عرض مشاركة واحدة
قديم 05-22-2016, 11:02 AM
المشاركة 9
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
نجتمع على مائدة الطعام جدّي و أبي و جدّتي و أمي و أختاي لسنوات عديدة . جدّي يتناول الفلفل المرّ فتراه يتأوه طالبا رشفة ماء تارة ، و متحمّلا مرارته حينا وعينه ترسل قطرات من دمع ، جدّتي تبتسم ابتسامة ماكرة ، ناطقة :" من أكرهك على هذا يا رجل ؟" قبل أن يوضع الطّاجين على المائدة نتحلّق حول صينية الشّاي ، جدّي يحكي لنا إمّا عن بطولات الأجداد أو عن معاناته مع الاستعمار ، أو عن مشاكله مع سكان القرية . أبي غالبا يكون تركيزه متماهيا مع ما ينقله الأثير ويتفوّه به المذياع ، جدّتي قد تجاري جدّي وتذكّره ببعض التفاصيل أو تضيف إلى قوله ماتراه مناسبا من تعليق ، أو تطلق جملة تهكّم وحين يسألها عن مبتغاها تحرّف الكلام في اتجاه آخر . عمّي عبد السلام لا نراه إلا في العطل منذ أن التحق بمدرسة بعيدة عن موطننا ، أمّي عادة تكون صامتة ساهرة على خدمة الجميع .
يوم الخميس تزورنا عمتي ربيعة بانتظام ، نشاغب المنزل في غياب والدي وذهابه إلى السوق ، غالبا ما ينتهي اليوم بعقوبة لي ولأختي عندما تغادر عمّتي مع أبنائها الثّلاثة جرّاء ما ألحقناه من أضرار بالمزروعات أو بالبيت . ابنتها الأولى تكبرني بعام وابنها أكبره بعام أيضا .
على حمارنا نحمل بعض لوز وخضر و زرع حسب ما جاد به الموسم متوجهين إلى قرية أخوالي ، أمي تحسّ بهجة عارمة و نحن في ضيافة جدّتي ، خالي يعمل بعيدا عن المنزل ، متزوج و أب لطفل رضيع ، أخوه مراهق في الثانية عشر أو يزيد يتابع دروس القرآن في المسجد ، ألعب بمعية أبناء خالة أمي .
جدّتي كلثومة امرأة حنونة ، تحس في حضنها أمنا عجيبا ، شريفة النسب ، باسمة الملامح ، لسانها سمح مبتهل ، روح طيبة ، عز نظيرها من امرأة .

قبل أن أذهب إلى المدرسة لم أكن أحسّ أنّي متميّز عن أقراني في المسجد ، ربما ما تبقى في ذهني غير بعض ذكريات ، طفل يستظهر سورة الغاشية ، فالتقط ذهني هذه الآية : " و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة ..." كان هذا الطفل يكبرنا سنا و كان مشاغبا بامتياز ، يكبرنا بأكثر من خمس سنوات ، قوي البنية ، مدوّر الرأس بشعره الميال إلى الحمرة و وجهه المنقط ، يخلع قلوبنا خوفا حين يتحدث عن عنزة المسجد و بغلة المقبرة ، حين يطوي جفنيه العلويين نحو الأعلى لتظهر حمرتهما فننخرط في البكاء و قد قوّس أصابعه و كشّر عن أنيابه كجنيّ محقّق .