عرض مشاركة واحدة
قديم 12-24-2017, 10:44 AM
المشاركة 9
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
فعل الشعر ...


بين الموقف والموقع


عبد اللطيف عقل

رفيقي القارئ..
لا تقرْاني ولكن تقرّاني فإن الزهور على عهدها تمارسُ فعل النمو والطيور فعل الغناء، الزيتون منذ كان الزمن وهو يَفعلُ العطاء تماماً كما تفعل العطاء والبشر النوارس وأقواس قزح.
الأطفال هنا يفعلون الوعود والابتسامات كما يفعلون الدموع والحزن، كل شيء هنا مستغرق في دائرة الفعل، نحن لا نفكر ولان نتأمل ولا نحلل، إننا نفعل كل هذه، وأنا مثل هؤلاء، أمارس فعل الشعر، أنا لا أكتب الشعر ولا أقرأه إنني أفعله تماماً كما يفعل أطفال فلسطين ألعابهم من الطين والحزن....
إنني في موقف الفعل لأنني في موقع التراب الأول.. ولك بعدها أن تحلل فعل الشعر كما تشاء....
أنا لا أنفعل لأنني قد انفعل بدون الفعل، إن التجربة التي تدفعني إلى أحضان الفعل لا أحسبها، واعتقد أنني لست ذكياً، إن الفلاحين هنا لا يعرفون التحليل كما لا يعرفون ظاهرة الضغط الأسموزي، إنهم يفعلون فقط، يحرثون ويجدرون، ويتزاوجون، وفي البيادر يفعلون الحصاد ويزورون المدن ويعودون بالحلوى والملابس والسَام....
إنهم يفعلون الموت كما يفعلون الحياة نصفاً بنصف، يندفعون في المأتم كما تندفع السيول في الجهران أيام المطر، حتى مع الله يفعلون التقوى بالقدر البسيط الذي يفعلون فيه الفسق. كل شيء هنا بدائي تقريباً، اللغة في بدئها والكتابة كذلك، الموت والحب والشعر كما المطر، أفعال فحسب ما تشوهت بالتحليل المحدد وما تساوقت مع قوالب الفكر والمنطق.
وهكذا أفعل الشعر كما أفعل الموت، وكما أفعل الحب، إن موقعي يفرض هذا الموقف لذلك لا أجد الفواصل في بين الموت والحب والشعر، تستطيع أن تراني خلل فعل منها، حللني ان شئت، لكنك لن تكتشف موهبتك في سوء النية، اقرأني، لكنك لن تعجب بلون عينيك، إلا إنني سأمنحك ساعة دفء فأقول إنك قد تراني في درجات الفعل المختلفة، تماماً كما ترى الرسام في لوحته ذات اللون الواحد، وسأقسم لك اللون في درجتين:


أ‌- درجة فِعل القصيدة
هنا يصير الشعرُ فرحا، ونحن هنا نفرح بالمناسبة، يوم تتقاطر الفلاحات في أوائل الزيتون والمطر، يوم تتقاطر الجمال والأطفال في أواخر الصيف بين حقول القمح والبيادر، يوم تدخل تلميذات المدارس أو يخرجن في جوقة يحرسها اللون الأخضر المخطط بالوعي، يوم ينور اللوز ويحصرم العنب، إنني أفعل القصيدة يوم تفعل طبيعتنا الجمال، واترك الأصوات تندرس في روحي وعلى الورق. إنني أندمج في فعل شعري بسيط وأصير موسيقى مباشرة كما هو العرس في ساحة القرية، فعل العرس يمتلئ بالضجيج والفرح والنشاز، وهكذا ستتقراني في قصائد (صفحات من يوميات عاشق) وفي ( قصيدة قديمة عن رحيل جديد)..
هنا أفعل الفرح أو الغضب، أو الرفض بالشعر، وأراني وكأنني أطفو على سطح موقعي كما تطفو أوراق الزيتون وأزهار اللوز على صفحة الأفق الزرقاء وارتبط بالأشياء والأحداث بعلاقة الفرح الواعد بالحب، إنني أتوحد بها حقيقةً يفسدها المجاز، وهكذا تتحدد الصورة بتوزيع خفيف للنور والظل وتكون الألوان سابحة فيَّ في مباشرة لا يودُها ساكنو المقاهي ومحترفو اللعب بالأشياء. لا يُهمّني أنني أتقدم أو أتأخر، أو أنحرف يميناً أو يساراً لأن ممارسة الفعل تفترض الحركة الحرة وأنسى تسميات النقاد. ففي هذه المجموعة قصائد، كما أنه في ما حول قريتنا زهور وأعشاب....

ب‌- درجة فعل الشعر:
في الطريق إلى القدس، تغيم المرئيات، وتنسد أمامك نوافذ الفرح فتهاجمك إبر الشعر، وتنزلق في روحك أظافر مدببة تستنزف الأعصاب.. فيلد فيك فعل الشعر، وتنصب على الورق، والحب يمطر في أعماقك أحزان الزيتون ...
تتحلق الأطفال في الطرقات المسيجة بأحذية الجنود الثقيلة، ويتوارى اللوز الأخضر من العيون الصغيرة وينشأ فيك فعل تلونه موسيقى الكلمات البدائية، وهنا يعتنق الحب الموت كما تعتنق جذور التين خصور التراب الأحبَل بالخصب.
في درجة فعل الشعر، يندغم التاريخ في لحظة وتصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة بين جامع الجزار، وسوق البصل.
وهنا أجدني وكما يؤكد الرفاق أكثر اللقاءات إنني في الغموض، أو أنني على الحافة، اوانني مسور بالحزن حيناً، والخوف أكثر الأحيان، لكنني وكما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة أنفجر في كلماتي، وكان يمكن أن تكون هذه الكلمات مقدمة عن تجربتي الشعرية بعد أربع مجموعات، وهي ليست كذلك، إنها كما تراها إشارة حادة إلى المدخل الشعري، وان أي فنان أصيل لا يستطيع أن يزيف موقفه كفنان لأن قانون موقعه لا يرحم، ولو كنت في بيروت لكان في لغتي طعم أعقاب السجائر ممتزجاً بكل المصطلحات المفرغة الا من الطلاء الخالب.
ولعلهم هناك على حق، ولكنني لست بالقاصر عن الردح والتسكع، إنها الأحزان الجميلة التي تختلط بالطحالب على حيطان سور القدس المنهوب...
إنني أسير الابتسامات العفوية في شفاه الأطفال المنعوفين على الطرقات من رأس الناقورة إلى رفح، هنا يكون لفعل الشعر مذاق الموت، ذلك بالنسبة لي واضح وضوح القتل، ان فعل الشعر هنا معتق وعمره عمر الزمن الساكن في حارات عكا، وهو حدث يومي اتشربه في عيون التلاميذ كل صباح، وقد لا أكون مفهوماً، حسبي أن أكون محسوساً، إن قرنا كاملاً تقريباً من السياسة والظلم يفقدني مقدرتي على استخدام الذاكرة، وان كل الأرقام على ذلك محفوظة في التلافيف فما قيمة أن تكون على الورق، إن هذا التاريخ العاهر يضعني في قلب الشعر فعلاً حزيناً من أفعال الحب، فهل نحن متصوفون؟ وما الضرر في ذلك ما دام فعل الشعر يوحدنا بالأحداث من الطلوع إلى المغيب، ولا يترك لنا فرصة التبويب والتحليل...
نحن هنا خارج اللعبة بعد، لا نتحدث عن البطولة ولكننا نفعلها، كلنا هنا نفعل البطولة، نفعلها كما نفعل التنفس والتدخين، ولا خيار لنا فليس فعل الشعر تطريزاً لثيابنا إنه الذي يسير العودة فينا، وهو ليس الكحل المجمل لعيون التلحميات وبنات حيفا، انه البؤبؤ الذي به الرؤيا .. وأنا لست ادري متى سقطت أريحا وغزة لأنني كنت في السقوط ... وخير لي ورفاقي القراء هنا وهناك أن أترك أمر السقوط وتحليله إلى أبطال اللعبة في المقاهي، ليعمر شارع الحمرا بالنساء والفكر... خذوني من هنا، من القلب، فإن الصحف في القاهرة وبيروت وعمان بحاجة إلى مادة نظيفة... لست شاعراً حديثاً ولا قديماً، لست رومنسياً ولا واقعياً، لست ذاتياً ولست موضوعياً، لأن فعل الشعر يحتوي كل ذلك ويصير البديل ولكن في مناسبة للحديث عن الشعر والتصوير والموسيقى، لكم ان تحبوا أوزان الشعر وقوافيه، ولكم أن تستعرضوا قدرتكم على التأويل ولمس التجربة الشعرية وتحليل عناصرها وابحثوا ما شئتم عن الصورة، والمضمون والأصالة والخيال.. فذلك شأنكم، أما هنا فلا يوجد إلا فعل الشعر في مستوى القصيدة وتحت اعتبار الفرح الواعد، ومستوى فعل الشعر يوم يصير الموت كالحب وأراهما في وضوح القتل.
والآن رفيقي القارئ، تستطيع ان تبدأ القصيدة الأولى من قصائد، الحب الذي لا يعرف الرحمة، هذا الحب الذي قال التاريخ وقالت السياسة أنه مات، له قلب كبير، كبير جداً يتأبى على الموت ويرفض الآخرين كما يرفض التراب الأصيل البذور اللقيطة بها.


نابلس


أول أيار 1975

--------------------


هل عرف عبد اللطيف عقل السر؟


الموت والحب ولحظة الوجد وفعل الشعر كما يراها عبد اللطيف عقل في مقدمة كتابة " قصائد عن حب لا يعرف الرحمة"

بقلم: أيوب صابر

الذي يعرف عبد اللطيف عقل يعرف انه كان يجيد فن النثر كما كان يجيد نظم الشعر، ولديه القدرة حينما يكتب على التأثير في كل الأشياء الساكنة حوله وضمن دائرة بحجم الكرة الأرضية، لا بل وتحريكها فلا تعود ساكنة و ليست هي، هي، وكأن تغيرا قد طرأ على مكوناتها وجزيئاتها البنيوية... ويمتد اثر ما يقوله إلى مجرات أخرى وعبر الزمن إلى مستقبل بعيد، بعيد جدا...هو يكتب بلغة من زمن آخر، زمن لم يأت بعد ولذلك يجد الدارس والمحلل لما يقوله انه كان يسبق عصره في رؤية الكثير من الأمور المستقبلية بعين ثاقبة، شأنه شأن كل شاعر امتلك تلك الطاقة البوزيترونية المهولة واللامحدودة في قوتها، والتي تدفقت في ثنايا ذهنه كنتيجة لمآسي طفولته المتعددة، فجعلته قادرا على الاستشراف والرؤيا بعين ثاقبة.

وهو هنا، في مقدمة كتابة" قصائد عن حب لا يعرف الرحمة"، يقول للمتلقي الكثير، سواء بوعي أو من غير وعي. والصحيح أن الكثير مما يقوله المبدع، وعبد اللطيف عقل ليس استثناءا، يصدر عن عقله الباطن، ويكون مفاجئ للمبدع نفسه في أحيان كثيرة.
فمن ناحية نجد عبد اللطيف عقل في هذا النص يربط بين الموت والحب والشعر، ويكرر ذكر الموت في أكثر من موقع، ويصوره كقوة فاعلة ومحركة، وكأنه يعرف أو ربما انه كان يستشعر بأن الموت الذي حرمه الأب، ومن ثم الأخت الكبرى، لا بد انه كان سببا في قدرته على النظم المهول، والكتابة الفذة المزلزلة، والتي تشتمل على الكثير من التجليات والرؤيا الثاقبة، وحتى لحظات الوجد التي جعلته ينظر إلى نفسه بأنه صوفي ربما. ومثال ذلك يقول:
" إنهم يفعلون الموت كما يفعلون الحياة نصفا بنصف"
" الموت والحب والشعر كما المطر أفعال فحسب "
" وهكذا افعل الشعر كما افعل الموت والحب والشعر"
" إن موقعي يفرض هذا الموقف لذلك لا أجد الفواصل في بين الموت والحب والشعر".
" وهنا يعتنق الحب الموت كما تعتنق جذور التين خصور التراب الاحبل بالخصب"
" هنا يكون لفعل الشعر مذاق الموت"
ومن ناحية أخرى، يبدو عبد اللطيف عقل بأنه يصف لنا هنا لحظة ولادة القصيدة وما يعتمل في ذهن الشاعر في مثل تلك اللحظة، وكأنه يستشعر لحظة الوجد تلك، التي يتحدث عنها الشاعر الأمير عبد الله الفيصل أيضا في أكثر من موقع، والتي تشابه لحظة الوجد عند الصوفية. وفي ذلك ما يشير إلى ويفسر طبيعة الطاقة التي تكمن وراء الإبداع حيث يقول" هنا أفعل الفرح أو الغضب، أو الرفض بالشعر، وأراني وكأنني أطفو على سطح موقعي كما تطفو أوراق الزيتون وأزهار اللوز على صفحة الأفق الزرقاء وارتبط بالأشياء والأحداث بعلاقة الفرح الواعد بالحب، إنني أتوحد بها حقيقةً يفسدها المجاز، وهكذا تتحدد الصورة بتوزيع خفيف للنور والظل وتكون الألوان سابحة فيَّ في مباشرة لا يودُها ساكنو المقاهي ومحترفو اللعب بالأشياء. لا يُهمّني أنني أتقدم أو أتأخر، أو أنحرف يميناً أو يساراً لأن ممارسة الفعل تفترض الحركة الحرة وأنسى تسميات النقاد. "
ويقول بهذا الخصوص أيضا:
" في درجة فعل الشعر ينعدم التاريخ في لحظة وتصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة ".

ويقول :
" وهنا اجدني وكما يؤكد الرفاق في أكثر اللقاءات إنني في الغموض، أو أنني على الحافة، أو أنني مسور بالحزن حيناً، والخوف أكثر الأحيان، لكنني وكما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة أنفجر في كلماتي".

ويقول:
"إن هذا التاريخ العاهر يضعني في قلب الشعر فعلاً حزيناً من أفعال الحب، فهل نحن متصوفون؟"
وهنا نجده يصف لحظات ولادة القصيدة فهو يرى نفسه وكأنه يطفو على سطح موقعه ويرتفع إلى صفحة الأفق الزرقاء، وهو يشعر في تلك اللحظة وكأنه يرتبط بالأشياء والأحداث بعلاقة الفرح الواعد بالحب، ويتوحد بها ولا يُهمّه وهو في مثل تلك الحالة أن يتقدم أو يتأخر، أو ينحرف يميناً أو يساراً وهو ما يشير أن طاقة مهولة قد أصبحت المسيطرة على كيانه ربما كنتيجة لتغير كيماوي حدث في دماغه جعله أشبه ما يكون بكائن ما ورائي له قدرات خارقه تجعله قادرا على التحليق وربما الطيران خارج نواميس الطبيعة. ولذلك ينعدم التاريخ والزمن ويصبح كله في لحظة واحدة كما تصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة واحدة وهو ما يشير إلى انتفاء المكان أيضا".
ومن الطبيعي إذا والحال كذلك أن يأتي كل فعل يحصل أثناء سيطرة مثل تلك الحالة الماورائية مهولا، وأن يكون عبقريا، مدهشا، وأحيانا غارقا في الغموض والغرابة والرمزية، وربما النبوءات التي تظهر على شكل كتابات كودية. كيف لا وقد انعدم الزمن وأصبح كله في لحظة واحدة، كما انعدمت الأمكنة وأصبحت في نقطة واحدة.
ومن الطبيعي إذا أن يشعر الشخص الذي يمر في مثل تلك الحالة انه على الحافة، أو أنه مسور بالحزن والخوف في أكثر الأحيان، كما يقول عبد اللطيف عقل، وقد تحول فجأة إلى كائن بقوة ما ورائية لا محدودة. ومن الطبيعي أيضا أن تنفجر الكلمات كما يندفع الدم من فتحة الجرح الكبيرة ".

ومن ناحية ثالثة نجد عبد اللطيف عقل يقدم لنا نصا هو اقرب إلى أن يسمى " مدخل إلى فن الشعر"، حيث يشرح فيه سيكولوجية أو ربما الأصح أن نقول فسيولوجية ولادة القصيدة ومن أين تأتي، والسر الكامن وراء ولادة الشعر، إذ يقول:
" الموت والحب والشعر كما المطر".
ويقول :
" حين تتحلق الأطفال في الطرقات المسيجة بأحذية الجنود الثقيلة، ويتوارى اللوز الأخضر من العيون الصغيرة وينشأ فيك فعل تلونه موسيقى الكلمات البدائية"
ويقول:
" في الطريق إلى القدس، تغيم المرئيات، وتنسد أمامك نوافذ الفرح فتهاجمك إبر الشعر، وتنزلق في روحك أظافر مدببة تستنزف الأعصاب.. فيلد فيك فعل الشعر".
وكأنه يقول إن في ذهن الشاعر وكيانه فتيلة هي مصدر الطاقة اللامحدودة ، والتي أسميتها (طاقة البوزيترون)، وتتشكل تلك الفتيلة على اثر صدمة اليتم، والفجائع، والمآسي، أو ما يشبهها من أحداث وصدمات لا بد أنها تترك أثرا في ثنايا الدماغ، وتكون هذه الفتيلة مصدرا لا محدودا للطاقة الماورائية (البوزيترونية)، وهي النبع المتجدد الذي تنبجس منه القصيدة وكل عمل إبداعي قطعا وعلى الإطلاق.


تخبو هذه الفتيلة أحيانا في ذهن الشاعر اليتيم لكنها تظل في حالة جهوزية تامة للاشتعال المتجدد... ذلك الاشتعال الذي يشبه الوميض، والوهج العظيم، وكأنها من كون آخر سماوي، وهو يُوَلّدْ طاقة لا محدودة في قوتها، كما تم شرحه في نظريتي لتفسير الطاقة الإبداعية، فهو أشبه بلحظة الوجد التي ينعدم فيها المكان والزمان ويصبحا في لحظة ونقطة واحدة، كما يقول عبد اللطيف عقل:
"في درجة فعل الشعر ينعدم التاريخ في لحظة وتصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة" فيكون الشاعر عبقريا، فذا، ومبدعا، وكرزميا، وغامضا أحيانا لان كلامه يحتوى على كودات تحمل على لغة مستقبلية، لغة هي أشبه بلغة الرمز. ويظن نفسه ويظنه الآخرون على الحافة لأنه يتحدث بلغة أخرى من عالم ما ورائي، عالم انتفى المكان والزمان فيه وأصبحا في لحظة ونقطة واحدة فتكون كلماته ليست كالكلمات. وهذا تحديدا ما يفسر أيضا القدرة على الاستشراف، والرؤيا الثاقبة، أو ما يطلق عليه البعض نبوءات الشعراء، حيث تتجلي الكثير من الأمور المستقبلية للشاعر فينطق بها، فتحتويها نصوصه وتظل كامنة هناك إلى أن يتبدل الزمان ويصبح المستقبل حاضرا، فيأتي من يفتش قصائد ذلك الشاعر المبدع الفذ اليتيم فيجده قد تحدث في أشياء قبل وقوعها بزمن بعيد، وأحيانا بعيد جدا، ولكن في الغالب بلغة رمزية تحتوي على كودات غير مفهومة إلا في الزمان الذي تتحقق فيه الرؤيا أو النبوءة وتصبح واقعا.


ويبدو أن فعل الشعر أو ولادته يتكرر في كل مرة تتسبب شرارة ما، أو كما يصفها عبد اللطيف عقل أعلاه بإبر الشعر واظافره، في إشعال هذا الفتيل ولو للحظات، فتتشكل تلك الطاقة المهولة فتولد القصيدة...بل يندفع الشعر كما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة وتكون أشبه ما تكون بفعل انفجار، كما يصفها عبد اللطيف عقل أيضا، كونها آتية من مصدر طاقة لا محدودة حيث يقول:
" وهنا اجدني ...في الغموض، أو أنني على الحافة، أو أنني مسور بالحزن حينا، والخوف أكثر الأحيان، لكنني وكما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة أنفجر في كلماتي".
ويذهب عبد اللطيف عقل بعيدا هنا إذ يذكر لنا بعض مثل تلك اللحظات التي تقوم مقام فعل الشرارة والتي تتسبب في اشتعال ذلك الفتيل الكامن في ثنايا الدماغ فتتولد تلك الطاقة المهولة التي تقف وراء ولادة القصائد ومنها كما يقول"
" إنني في موقف الفعل الشعري ...لأنني في موقع التراب الأول"
ولا بد أن التراب الأول هنا يعنى الأرض المحتلة وذلك يعني أن كل ما يصدر عن الاحتلال من قهر ووجع وسجن وألم وحزن الخ...هو شرارة متجددة يمكن أن تجعل ذلك الفتيل يشتعل من جديد.

وأحيانا أخرى تكون لحظات الفرح والجمال عند عبد اللطيف عقل هي تلك الشرارة التي تشعل فتيل الطاقة اللامحدودة كما يقول:
" هنا يصير الشعرُ فرحا، ونحن هنا نفرح بالمناسبة، يوم تتقاطر الفلاحات في أوائل الزيتون والمطر، يوم تتقاطر الجمال والأطفال في أواخر الصيف بين حقول القمح والبيادر، يوم تدخل تلميذات المدارس أو يخرجن في جوقة يحرسها اللون الأخضر المخطط بالوعي، يوم ينور اللوز ويحصرم العنب، إنني أفعل القصيدة يوم تفعل طبيعتنا الجمال، واترك الأصوات تندرس في روحي وعلى الورق.
وهو في هذا النص يصف لنا أيضا لحظات فعل القصيدة أي ولادتها، ففي مثل تلك اللحظة يترك عبد اللطيف عقل "الأصوات تندرس في روحه وعلى الورق"...ولا بد أن تلك الأصوات التي يتحدث عنها عبد اللطيف عقل هي حالة نفسية أو ربما فسيولوجية أو كهرومغناطيسية تنتج عن لحظة الوجد التي هي لحظة اشتعال الفتيل، فتتولد تلك الطاقة اللامحدودة، فيلتقي الزمان والمكان في لحظة ونقطة واحدة... فيتحول الشاعر إلى كائن ما ورائي خارق يتقمصه وحي الشعر، وهي لحظة أشبه ما تكون بلحظات الوجد التي يتحدث عنها الصوفيون ويفسرونها على أنها ذوبان نقطة الماء بماء المحيط وفعل من أفعال الحب والتوحد. تلك الحالة أجاد الشاعر الفذ عبد اللطيف عقل في تصويرها ووصفها حيث قال:
" وأراني وكأنني أطفو على سطح موقعي كما تطفو أوراق الزيتون وأزهار اللوز على صفحة الأفق الزرقاء ....لا يُهمّني أنني أتقدم أو أتأخر، أو أنحرف يميناً أو يساراً لأن ممارسة الفعل تفترض الحركة الحرة ".


ولا شك أن عبد اللطيف عقل وكونه صاحب طفولة مأساوية وقد مر فعلا بفجائع وصدمات عظيمة مزلزلة وهي موت الأب في الطفولة المبكرة ثم موت الأخت ثم زواج ألام والسجن اضافة الى سلسلة هائلة من العذابات المصاحبة لمثل ذلك اليتم المكثف...وعليه نجده قد امتلك فتيل عظيم كان مصدر طاقة هائلة، لا متناهية، وظل في حالة اشتعال دائمة، فتارة بسبب جمال الطبيعة في فلسطين، وتارة أخرى بسبب كثرة ابر الشعر كما يقول هو وأظافره، في ظل فقر وبيوت صفيح ونكبات وهزائم وبسبب الجراد الذي تسبب في الكثير من الأحزان، والمآسي، والأوجاع التي كان يراها عبد اللطيف عقل في عيون الأطفال الذين كان يعلمهم في المدارس الابتدائية، ولذلك نجده عاش الكثير من لحظات الوجد والانفجارات الشعرية والنثرية بلغة رمزية اشتملت على استشرافات ونبوءات والكثير من التجليات المستقبلية والنبوءات التي تزخر بها كتاباته.

فنجده مثلا في هذه المقدمة والتي كتبت في العام 1975 يتحدث عن سقوط غزة وأريحا حيث يقول :
"...ليس فعل الشعر تطريزاً لثيابنا إنه الذي يسير العودة فينا... انه البؤبؤ الذي به الرؤيا .. وأنا لست ادري متى سقطت أريحا وغزة لأنني كنت في السقوطوكأنه كان يشير هنا وبقدراته الماورائية البوزيترونية الخارقة إلى اتفاق غزة - أريحا أولا، والذي تم توقيعه بعد تاريخ تلك الكتابة بسنوات عديدة، ويبدو انه كان يعتبره فعل من أفعال السقوط.

ربما كان عبد اللطيف عقل يعرف سر ولادة القصيدة ويعرف سر الوجد... وان لم يكن يعرف فلا شك انه في شرحه اللاواعي عن فعل الشعر فتح لنا أبواب المجهول لنتعرف نحن على السر.. وكل ما قيل هنا يؤكد على انه شاعر مبدع، وفذ، وعبقري، ذو رؤية ثاقبة وبعد نظر، وكرزما طاغية، وله قدرة على الاستشراف والرؤية المستقبلية، وانه قد امتلك طاقات ذهنية لا محدودة جعلته يعيش لحظات من الوجد انتفى فيها الزمان والمكان فانكشف له الزمن القادم وانفجرت الكلمات على شكل قصائد مزلزلة...ولا شك إننا سنحتاج لسنوات عديدة قادمة حتى نتمكن من فكفكة لغته الرمزية وسبر أغوار نصوصه والنفاذ إلى أعماق ما سطره شعرا ونثرا.

.