عرض مشاركة واحدة
قديم 04-21-2014, 02:58 PM
المشاركة 14
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ماركيز… ذلك المحظوظ الحاسد
صبحي حديدي
APRIL 20, 2014

رحيل غابرييل غارثيا ماركيز (1927ـ2014) يعيدني، شخصياً، إلى ملفّين اثنين يخصّان أدبه الرفيع؛ يأخذ أولهما منحىً تقنياً صرفاً، يخصّ الترجمة إلى اللغات الأخرى؛ ويقترن الثاني بصفة الحسد التي ـ على نقيض ما يظنّ الكثيرون، غالباً ـ تتحكم بسلوك كبار المبدعين على مرّ العصور، وتلعب دوراً بنّاءً في تحفيز الفنون، وترقية حسّ التنافس والتجاوز والتفوّق. صحيح أنّ الروائي الكولومبي الكبير كان القاسم المشترك بين الملفّين، كلّ منهما بمقدار متفاوت، إلا أنّ الفوارق بين المنحى الأوّل والصفة الثانية كانت أقرب إلى صناعة التكامل الجدلي، بدل التناقض التناحري.
ففي مثال أوّل على الملفّ التقني، صدرت كما هو معروف ثلاث ترجمات، إلى العربية، لمذكّرات ماركيز: الأولى بعنوان ‘عشتُ لأروي’ من صالح علماني، والثانية ‘نعيشها لنرويها’ من رفعت عطفة، والثالثة ‘أن تعيش لتحكي’ من طلعت شاهين. وقد يهتف المرء، محقاً بالطبع: كم هو محظوظ هذا الـ’ماركيز′! روايته ‘مائة عام من العزلة’ قُيّض لها اثنان من خيرة آل الجندي معرفةً بالأدب والفصحى (سامي، وإنعام)؛ وذلك رغم أنّ المترجمَين نقلا عن الفرنسية، وليس عن الأصل الإسباني. وإذا كانت متابعتي سليمة، فإنّ سليمان العطار أنجز ترجمة ثانية للرواية ذاتها، صدرت في الكويت؛ وثالثة في لبنان، على يد محمود مسعود؛ ورابعة في لبنان أيضاً، من محمد الحاج خليل…
غير أنّ حظّ ماركيز في العربية لا يُقارن البتة بحظّه في لغة أخرى، جبّارة وكونية وكوزموبوليتية، هي اللغة الإنكليزية؛ إنْ لم يكنْ بسبب الذيوع الرهيب للشهرة الشخصية، فعلى الأقلّ لأنّ الترجمة الإنكليزية للرواية ذاتها هي التي جلبت له جائزة نوبل للآداب سنة 1982، كما قيل. وحين صدرت الرواية بالإسبانية للمرّة الأولى سنة 1967، تلقى ماركيز النصيحة الثمينة التالية من صديقه الروائي الأرجنتيني الكبير خوليو كورتازار: إعملْ على أن يترجمها غريغوري راباسّا، ولا تدعْ أحداً سواه يقترب منها، واصبرْ عليه حتي يقتنع بها، وانتظره حتى يشاء الله! ذلك لأنّ كورتازار كان يعرف ما يقول، حقّ المعرفة: لقد ترجم له راباسّا أصعب أعماله: روايته Rayuela، ‘لعبة الحَجْلة’ حسب قاموس منير البعلبكي، أو ‘الخَطّة’ كما نقول في بلاد الشام؛ العمل الوحيد (في ما أعلم) الذي يمنحك رسمياً قراءتين مختلفتين: الأولى ‘تقليدية’، تبدأ من الفصل الأول وتنتهي في ختام الفصل 56، حيث يعلمك كورتازار أنك تستطيع التوقف عن القراءة بضمير غير قلق أبداً، إذْ أنّ الفصول الـ 99 الباقية يمكن الاستغناء عنها؛ والقراءة الثانية ‘تركيبية’، يقترح الروائي ترتيب فصولها هكذا: 73 ـ 1 ـ 2 ـ 116 ـ 3 ـ 84 ـ 4 ـ 71 الخ…
وفي المثال على الملفّ الثاني، ثمة اعتراف ماركيز العلني أنه كتب ‘ذكريات عاهراتي الكئيبات’، 2004، بدافع الحسد الشديد من رواية ‘منزل الجميلات النائمات’، للروائي الياباني الكبير ياسوناري كاواباتا (1899ـ1972)، الحائز على نوبل الآداب لعام 1968. كما أقرّ ماركيز بأنّ روايته كانت تسعى إلى تحقيق حلم قديم هو مجاراة تلك الرواية اليابانية، بدليل أنه عاد إلى ذاك الحلم بعد توقف عن الكتابة الروائية دام قرابة عقد كامل، تفرّغ فيه لإنجاز سيرته الذاتية المعروفة. ولهذا، ليس ثمة ما يمنع من وضع ماركيز وجهاً لوجه أمام كاواباتا، في ساحة مقارنة أقرب إلى المفاضلة، وأشبه بغربلة فنّ لصالح فنّ آخر، أو ربما تصفية عبقرية إزاء أخرى كما يحدث في نهائيات الرياضات الكبرى. أميل شخصياً، وإذا جاز اللجوء إلى لعبة كهذه، إلى ترجيح كفّة الروائي الياباني في موضوعة أولى حاسمة وكونية، هي الشيخوخة وإغواء العذرية؛ وترجيح كفّة الروائي الكولومبي في موضوعة، ليست أقلّ حسماً وكونية، هي الاستبداد الواقعيّ ـ السحري.
كان كاواباتا ثالث ثلاثة عمالقة تربعوا على سدّة الرواية اليابانية في النصف الأوّل من القرن العشرين (إلى جانب جونيشيرو تانيزاكي وسوسيكي ناتسومي)؛ ولكنه كان الوحيد الذي طوّع التقاليد الأدبية اليابانية لكي تتصالح مع معطيات انقلاب البطل الملحمي إلى ‘شخصية’، وما يعنيه ذلك من مواجهات مع مقولة ‘النفس′، وما يستدعيه من رموز وموضوعات وطرائق سرد. وأمّا ماركيز، بوصفه أحد كبار آباء الواقعية السحرية، فإنّ نجاحاته الباهرة في دمج الواقع بالفانتازيا لم تكن تستهدف، عن سابق قصد أوّل، تحدّي قيود النوع وكسر أعراف الواقعية كما استخدمها الخطاب الغربي في سرد تاريخ الإمبراطورية؛ بل كانت، جوهرياً وبادىء ذي بدء، تردّ إلى المركز الإمبريالي ذلك ‘البريد الحداثي’ القائم على سرديات محلية واقعية تماماً، ممهورة مع ذلك بعجائب قرية ماكوندو، وببطاركة في خريف عمر غرائبي، وجنرالات ليس لديهم من يكاتبهم…
ويبقى أنّ قراءة ماركيز بترجمة راباسا لا تعادل قراءته في أية ترجمة إنكليزية أخرى، ولا مبالغة في إنّ الروائي الكبير يدين لمترجمه الكبير بقدر من الفضل يوازي الكثير من فضائل الأعمال ذاتها. كذلك يبقى أنّ حال الحسد التي سكنت المعلّم الكولومبي تجاه المعلّم الأسبق، الياباني؛ أسفرت عن رياضة اغتناء فريدة، ظلّ الرابح الأكبر فيها هو ذلك القارىء العريض، المتباعد/المتقارب، والمنفرد/الكوني.