الموضوع: مِشْماس أمّي
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
1148
 
نهـاد الـرجوب
من آل منابر ثقافية

نهـاد الـرجوب is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
74

+التقييم
0.02

تاريخ التسجيل
Mar 2015

الاقامة

رقم العضوية
13699
12-30-2020, 11:31 AM
المشاركة 1
12-30-2020, 11:31 AM
المشاركة 1
افتراضي مِشْماس أمّي
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
مِشْماسُ أُمّي

كل المارين في الشارع الرئيسي كانوا يرون مِشْماس أمي...
المشماس؛ كانت هكذا تطلق عليه أمي، إنما أنا لا أعرف ما اسمه حتى الٱن، وهو فعليا الرصيف الواسع خلف سور بيتنا القديم وسط القرية كان مكونا من المربعات والمستطيلات التي رسمتها أمي خلف سورنا المطل على الشارع بأنواع متعددة من المواد التي تحتاج للفرد على الأرض لتنشيفها تحت الشمس، أغلب هذه المواد تستخدمها للطابون أو للتدفئة، لكنها ومع ذلك لم تتعدَّ على حق الشارع رغم اتساع المشماس.
بعض المربعات كانت مخصصة للـ (جفت)، وهو مخلفات الزيتون بعد عصره لاستخراج الزيت، كانت تفرده على الأرض ليجف وتستخدمه فيما بعد للتدفئة، أو لتخلطه مع روث الحيوانات وتضعه حول "قحف" الطابون وتغمره بورق الشجر فيحترق ويجعل الطابون أكثر حرارة ويظل طيلة اليوم حاميا.
و"القحف" هو المكون الأساسي للطابون، كانت تصنعه أمي من الطين، من التربة الحمراء التي تشبه الحناء الأحمر في جمالها ولونها. تحفر طبقات متعددة في التراب لتصل إليها، تعجنها بالماء وتخلط معها التبن لتتماسك، ثم تصنع دائرة على سطح منزلنا، يعتمد حجم الدائرة على رغبة أمي في تكبير القحف ليسع عدة أرغفة مرة واحدة، ثم تضع الطين على خط الدائرة مشَكِّلة أساس القحف بارتفاع خمسة سنتمترات، وتتركه ليجف ثم تعود عصرا لترفع خمسة إضافية، وفي اليوم التالي ترفع الباقي وتتركه عدة أيام ليجف تماما، وفي اليوم الأخير تصنع له في قمته انحناءً بالطين للداخل بما لا يتجاوز الأربعة سنتمترات، هذا الانحناء يُصنع ليرفع الغطاء المعدني ويمنع دخول الرماد لداخل الطابون، والغطاء غالبا مصنوع من المعدن يؤخذ من أغطية البراميل الحديد وتلحم فيه قطعة عمودية في منتصفه، يوضع على القحف ليحفظ حرارته.
بعد أن يجف القحف بشكل كامل تنزله أمي عن سطح المنزل وتخصص له مكانا مناسبا في غرفة مسقوفة بالحديد، غالبا يكون في زاوية الغرفة ليكون الحيز أكبر أو في "سقيفة"، وهي مكان يشبه الغرفة من الحجارة مرصوفة بانتظام تشد بعضها بالطين والتبن ليتماسك البناء ومسقوفة بأعمدة خشبية مرصوصة بشكل أفقي وبعض الحطب يغطيها من الخارج أو الخيام أو صفائح الحديد، كان البعض يستخدمها للطوابين وبعضهم يسكنها لقلة البيوت ٱنذاك، أما أمي فكانت تستخدمها للطابون، تضع القحف في زاوية وتشعل النار لتشوي القحف ويصبح جاهزا للاستخدام فيما بعد، ولا أذكر ان القحف انكسر يوما، إذ إن كسره يعني ركاكة صنعه وسوء اختيار في نوعية الطين، وأذكر جيدا أن أمي كانت تصنع اربعة أو خمسة "قحوف" لها ولنساء القرية اللواتي لا يجدن صناعتها، إذ إن أمي اشتهرت بصناعتها ببراعة، وفيما بعد تعلمت صناعة القحف بالإسمنت، تبين لها أنه الأفضل والأكثر صلابة، فصنعت لها ولكل من ترغب بشكل احترافي علّمته فيما بعد للأخريات.
كذلك كانت بعض المستطيلات المرسومة خلف سورنا مخصصة لروث الأغنام، تجمعها من مَهاجِم الرعاة في الخلاء، أذكر أننا ذهبنا معها عدة مرات أنا وأخي زياد حينما كنا صغارا لمنطقة في أعلى الجبل المطل على بيوت قريتنا، كانت ترى نارا توقد في الليل لعدة أيام على قمة الجبل، وهذا يدلها على أن مَهجَم هؤلاء الرعاة هو في هذا المكان. ( المَهجَم) هو مكان يجمع فيه الرعاة أغنامهم ويضعون أغطيتهم وأوانيهم البسيطة في مكان يضمن لهم البقاء مدة طويلة منذ بداية الصيف إلى أوائل الشتاء.
كل فترة تذهب النساء إلى هذه المهاجم تجمع روث الأغنام ليستخدمنها للطوابين، المكان لا شك بعيد عن القرية ويحتاج لدابة لحمل الأكياس، والطرق وعرة ، أو بالأحرى هي مسارب وليست طرق. وفي غالب الأحيان كانت أمي تحملها على رأسها من قمة الجبل إلى البيت. أو تستعير حمارة إحدى صديقاتها.
كانت أمي تصطحبنا أنا وزياد ليس لنجمع معها الروث ولكن لنؤانسها في وحشة المكان، وحينما نعود مساء تترك الأكياس تحت الزيتونة بجانب الطابون وتقول لنا " هينا أمّنّا مونة الطابون لأسبوع" .
وفي اليوم التالي تكنس المشماس خلف سورنا وتفرد أكياس "الزبل" المنقاة حتى من الحصى، وتشمسه ليومين أو ثلاثة حتى يجف، وفي موسم الزيتون كذلك تنشف الجفت، وتجمع أوراق الشجر، وتجمع روث البقر المرمي في أكوام كبيرة في أراضٍ قريبة لقريتنا، تسمى طبقات هذا الروث بـ "الشُّحَفْ"، تضعها كذلك في أكياس بعد تجفيفها تحت الشمس، تقسم كل صنف في أكياس منفصلة وحين "تُزْبِل" طابونها تخلطها جميعها في دلو كبير، تصنع دائرة حول قحف الطابون تزيل منها النار والرماد وتزيل عن الغطاء كذلك قسما كبيرا من النار والرماد، تضع أولا حول القحف قطعا من الشحف واثنتين فوق الغطاء، ثم تهيل الدلو من فوق الغطاء ليغطي كامل المساحة، وتكثر من الجفت ليصبح أكثر حرارة، ثم تسحب النار الموجودة منذ الصباح حول القحف وتسحب الرماد فوق المكونات وبهذا يبدأ الاحتراق وتنبعث الروائح من دخان الطابون، يقتل كل الحشرات مثل البعوض والذباب، حينما يتصاعد ليلا يعطيك شعورا بأصالة القرية، كنا نميز من خلال رائحة الدخان أن هذا الدخان من الجفت أو من الحطب المخلوط مع الروث أو حتى من الملابس القديمة.
كانت غالبية بيوت قريتنا لها طوابين، من النادر جدا ألا تجد امرأة بلا طابون.
ومن النادر أن ترى امرأة ليس لديها مِشْماس حول بيتها لتجفيف الروث أو الجفت
ومن النادر جدا ألا يستخدم أحد الجفت أو يظل الجفت في المعاصر ليهترئ او يتعفن.
كانت أمي تضع الحطب أيضا في الشتاء وبعد أن "يهجم" الطابون، أي بعد أن يكتمل احتراق المكونات وينتهي الدخان و"يتساقط" أي تصبح حرارته مقبولة نوعا ما ويصبح جاهزا للاستعمال، كانت تأخذ من أحد جوانبه نارا من الحطب والجفت وتضعها في الكانون لنتدفأ بها. كانت تضع البيض ملفوفا بورق مرطب بالماء لتشويه في "ساس" الطابون أي حول القحف تحت الرماد والنار، وتضع البطاطا في داخله على "الرضف"، والرضف هو الحصى الموضوعة داخل القحف توضع تحتها قطعة حديد أو على الأرض مباشرة يرفع رغيف العجين عن الأرض ويعطي نتوءات في الرغيف تسهل عملية نضج الخبز، و"تقلع" الخبز بعد ذلك، أي ترفعه بعد نضجه من داخل الطابون وتضعه في "المرضفة" وهي الجزء المخصص لوضع الخبز بعد استخراجه من الطابون، مكونة من عدة أحجار فوق بعضها مرصوفة بعناية ومغطاة بالطين من كل جوانبها لترتفع عن الرماد والغبار، يوضع فيها الخبز حتى يبرد وتزال الحصى منه ويجمع في طبق من القش أو صينية معدنية مخصصة للطابون، وفي البيت كانت تلفه أمي بقماشة قطنية وتضعه في "الكِنِف"، والكنف قطعة على شكل خريطة مصنوع من الغَزْل من شعر الماعز النظيف المصبوغ بعدة ألوان المغزول بطريقة بدائية مدهشة، كانت جدتي قد صنعته قديما، تخيط أمي داخله بقماش قطني لتحافظ عليه من التلف ويظل نظيفا، وتعلقه على حائط المطبخ تلف الخبز وتضعه فيه فيظل طريا طازجا ليومين، ورائحته جميلة جدا تفتح الشهية للأكل بشراهة حتى لو كان الاگل مقتصرا على الخبز الساخن والزيت والشاي، أما إن كان الزيت أول ثمار السنة، فالوضع خرافيا لا محال.
نهاد الرجوب
من سلسلة: أمي أجمل نساء الأرض
يتبع