عرض مشاركة واحدة
قديم 10-13-2011, 04:01 PM
المشاركة 1094
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
إعادة محاكمة المتنبي

( مقال رئيسي )

من المعروف أن المتنبي قد سجن لقوله:

ما مقامي بأرض نخلة .. إلا كمقام المسيح بين اليهود

وقوله:

أنا في أمة تداركها الله.... غريبٌ كصالح في ثمود

فكان هناك من اتهمه بادعاء النبوة، لأنه كان يضع نفسه في مقام الأنبياء.

وربما أن المتنبي قد ادعى النبوة فعلا، على اثر تلك الطاقات والأحاسيس الجارفة التي كانت تتدفق في ذهنه وقلبه، كنتيجة لظروف يتمه وبؤسه الشديد، كونه فاقد الأب وألام، وعاش طفولة مشرده، وصفها طه حسين بالشاذة، ربما لشدة بؤسها، وقد ترافق ذلك مع ما توفر للمتنبي من فرصة لتعلم اللغة العربية من بيئتها الطبيعية القاسية، البادية...حيث عاش سنوات عمره الأولى فيها.

ولا شك أن تلك الطاقة الذهنية المتفجرة، التي نتجت عن ظروف اليتم، والتشرد الذي أصاب المتنبي تفتقت على شكل مخرجات إبداعية عبقرية بعدة صور.

فكان مثلا صاحب ذاكرة فوتوغرافية، وكان يرتجل الشعر الذي ينساب من مخيلته وعلى لسانه انسياب الماء من النبع العالي الصافي... ذلك الشعر الذي ولد جميلا عبقريا فذا..وكان دائما ما يحتوى الحكمة عبر صور شعرية غاية في الروعة، والصنعة الشعرية.

ولا شك أن المتعمق في دراسة سيرة المتنبي يجد ما يشير إلى أن طاقات ذهنه البوزيترونية قد أدت أيضا إلى بروز صفاته القيادية، وقد برز حبة لان يكون حاكما في سن مبكرة مما جعله يتقرب إلى الحكام ويندفع إليهم سعيا منه لان يتولى إمارة من الأمارات مهما صغر حجمها...وقد استمر على ذلك طوال حياته.

وقد كان فارسا شجاعا شارك في الحروب ووصفها، ووصف الخيل، وقال عن نفسه:

الخَيْل واللّيْلُ والبَيْداءُ تَعْرفُني ... والسّيْفُ والرّمْحُ والقرْطَاسُ والقَلَمُ

كل تلك الملكات التي تفجرت في ذهن المتنبي منذ نعومة أظافره، وكل تلك الطاقات، جعلته حتما يشعر بأنه إنسان مختلف، ومميز...إلى حد أنها جعلته يظن بأنه إنسان فوق العالم...والمعروف أن ذلك الإحساس لازمه منذ طفولته المبكرة حيث قال في واحدة من بواكير قصائده:

أي محل أرتقي؟ .. أي عظيم أتقي؟
وكل ما قد خلق الله .. وما لم يخلــقٍ
مُحتقر في همتي .. كشعرة في مفرقي


صحيح أن اهتمام البشرية باليتم، والأيتام، يمتد إلى أزمان سالفة طويلة..حتى أننا نجد بأن حمورابي قد ختم الوثيقة التي وثق عليها شريعته بقوله أن هذه الشريعة قد وضعت لحماية اليتيم والأرملة...وفي ذلك، ما يشير إلى يُتم حمورابي نفسه، الذي أصبح بفضل ذلك اليتم عظيما خالدا.

وقد استمر الاهتمام بالأيتام عبر التاريخ من منطلق ضرورة تقديم الرعاية لهم...لكن ربما أن أحدا لم يهتم بالتدقيق في اثر اليتم على اليتيم وعقله، وطاقاته، وقدراته، وعبقرية، ومخرجات ذهنه...حتى عصرنا الحالي، حيث توفرت لنا وسائل بحث أظهرت بأن جميع الأيتام من كل ألازمان تجمعهم صفات، وسمات مشتركة، لكنها تتفاوت من شخص إلى آخر كنتيجة لمجموعة من العوامل الذاتية والبيئية...وان لليتيم سيكولوجية تختلف عن غيرها من الناس.

ونجد أن المبدعون العباقرة عبر التاريخ في كل المجالات كانوا من الأيتام...والاهم من ذلك نجد أن شريحة القادة العباقرة الخالدون كانوا أيضا من الأيتام..وهو ما يؤكد على تلك العلاقة بين طاقات الذهن المتفجرة والناتجة عن اليتم وسمات الشخصية العبقرية المبدعة في كل المجالات بما في ذلك مجال الشخصية القيادية.

لكن أحدا من الأيتام لم ينتبه إلى تلك العلاقة...

وظل الجميع يعتقد أن العبقرية هي نتاج موهبه تولد مع الشخص، وهو ما أوحي للشخص الموهوب، وللآخرين حوله بأن صاحب العبقرية شخص مميز عن الآخرين بدليل تلك القدرات...

من هذا المدخل نجد أن كثير من الناس، والذين امتلكوا قدرات عبقرية بارزة لا تفسير لها إلا أنها كانت هبه تم اختصاصهم بها..ولذلك نجدهم انزلقوا دون دراية أو وعي منهم بما يعتمل في نفوسهم إلى الاعتقاد بتميزهم وبتبرير تلك الصفات والقدرات البارزة عند البعض منهم نجدهم قد انزلقوا أكثر فأكثر إلى ادعاء النبوءة.

وحيث أن الشخص اليتيم شخص يمتلك فعلا صفات مهولة خاصة تلك السمات التي تسمى بالقدرات الكرزمية، والتي يكون لصاحبها قدره بالغة على التأثير في الجمهور، نجد انه يجتذب الكثير من الإتباع.

ولو أننا دققنا في سيرة حياة أصحاب النظريات الأرضية الوضعية الذين أدعوا النبوة ووجدوا الكثير من الأتباع لوجدنا أنهم أيتام...ومنهم مثلا البهائيين أتباع بهاء الدين ومن قبله من أطلق عليه اسم (الباب)، والمونيين أتباع الكوري مون الذي استقطب حوله ما يزيد على 2 مليون من الأتباع في مجتمع مثل مجتمع الولايات المتحدة.

وخلاصة القول،،

كل ما قيل هنا يظهر أن المتنبي لم يكن يدرك على الأرجح أن ما كان يشعر به هو نتاج نشاط زائد لعقله ليس إلا...فظن انه وقد امتلك كل تلك القدرات والصفات، والسمات، العبقرية، بأنه لا بد أن يكون إنسان مميز...ومن هنا انزلق في ادعاؤه النبوة بتبرير ما كان يجتاحه من مشاعر وطاقات عارمة...خاصة انه كان يشاهد أثرا مهولا لما كان يقوله ويفعله على من حوله من البشر.

فلا بد أذا أن المتنبي كان يجهل ما يعتمل في داخله وربما أن في ذلك ما يبرر خروجه عن النص...ولا شك ان ما فعله كان ناتج عن وفرة هائلة في طاقات الدماغ...نتجت عن طفولة بائسة تؤدي عند البعض الى العبقرية وعند آخرين الى الشذوذ، وتؤدي عند البعض الى الجنون، وعند البعض الاخر الى الانتحار...ومنهم من يتحول الى قتله شرسين او ربما الى قتله مأجورين.


وقد احسن المتنبي أن لجم طاقات ذهنه المتفجرة وحصرها في مجال الابداع الشعري الفذ، المتفوق...بالغ التأثير.