله معسول عكس ما يفعله، وللياسمين شرارات تغسل وتنظف.
وتكرر الشاعرة في استهلالها لهذا المقطع والمقطع السابق ب"ها" و" تتـضح فاعليـة تكـرار الشاعرة ل ( ها ) ، وهي حرف تَنْبِيهٌ تَفْتَتِحُ العرب بها الكلام بلا معنى سوى الافتتاح، وتكرر عند الشاعرة فـي الاستهلال بهذا المقطع والمقطع السابق بهدف توليد الإيقاع الموسيقى الذي خلفته ونشرته على تراكيب الـنص، فـأنتج تناسـقا وانـسجاما بـين بنـاه، ممـا سـاهم فـي تـضافر المعـاني وتعميـق الـدلالات مـن خـلال التعـابير التي أغرقـت الخطـاب بالـدفقات الغنائيـة، وأكـدت « فاعليـة الأصـوات في قـدرتِها علـى إضـافة "طبقـة " دلاليـة ـ مـن خـلال الطبقـة الـصوتية، وهـي فـي ذلـك -كأَنهـا إيمـاءٌ مكَثَّـف يختـزلُ إضـافات وصـفية أو تـشبيهية، فكأَنهـا لـذلك - معنـى فـوق المعنى. (20)
"أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ":كناية عن أن الشاعرة والمشرق والعرب كلهم مخدوعون بأوهام الغرب ووعوده الكاذبة، وفي قولها " بِزئبقِ مَرَايَاكِ" اختراق إضافي.
"إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي":وتنتقل الشاعرة للأسلوب الإنشائي، والاستفهام يفيد التحسر على ما لحق بالعرب والشرق من ضيم وجور، وتصرفات الغرب الذي قوله يخالف فعله، يظهر الخير ويبطن الشر، فللزنزانة ناي تبكي صاحبها العربي أو المشرقي، وفي عبارة "نَايُ زِنْزَانَتِي" خرق إضافي، فقد أسندت الشاعرة الناي للزنزانة.
"وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ! ": كناية عن الضياع والفقد الذي لحق بالعرب والشرق، واتكأت الشاعرة في القصيدة وخاصة في مقاطعها الأخيرة على الفعل المضارع الذي يصور استمرارية مأساة العرب والمشرق، في مثل:" تَظَلُّ، تُلَوِّحُنِي، تَبْكِينِي، تَغْسِلُنِي، تُزَيِّنُكِ، يَلْبَسُنَا، تَنْتَفِخِينَ،...وغيرها.
إن القصيدة الحديثة لا تؤثر بمضمونها فحسب لأنها ليست بياناً سياسياً أو اجتماعياً بل تؤثر بشكلها ومضمونها معاً من حيث هي بنية لها وظيفة جمالية تشمل الفائدة والمتعة معاً. من هنا أكد رواد الشعر العربي الحر أن للشعر وظيفته المتميزة عن الوظائف التي يقدمها العلم والفلسفة والدين. إنها وظيفة جمالية تمتاز بالشمولية والبقاء، ولها تأثيرها الكبير في الذات الإنسانية. فهي وظيفة كلية تشمل السياسي والاجتماعي والفكري والنفسي. على أن السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو النفسي في الشعر يختلف عن الواقع. فالشعر وإن استفاد من هذه الحقائق فإنه يحولها إلى قيمة فنية. ثمَّ إن الشعر لا يقف عند ما يتوصل إليه العلم أو الفلسفة وإنما يبحث عن حقيقته الخاصة وبطريقته الخاصة أيضاً ولا يقدم معرفة جاهزة وهذه الحقيقة لا تنفصل عن النص الشعري من حيث هو شكل جمالي. إنها حقيقة ممتعة، حقيقة جمالية، ف"هي جماع كل أصناف الحقيقة لأنها مكتشفة بالشعر ومودعة فيه، لأنَّ الشعر تعبير عن جوهر الكون والطبيعة والتاريخ والإنسان والحقيقة التي تكمن في الشعر هي نموذج للحقائق الأخرى لأنها حقيقة تعبر عن تمام الإنسانية وكمالها، وعن كامل اندماجها في شرطها الإنساني." (21)