عرض مشاركة واحدة
قديم 08-07-2010, 12:59 AM
المشاركة 10
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي الرسالة التاسعة
عفوا هذه الرسالة نظرا لطولها ستكون على جزئين الجزء الأول :نيويورك 28 كانون الثاني 1920عزيزتي الآنسة ميتريدين أن تعلمي بالضبط معنى ندامتي وماورء طلبي المغفرة منك من الأسرار النفسية . وإليك بالضبط البسيط ما كان وسيكون وراء تلك الندامة وتلك المعاني وتلك الأسرار وتلك النفسيات .لم أندم على كتابة تلك الرسالة المعروفة لديك " بالنشيد الغنائي " - ولن أندم .لم أندم على أصغر حرف فيها لا ولا على أكبر نقطة فيها - ولن أندم .لم أكن في ضلال لذلك لم أر داعياً للاهتداء.وكيف يا ترى أندم على أمر موجود الآن في نفسي مثلما كان موجوداً إذ ذاك ؟وأنا لست ممن يندمون على وضع ما في نفوسهم بين شفاههم . ولست ممن ينفون في يقظتهم ما يثبتونه في أحلامهم , لأن أحلامي هي يقظتي ويقظتي هي أحلامي , لأن حياتي لا تقسم إلى خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء .أما الاثم الذي اقترفته - أو توهمت بأني اقترفته وأنا بعيد عن عالم الموازين والكمية - فهو هذا : بعد أن قرأت كلامك عن ذلك اللبناني الذي زارك قبل مغادرتك القاهرة إلى رمال الاسكندرية - أعني ذلك الرجل الذي " بكل أسف لم تسكبي سهواً بعض قطرات من الماء الغالي على يده " معاقبة له على " أمر غير محمود" - بعد أن قرأت كلامك هذا انتبهت لشيء كان من الواجب عليَّ أن أفطن له قبل أن أضع تلك الرسالة في صندوق البريد , فظننت أو تخيلت , أو تصورت , أن تلك الرسالة قد سببت لك بعض الانزعاج من هذه الوجهة . ومن منا لا يتأفف ويتبرم إذا علم أن الأشياء المختصة به دون سواه قد مرت بين أصابع وأمام عيون من ليس لهم الحق بمعرفتها ؟هذا هو الأمر الذي انتبهت له فندمت وهذا هو الشيء الوحيد الذي طلبت إليك وضعه في صندوق النسيان . وقد دعوت " قلم المراقبة " والأسباب التي أوجدته والنتائج التي أوجدتها " بعالم الموازين والكمية "- دعوته بهذا الاسم لبعده عن العالم الذي كان يشغل فكري حينئذ بعد الجحيم عن غابة الحق .ولقد عرفت في العام الغابر عن " قلم المراقبة" ما يضحك البوم بين القبور ! فقد كان بعض الفتيان الموظفين في تلك الادارة النبيلة يفتحون الرسائل الواردة إليّ من الشرق ويذيلونها بالحواشي والسلامات والتحيات والملاحظات السياسية والعمرانية والأدبية وبعضهم كان يطلب مني المال لأغراض لم أسمع بمثلها .وأغرب من هؤلاء جميعهم مراقب في دمشق وجد فسحة بيضاء واسعة في رسالة موجهة إليّ فنمقها وطرزها بقصيدة طويلة يمدحني بها! ولو أخبرتك حكاية تلك القصيدة بتمامها لغضبت عليّ .أما تلك الرسالة المعروفة " بالنشيد الغنائي " فهي مني وبي وفيّ , وهي أنا مثلما كنت ومثلما سأكون , وهي الآن مثلما كانت بالأمس ومثلما ستكون في الغد فهلا آمنت وصدقت يا توما ( هو القديس توما أحد رسل المسيح الاثني عشر . لم يؤمن بقيامته الا بعد أن رأى آثار جراحاته ووضع فيها اصبعه . وهو الذي أدخل المسيحية إلى الهند .) أتريدين وضع اصبعك في الجرح يا ميّ ؟واسمحي لي أن أقول ثانية أنني أكره التهكم الدقيق والغير دقيق بين الأصدقاء , وأكره النكتة الفلسفية والغير فلسفية بين المتفاهمين بالروح , وأكره التكلف والتصنع في كل أمر حتى وفي الصعود إلى السماء . وأما سبب كرهي هذه الأشياء فهو ما أراه حولي في كل دقيقة من مظاهر هذه المدنية الآلية ونتائج هذا الاجتماع السائر على دواليب لأنه بدون أجنحة .أظن أن السبب الذي يجعلك أن تعزي إليّ " التهكم الدقيق " هو بعض ما جاء في " المجنون" وإذا صح ظني أكون أول ضحايا ذلك الكتاب لأن " المجنون" ليس أنا بكليتي , والأفكار والمنازع التي أردت بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لدي من الأفكار والمنازع , واللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست اللهجة التي اتخذها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه وأحترمه . ولكن إذا كان لا بد من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته فما عسى يمنعك عن اتخاذ فتى الغاب في كتاب " المواكب " لهذه الغاية بدلا من " المجنون" ؟ إن روحي يا مي أقرب بما لا يقاس إلى " فتى الغاب" ونغمة نايه منها إلى " المجنون" وصراخه . وسوف يتحقق لديك بأن " المجنون" لم يكن سوى حلقة من سلسلة طويلة مصنوعة من معادن مختلفة . لا أنكر أن " المجنون" كان حلقة طويلة مصنوعة من معادن مختلفة . لا أنكر أن " المجنون" كان حلقة خشنة مصنوعة من حديد , ولكن هذا لا يدل على أن السلسلة بكليتها ستكون من الحديد الخشن . لكل روح فصول يا مي , وشتاء الروح ليس كربيعها , ولا صيفها كخريفها .قد سررت جداً لانتسابك إلى عائلة لاويّة ( نسبة إلى لاوي الابن الثالث ليعقوب وقد خرج اللاويون , كهنة بني اسرائيل, من سبطة) , سررت إلى درجة قصوى وسبب هذا السرور الهائل هو هذا أنا ابن كاهن ماروني!! نعم فقد كان جدي , والد أمي, كاهنا متعمقاً بالأسرار اللاهوتية ! ( بيد أنه كان مولعاً بالموسيقى الكنائسية والغير كنائسية ولهذا قد غفرت له كهنوتيته.) وقد كانت أمي أحب أبنائه إليه أشبههم به . والغريب أنها عزمت واستعدت وهي في ربيع العمر للدخول إلى دير القديس سمعان للراهبات في شمال لبنان . أما أنا فقد ورثت عن أمي تسعين بالمئة من أخلاقي وميولي ( لا أقصد بذلك أنني أماثلها من حيث الحلاوة والوداعة وكبر القلب ) ومع أنني أشعر بشيء من البغضاء نحو الرهبان فأنا أحب الراهبات وأباركهن في قلبي . وقد يكون حبي لهن ناتجاً عن تلك الرغائب السرية التي كانت تشغل خيال أمي في صباها . وإني أذكر قولها لي مرة , وقد كنت في العشرين :

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب