عرض مشاركة واحدة
قديم 12-23-2010, 01:21 PM
المشاركة 5
ريم بدر الدين
عضو مجلس الإدارة سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
العزاء ـــ بقلم: أفيتيك إساهاكيان ـ ت.هراج كل سحاكيان
حدث ذات يوم أن قضى الابن الوحيد لأرملة نحبه، تاركاً وراءه الأم الثكلى في حالة يُرثى لها. ارتدت الأم المفجوعة ثياب الحداد واستسلمت للدموع وانكفأت عن ممارسة أي نشاط وجثمت في الدار، لا تتحرك من مكانها إلا لتحرك الحطب وتوقد النار، فكان الدخان المنبعث ينتشر إلى كل أكواخ القرية حاملاً تأوهاتها الممزقة لنياط القلب. وكان أهالي القرية يرثون لحالها قائلين:‏
-يا لها من امرأة مسكينة تعيسة، ما أشد مصابها.‏
اجتمع نفر من الحكماء المسنين من أصحاب الخبرة والتجربة وجاؤوا إليها ووجدوها تنتحب على ضريح ابنها فلم يبخلوا عليها بالمشورة:‏
-كفى نحيباً يا أيتها المرأة البائسة، فالبكاء لا يعيد الفقيد والموت قدر لا مفر منه، فكلنا سنؤول إلى الزوال عاجلاً أم آجلاً. هذه سنة الحياة وعلينا أن نتقبل قدرنا بكل قناعة ونتمتع بنعم الحياة قبل فوات الأوان. عودي إلى بيتكِ، فأحفادك اليتامى بأمس الحاجة إلى حنانك وعطفك. عودي إليهم ودعي الفقيد يرقد بسلام، فطوبى له ولرحيله المبكر من هذا العالم الفاني..‏
هكذا وعظ حكماء القرية، أصحاب الحنكة والدراية وقد أرادوا بصراحتهم تلك أن يستروا علامات الشفقة التي ظهرت على وجوههم، لكن المرأة الحزينة لم تقبل مواساتهم ومضت تبكي بمرارة.‏
واجتمع أثرياء القرية من أصحاب الجاه والنفوذ، وقصدوا المقبرة ووجدوا المرأة المنكوبة وهي تجلس قرب ضريح ابنها تبكي بحرارة فتوجهوا إليها قائلين:‏
-كفى بكاءً يا امرأة، فمن كتب له أن يموت سيموت. إن أحفادك لا يتمنون لكِ الموت، فعودي إليهم وأشعلي موقد الدار واعتني بهم، فلن يطول الوقت حتى يكبروا ويتقلّدوا دور الفقيد. لا تنسي أننا على استعداد لمساعدتكِ.‏
ولكن المرأة المفجوعة لم تتكلف عناء رفع رأسها واستمرت في النحيب وكأنها فقدت الأمل نهائياً من كل ما حولها.‏
حدث وقتها أن مرّ عابر سبيل من القرية ذاتها وما أن سمع بكاء المرأة حتى تفتت قلبه واختلجت مشاعره فتقدم بخشوع واخترق الجمع المحتشد ليقترب من مصدر هذا العويل الذي أنساه عناء السفر. وما أن أصبح بجوارها حتى أحنى ظهره وقبل يدها بكل تواضع وذرف دمعاً غزيراً.‏
حينئذ فقط رفعت الأم المنكوبة رأسها ومسحت دموعها وشعرت أخيراً بأن الحمل الثقيل بدأ يخف على كتفيها وانفرجت أسارير وجهها وشعشع بريق الأمل في عينيها. وسرعان ما نهضت ومضت إلى بيتها بخطى واثقة وأشعلت النار من جديد في الموقد الخامد.‏