عرض مشاركة واحدة
قديم 01-22-2012, 04:35 PM
المشاركة 218
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
ثنائية الحب والموت في السيرة الذاتيةالعربية

الخميس, 12 أغسطس 2010



-مايا الحاج
يقبل الباحث جوزف طانيوس لبّس في كتابه «الحبوالموت من منظور السيرة الذاتية بين مصر ولبنان» (دار المشرق) على سِيَر مبدعين اختار دراستهم بشغف، فغاص في ذواتهم وحاول إظهارخفاياها عبر تعمّقه في دراسة موضوعين إنسانيين كبيرين يُمثلان حقيقتين موثقتين ومُختبرتين في الحياة البشرية المُعاشة: «الحبّ والموت».

يرى الكاتب أنّهاتين المسألتين الوجوديتين تجمعهما، على رغم التباين الذي قد نستشفّه من ظاهرالمعنيين، «علاقة خفية»، وهو عمل على كشف تلك العلاقة الملتبسة بين «الحبّ والموت» عبر دمجهما في دراسة أدبية نقدية واحدة تأخذ من السيرة الذاتية الأرضية الأساسية التي تقف عليها بغية الكشف عن الحقيقة الوجدانية لكاتب السيرة.

تتصدّرالكتاب مقدّمة كتبها الناقد أنطوان معلوف ويستهلّها بسؤال عام مفاده: «هل يعثرالإنسان على ذاته حين يكتب سيرته الذاتية، ونحن نعلم أنّ البحث عن الذات سعيٌ دائم على طريق لا نهاية لها؟». ويستشهد في المقدّمة بآراء معلّمي الفلسفة اليونانية مثل سقراط وأرسطوطاليس حول معرفة الذات ومن ثمّ يتطرّق إلى موضوع لبّس البحثي فيقول: «طه حسين وتوفيق الحكيم وعائشة عبدالرحمن وميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عوّاد وليلى عسيران.... تناول لبّس سِيَرَهم بالبحث الجادّ، أدباء وأحياناً شعراء. ننحني عليهمانحناءنا على ذواتنا، لا نطلب منهم إلاّ التمتّع بتلك اللحظات النادرة التي يُخيّلفيها للإنسان أنّه التقى ذاته العميقة ولو لمحة بصر في ما يُشبه الكشف والتجلّيوالدخول في الحضرة».

يُعيد المؤلف اختياره أسماء مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عوّاد إلى كونهم يُشكلّون معاً روّاد نهضة السيرةالذاتية الفنية في الأدب العربي الحديث، خصوصاً أنّ تجربة كلّ واحد منهم تعرض «لوناً من ألوان الحبّ ووجهاً من وجوه الموت». ويرى أنّ معاناة الموت تختلف بين شخصوآخر، وبالتالي فإنّ ماهية الموت وأوجهها قابلة للتغيّر والتبدّل. أمّا هدفه مناختيار الأديبتين المصرية عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) واللبنانية ليلى عسيرانكنموذجين إلى جانب الكتّاب الأربعة، فينصب في رصد التجربة النسائية العربية فيكتابة السيرة، لا سيّما أنّ كتابتهما الذاتية برزت جلياً انطلاقاً من ثيمتي «الحبّوالموت».

وارتأى الكاتب في التمهيد لدراسته الواسعة أن يقوم بتعريف دقيق لـ «السيرة الذاتية» بهدف إزالة الالتباس القائم حول معناها الأساسي. ولأنّ «التعريفعبارة عن شيء تستلزم معرفته معرفة أمر آخر» كما يقول الجرجانيّ، عمد لبّس الى تعريفالسيرة من خلال التعريف أيضاً بمصطلحات أخرى شبيهة لها لإظهار الفروق الدقيقة التيتُميّز السيرة الذاتية عن أخواتها مثل الاعترافات Confessions والمذكرّات Memoires والذكريات Souvenirs واليوميات Journal intime، والمقابلات Entretiens... ويرتكزالمؤلّف في تحديده لما يُسميه ميثاق السيرة على تعريف الناقد الفرنسي المتخصص في «الأوتوبيوغرافيا» فيليب لوجون الذي يعتبر السيرة الذاتية «سرداً نثرياً يقوم بهشخص حقيقي، حين يستعيد وجوده الخاص، مركّزاً على حياته الفردية ولا سيّما على تكوينشخصيته... والأنواع القريبة من السيرة الذاتية - كالمذكرات والسير والرواية الذاتيةوالقصيدة الوجدانية واليوميات والوصف الذاتي - لا تنطبق عليها شروط هذاالتعريف».

أمّا عن أسباب كتابة السيرة الذاتية فيحصرها الكاتب في خمسة أسبابهي: «التعبير عن أزمة روحية ما»، «البحث عن معرفة الذات»، «لذّة التعرّي»، «طلبالوصول إلى الآخرين»، «تحدّي الزمان ومجابهة الموت ونِشدان الخلود». إلاّ أنّالكاتب لا يتجاهل ندرة السِيَر الذاتية مقابل وفرة السير الغيرية في عالمنا العربي،بل يعمل على تحليل أسبابها والوقوف عندها والإسهاب في شرحها ودراستها، ومن ثمّيُقدّم رسماً بيانياً يوضح عبر جداوله مسار «السيرة الذاتية» في العالم العربي عبرسِير أشهر أعلامها.

ثم يُقسّم دراسته إلى ستة أبواب ويُخصّص كل باب منهالدراسة ثنائية «الحب والموت» من منظور السيرة الذاتية في أدب كل كاتب. في أدب طهحسين نجد أنّ الحب كان بمثابة القدرة الهائلة التي تبعث الحياة في الأموات، فهو كانيتحدّى موت أحبّائه بالتفكير فيهم والكتابة عنهم لأنّه يرى أن نسيانهم هو الموتالحقيقي. أمّا الموت في سيرة توفيق الحكيم فيقترن بالقلق ولا يُمكن أن يُجابه موتهالفعلي أو «قلقه» ذلك إلاّ بحبّه لفنّه وقدرته على الكتابة والإبداع. وكما أنّالكاتب ولج رحاب شخصية طه حسين عبر «آفة العمى» وتوفيق الحكيم عبر «القلق والصراع»،فإنّ الكاتب ارتأى البحث في موضوع «البيئة» كمفتاح لدخول عالم عائشة عبدالرحمن (بنتالشاطئ) ونقطة انطلاق لسبر تجاربها في الحبّ والموت. وهي التي يقول عنها لبّس إنّهاكتبت سيرتها الشهيرة «على الجسر» تحت وطأة الحب والموت معاً. فعائشة بدأت تدوينسيرتها بعد موت زوجها وحبيبها وأستاذها أمين الذي كانت تعتبره مدرسة إنسانية فائقةالأهمية في حياتها.

ويُلمّح الكاتب في دراسته لسيرة ميخائيل نعيمة من منظور «الحبّ والموت» إلى أنّ الأخير كان يرى في الحب النور وفي المرأة النجم الذي أضاءله دروب الفضيلة، واستطاع أن يندرج من الحبّ إلى المحبّة ولم يتمكّن من تجاوز هولالموت والتهوين من شأنه إلاّ من خلال إيمانه بعقيدة التقمّص. ويُقدّم الكاتب دراسةمعمّقة لفلسفة نعيمة في الموت نتيجة تجاربه المتعدّدة التي يأتي على ذكرها في سيرتهالمعروفة «سبعون»، بدءاً من موت جدّه وجدّته وعمّته وخاله مروراً بموت صديقه جبرانخليل جبران وأخيه الأصغر نسيب وصولاً إلى وفاة والديه ومن ثمّ أخيه هيكل.

وفي الباب الخامس يدخل لبّس عالم توفيق يوسف عوّاد عبر مفتاح «الجوع» الذي وسم حياته، فكان جوعه إلى النساء والحبّ والحياة والملذّات سمة شخصيته وحياته. وارتكز لبّس على البحث في سيرة عوّاد الذي لم يعرف غير الحبّ وسيلة يجابه بها الموت وكشف الخوف من فقدان الحياة بعدما ظلّ الموت بالنسبة إليه مشكلة وجودية لا حلّ لها.

ويختتم لبّس بحثه عبر دراسة «الموت في سيرة ليلى عسيران» وهي التي «صُبغت طفولتهاودُنياها باللون الأسود، لون السقوط والفراغ والموت». ومن ثمّ يوضح الكاتب عبرالفصل الثاني «الحبّ في سيرة ليلى عسيران» كيف أنّ الحبّ في حياتها جاء نتيجةمباشرة لتجربة الموت المبكرة، بمعنى أنّ معاناة ليلى عسيران في معاركها المتتاليةمع «عدوها اللدود» (الموت) دفعتها للبحث عن طريق آخر قد يُبلسم جراحها ويُنسيهامكابدتها ويُلوّن حياتها التي صُبغت بالأسود. ويستخلص الكاتب في خلاصته أنّ ليلىعسيران كتبت سيرتها «شرائط ملوّنة من حياتي» نتيجة فقدان أبيها ورحيلابنها.

في هذا البحث الأدبي الذي بلغ نحو 466 صفحة، استطاع الكاتب أن يتوصّلإلى حقيقة إنسانية وأدبية في هذا المجال مفادها أنّ ليس من حياة تخلو من حبّ وموت،وبالتالي فليس هناك سيرة تخلو من حبّ وموت. لذا، فإنّ علاقتهما الباطنية عميقة وليسكما يتبيّن لنا في ظاهرهما، هذا فضلاً عن أنّ هناك امتزاجاً - بحسب رأي الكاتب - بين نزوة الحياة ونزوة الموت من خلال ثنائية الساديّة والمازوخيّة. وكما أنّ الحبّيعيش صراعاً دائماً مع الموت، وهذا ما يُكرّسه نجيب محفوظ في «أصداء السيرةالذاتية» عندما يقول: «أشمل صراع في الوجود هو الصراع بين الحبّ والموت»، فإنّالحبّ والموت تجمعهما علاقة «تحالف وتكافل» أيضاً لأنّهما الحقيقتان الكبيرتان فيهذه الحياة. وهذا ما يؤكدّه محفوظ نفسه في سيرته قائلاً: «جوهران موكلان بالبابالذهبي يقولان للطارق: تقدّم فلا مفرّ، هما الحبّ والموت».